حالة العدوّ: من الصدمة والإنكار إلى الفشل والهزيمة
السياسية || خالد بركات*
برغم تباين الرؤى والمواقف داخل كيان العدوّ الصهيوني، وفي أوساط حلفائه، يتفق كل هؤلاء على توصيف السابع من أكتوبر تشرين أول 2023 باعتباره “الصدمة الأكبر" في تاريخ كيانهم و "ضرورة التعاون الوثيق" لإنقاذ مستعمرتهم - من نفسها ومن أعدائها – فثمّة إجماع في تل أبيب وواشنطن ولندن على شعار "الحرب هي الحل"، وأن إيران واليمن والمقاومة في لبنان وفلسطين والمنطقة تُشكّل "التهديد الوجودي" على المشروع الصهيوني. إنّ الخلاف بينهم على الطريقة والتكتيك والأدوات وليس على الطريق والهدف الاستراتيجي. يعلنون موقفهم في السّر والعلن، يقولون: كلّنا نكره إيران والسنوار ونصر الله والحوثي...ولكن!
ومع كل قذيفة أمريكية يُلقيها جيش الاحتلال على غزّة والضفّة وجنوب لبنان وسوريا، يتراكم الفشل الصهيوني الأمريكي، وتنزف الإمبراطورية من رصيدها وموقعها الاستراتيجي، ويحدث هذا في عالم يتغير بسرعة الصاروخ، فيما ينتظر "شيوخ النفط" ونظام "كامب ديفيد" و"مملكة وادي عربة" و"قطيع أوسلو" بشائر "النّصر الإسرائيلي على حماس"! لإن هزيمة "إسرائيل"، وفشلها، تعني فشلاً لكل أقطاب هذا المعسكر المأزوم والمصدوم، بل صار سلوك معسكر أمريكا يساعدنا على الوضوح وتحديد أطراف معسكر الأعداء والأصدقاء.
إنّ الحروب التدميرية، والهيمنة الاقتصادية والبلطجة السياسية، طبيعة ملازمة للاستعمار، فهذه قوى هندست أكبر عملية سطو مسلّح في التاريخ. لم تسرق فلسطين وثروات العرب وأحلامهم وحسب، بل استعمرت قارات وسحقت شعوب وقبائل. وتريد أمريكا، بالحرب، وفرض اتفاقيات الاستسلام، إعادة إنتاج "النظام الدولي الجديد" على هواها. فالحرب الشاملة وصفة مجربة وجاهزة، ومن لا تقوى أمريكا على قهره، بالسلاح والقنابل، تفرض عليه العقوبات والحصار وحرب التجويع، وبرغم كل ذلك، أمريكا اليوم مصدومة وحائرة.
لقد تغير ميزان القوى في منطقتنا مع بداية القرن الجديد، ويمكن تحديد نقطة التحوّل مع الانتصار التّاريخي الذي حققته المقاومة اللبنانية في أيار عام 2000 حين نجحت في تحرير الجنوب بالقوة المسلّحة دون تقديم تنازلات سياسية، فقدَّمت نموذجاً ثورياً مغايراً أثبتت من خلاله أن الكفاح المسلّح (الجهاد والمقاومة) يظل ممكناً في أصعب الظروف. صار لدينا وصفة مجربة وناجعة أيضاً. واليوم في وسع المقاومة أن تقول للعدوّ وشركائه: لا تمتحنوا صبرنا، فإذا وقعت الحرب قد يصل عويلكم إلى قبرص!
من يتذكر تصريحات "شارون" عن مستعمرة "نيتساريم المقدّسة" في غزّة؟ وكيف تغيّر الموقف الصهيوني وانكسر مع توالي "الصدمات/العمليات" وارتفاعها كمًا ونوعًا. فالنّصر الذي أنجزته المقاومة في لبنان عام 2000 واجبار "ايهود براك" على تجرّع الهزيمة، كررته المقاومة الفلسطينية حين أجبرت شارون على الانسحاب وتفكيك مستعمراته التي فقدت "قدسيتها" عام 2005، وذهب "الوحش" مُضطراً إلى "قراراته" تحت النار، وأطلق عليها عبارات من نوع "قرارات مؤلمة" و"خيارات صعبة" وقدَّم مبرراً جاهزاً: "فعلت هذا من أجل إسرائيل"!
توالت صدمات الكيان الصهيوني حين استطاعت المقاومة وحاضنتها الشعبية تجاوز العدوان بعد إفشال أهدافه، وإعادة بناء كل ما دمرته آلة الحرب، لأن المقاومة تملك - إلى جانب الرؤية السياسية والسلاح والهدف – القدرة على التنظيم والتخطيط، وليس صدفة أن يشتد عودها بعد كل حرب. ذلك لأنها لم تعُد حالة عفوية وارتجالية مثل "فزعات العرب" كما كان حال "منظمة التحرير" وأنظمة العنتريات العربية!
ليّست كثرة السلاح، ولا نوعه، من يصنَع الصمود والنّصر. يمكن للسلاح أن يصدأ مثل خُردة لا قيمة لها إذا لم تتوفر القدرة على التنظيم والتجديد والإرادة السياسية والمشروع الثوري البديل. وهذه "الباكستان" أمامنا، أكبر دولة إسلامية نووية، تجاوز عدد سكانها 245 مليون، وهذه مصر، أكبر دولة عربية، عديد جيوشها تجاوز 2 مليون جندي! لماذا لا يراها العدوّ ولا يحسب لها حساب، بينما يخاف من خلية فلسطينية مسلّحة في مخيم للاجئين بالضفّة المحتلّة. إنّ ما يخيف العدوّ وأجهزته هو بوصلة حامل السلاح، والفكر الذي يقوده، وليس السلاح في حد ذاته.
ولم يُحقق الشعب اللبناني انتصاره عام 2000 بسبب امتلاك حزب الله أسلحة "كاسرة للتوازن" بل لأن المقاومة اللبنانية الباسلة دفعت العدوّ إلى حالة مستمرة من الفشل والصدمة تحولت مع الوقت إلى حالة إنكار ثم استعداد لتجرّع الهزيمة. فإذا امتلكت المقاومة اليوم المعرفة العميقة بأحوال العدوّ وعرفت مكامن ضعفه، وامتلكت سلاحاً رادعاً وقدرة على تصنيع وتطوير سلاحها، انتقلنا إلى مرحلة نوعية، وأصبحت إمكانية إلحاق الهزيمة بجيش العدوّ، وزوال الكيان الغاضب مسألة وقت. وانتقل هدف تحرير فلسطين من حيز الإمكانية التاريخية إلى حيز الإمكانية الواقعية
يُقدّم لنا الشعب اليمني وقواته المسلّحة الباسلة نموذجاً ثورياً جديداً غير مسبوقاً في مواجهة أساطيل الاستعمار الأمريكية والبريطانية في المنطقة والعالم. ومع وجود القيادة الصلبة في صنعاء، والقراءة الاستراتيجية لواقع الصراع، رأينا كيف استطاع اليمن إدخال "البنتاغون" في دائرة الصدمة والإنكار. هذا الواقع لم ينشأ فجأة. بل تحقق بالتراكم والصبر والتضحيات، لا ينفصل عن صمود الشعب اليمني في مواجهة الحصار والعدوان منذ العام 2015 وما حققته الثورة اليمنية بقيادة "أنصار الله" من تجربة ميدانية وسياسية وعسكرية وقدرة مدهشة على امتلاك وتطوير السلاح
يعيش الكيان الصهيوني في قطاع غزّة والمنطقة أسوأ مرحلة في تاريخه منذ العام 1948 ويعجز أمام صبر الشعب الفلسطيني ومقاومته التي صنعت المعجزات فوق الأرض وتحتها. ويظهر فشل "وحدات النخبة" الصهيونية أمام كتائب مسلّحة ومنظّمة جرى "تطعيمها بالنار" منذ انتفاضة الأقصى/أيلول 2000، وخاضت أكثر من حرب ومعركة، وأسست إلى "الطوفان" وما بعد الطوفان.
نعم، الكيان الصهيوني عدوّ مجرم وقوي، مثل كل مستعمر سبقه، ترعى مشروعه أمريكا والغرب، ويملك قدرات هائلة، لكنه أشبه بوحش فقأت المقاومة عينيه فأدخلته في دائرة الصدمة والتيه. إنه قابل للهزيمة والشلل.. والزوال أيضاً.
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه