بثينة عليق*


مرة جديدة، تؤكد الانتخابات الإيرانية أنها حمالة مفاجآت، ما يشكل دليلاً إضافياً على رسوخ المشهد الديمقراطي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتطوره من دون توقف، وعلى إيمان الشعب الإيراني بأنه قادر على التأثير وصناعة الفرص ضمن مشهد سياسي متنوع تحت عباءة الثورة والنظام الإسلامي، وفي ظل قدرة معتبرة على تجديد النخبة السياسية.

تجدر الإشارة إلى أن معظم مواقع القرار الإيرانية تنتج من خلال عملية انتخابية. كما أن القوانين والأعراف حسمت عدداً من المسائل الأساسية الضرورية لاستكمال المشهد الديمقراطي، مثل تحديد مدة للرئيس لا تتعدى 8 سنوات لا يحق له بعدها أن يعاود ترشيح نفسه، وحجز مقاعد نيابية للمسيحيين واليهود والزرداشت في اعتراف لحقوق الأقليات، وتكريس مكان مرموق للمرأة في العمل السياسي. من الواضح أن صندوق الانتخاب له أهمية في إيران، وتشكل الانتخابات أحد محفزات التنافس والحوار وتقبل الآخر.

انطلاقاً من هذا الواقع، يبدو واضحاً أن لكل تجربة انتخابية تشهدها الجمهورية الإسلامية الإيرانية دلالاتها، وهو ما ينطبق على الاستحقاق الانتخابي الأخير الذي يمكننا بعد إنجازه أن نتوقف عند مجموعة معطيات، أبرزها:

أولاً: ارتفاع نسبة التصويت من 40% في الدورة الأولى إلى 50% يؤكد ما قاله مرشد الثورة عن أن الذين قاطعوا وامتنعوا عن التصويت ليسوا معادين للنظام الإسلامي، وأن انخفاض نسبة الاقتراع ليس مؤشراً على الاعتراض على النظام الإسلامي. قال الإمام الخامنئي: "لو ظن أحد أن هؤلاء الذين لم يدلوا بأصواتهم فعلوا ذلك معارضة للنظام فهو مخطئ".

التدقيق في الأرقام وفي وجهة التصويت يظهر أن الذين قرروا المشاركة في الدورة الثانية دون الأولى كانوا من التيارين، ما يدفع إلى الاستنتاج بأنهم انتخبوا إيماناً منهم بقدرتهم على إحداث فرق في المشهد الانتخابي.

تجدر الإشارة هنا إلى أن فترة 50 يوماً التي نص عليها الدستور لإجراء الانتخابات الرئاسية بعد الغياب المفاجئ للرئيس رئيسي، والتي حصلت خلالها كل مراحل الانتخابات، هي مدة قصيرة جداً، ولا تكفي للحشد والتشجيع والتعبئة على الانتخاب.

هذا الأمر يؤكد أيضاً أن انخفاض نسبة التصويت في إيران لا يختلف كثيراً عن حصوله في أي بلد آخر. الإحجام عن التصويت مرتبط بالظروف والتحديات والتعقيدات التي تترك أثراً كبيراً في مزاج الناخب، ولا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالموقف من النظام.

وكما قال الإمام الخامنئي، فإن انخفاض نسب الاقتراع له "أسباب أخرى". قد يكون من بينها عدم وجود مرشحين مقنعين للفئة المقاطعة أو شعور بالاستياء والإحباط من الأداء السياسي بشكل عام، وهو ما نلاحظه في العديد من الدول التي تعتبر نفسها من الديمقراطيات العريقة.

ثانياً: تشير النسب المتقاربة التي حصل عليها المرشحان بزشكيان وجليلي على نزاهة الانتخابات، فالتنافس حقيقي، وليس وهمياً. وقد حصل في ظل ضجيج إعلامي لافت وتجاذبات داخل إيران وتغطية كبيرة خارج إيران، نظراً إلى كونها لاعباً مهماً في تطور الأحداث في منطقتنا. وبالتالي، فإن ما يجري في داخلها وموازين القوى التي سترسو فيها ستترك أثراً في أهم القضايا المطروحة.

ثالثاً: ينتمي الرئيس الإيراني الفائز إلى العرق الآذري التركماني ووالدته كردية، وهذا دليل على أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية دولة انصهرت فيها القوميات المتعددة والمتنوعة، وأن مفهوم "الهيمنة الفارسية" على إيران ليس صحيحاً. لقد شكلت الهوية الإسلامية للدولة البوتقة التي انصهرت فيها كل المكونات التي حصلت على الفرص المتكافئة من دون أي عصبية.

كما أن محاولات المعادين لإيران، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، استخدام ورقة القوميات لزعزعة النظام باءت بالفشل، مع أن هذه الورقة تبقى دائماً من التحديات التي قد تكتسب أبعاداً جديدة مع استمرار وازدياد المحاولات الأميركية التخريبية.

رابعاً: أثبتت المناظرات والحملات الانتخابية أن لا محرمات في الانتخابات، وأن كل القضايا تطرح للنقاش بصوت عالٍ وبحرية ووضوح. الاتفاق النووي والقضايا الاقتصادية والسياسة الخارجية... كل هذه العناوين وغيرها طُرحت من دون أي تحفظ بعيداً من الصورة النمطية حول غياب الحريات في إيران، والتي تحاول الدعاية الغربية المضادة ترسيخها.

خامساً: أظهرت الطروحات التي عبّر عنها المرشحون أنَّ هناك مرونة بالتعامل مع المتغيرات من دون التأثير في الثوابت.

هناك دينامية في السياسة الإيرانية قادرة على استيعاب المتغيرات من دون التنكر للثوابت. الرئيس بيزكشيان كرر أكثر من مرة أنه يلتزم بتوجيهات القائد التي تمثل ثوابت الثورة. الالتزام بالثوابت هو الثابت. أما المتغيّر، فهو في طريقة مقاربة الثوابت، فلكل طرف مقاربته خاصة.

سادساً: تقبّل الجميع النتائج بسلاسة. وقد بدت إيران في اليوم التالي للانتخابات تستعد بكل مكوناتها لترتيب أوراقها للتصدي للتحديات العديدة والكبيرة. على الرغم من ذلك، يطرح كثيرون السؤال التالي: ماذا بعد الانتخابات؟

لا شك في أن إيران ستحافظ على ثوابتها، فنظام صنع القرار الإيراني يعكس هيكلاً للقوة غير مركزي، بمعنى تعدد مصادر صنع هذا القرار مع دور لرئيس الجمهورية الذي يستطيع وفق الصلاحيات الممنوحة له أن يطبع المشهد بقراءته ومقاربته الخاصتين، وهذا ما سيظهر خلال الأشهر القليلة المقبلة وسط ترقب إقليمي وعالمي، وفي مرحلة حساسة وخطيرة زاخرة بالأحداث والتطورات الهامة المرشحة إلى أن تترك مآلاتها آثاراً كبيرة في واقع المنطقة ومستقبلها.

* المصدر: موقع الميادين نت
* المقال يعبر عن رأي الكاتب