غزّة غيّرت العالم
عبير بسام*
إن لم تتوقف الحرب على غزّة خلال الأيام القادمة، سيناهز عدد شهداء غزّة وفلسطين خلال هذه الحرب المجنونة التي شنها الكيان الصهيوني على غزّة والضفّة الغربية الأربعين ألفًا، حيث يسقط يوميًا مئات الشهداء. ولكن على المقلب الآخر لقد فعلت هذه الدماء الزكية التي أريقت منذ اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين/ الأول أكتوبر 2023 وحتّى اليوم، إنجازات كبيرة في العالم العربي والعالم برمته وعلى صعيد المقاومات العربية، وفضحت الحكومات المتواطئة ومخاوفها ونقاط ضعفها. ولا يقف إنجاز المقاومين وصمودهم وصمود الشعب العربي الفلسطيني في فلسطين المحتلة على منطقتنا، لقد أثرت غزّة في السياسات العالمية حول العالم، إما بسبب المواقف الجريئة التي اتّخذتها دول في سابقة لم تعرف من قبل، بتأثير بطولات غزّة وصمود أهلها، وإما بسبب تلهي الإدارة الأميركية وتعثرها بما يجري في غزّة وتأثير ذلك عليها في داخل أميركا وخارجها.
خاضت الدول العربية حروبًا مشتركة ضد الكيان الصهيوني منذ إعلان قيامه وحتّى اليوم ومنها العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، ردًا على تأميم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لقناة السويس في مصر، فحاربت سورية إلى جانب مصر ووقفت إلى جانب الدولة العربية القلوب العربية مجتمعة، وتطوع أفراد للقتال إلى جانب مصر جمال عبد الناصر. ومن ثمّ كانت حرب السادس من حزيران، النكسة الكبرى، على مصر وسورية والأردن واحتلت خلالها باقي فلسطين التاريخية وحملت معها خيبات الرجاء. ولكن لأول مرة قاتل العرب مجتمعين قتالًا حقيقيًا ساهمت فيه الدول العربية إلى جانب مصر وسورية في حرب تشرين التحريرية في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973. وجميع هذه الحروب كانت حروب جيوش، ولكن منذ الثامن من تشرين الأول 2023، وحتّى اليوم شهدنا انتصارًا روحيًا عربيًا كان سببه في الأساس هو قيام المقاومة في غزّة بعملية طوفان الأقصى والتي استقطبت العمل المنظم، دون تنظيم أو معه، ما بين المقاومات العربية المنظمة والتي دعمت غزّة في اليمن والعراق وسورية ولبنان.
إنجاز المقاومات المنظم هذا كان من أهم الإنجازات في منطقتنا العربية، وهو إنجاز لمحور المقاومة مجتمعًا، كان من أهم الاختبارات على الأرض وتكمن أهميته في عدة أمور، أولها، الثقة المستعادة بالعمل العربي المشترك في مقاومة العدوّ الصهيوني. وثانيها، الثقة بالقدرة على الإنجاز، ونحن كعرب في حاجة ماسة إليها.
وثالثها، فقء العيون الصهيونية، المتمثلة بأبراج التجسس والمراقبة على الحدود اللبنانية - الفلسطينية، وبات من الممكن تتبع أثر أي نقاط تجسس قد يرممها العدوّ بعد انتهاء جولة المعركة الأولى، إذا ما انتهت، تحضيرًا لكشف أية قواعد مراقبة جديدة عند اتّخاذ قرار الذهاب نحو المعركة الكبرى، معركة تحرير فلسطين.
الكثير يمكن قوله لناحية المنطقة العربية وحالة الأمل والترقب التي يعيشها أهل المنطقة وشعبها، وهذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة. أما على الصعيد العالمي، فلا يمكننا إلا ملاحظة التغيرات في العالم والتي جاءت مبنيّة على أحد السببين الآتيين أو كليهما مجتمعة: الأول، شجاعة المقاومات في الوقوف والقتال ضدّ الصهاينة وضد القرارات الأميركية والغربية، تحديدًا مع استمرارية دعم الحاضنة الشعبية كمتلازمة. والثاني، تلهي الحكومة الأميركية وحتّى الحكومات الغربية، وتخبطها وانشغالها بما يحدث للكيان وما يحدث داخل بلادها من مظاهرات واضطرابات وتراجع أسهم الحكام فيها.
ومن التغيرات التي حدثت في ظلال طوفان الأقصى، هي ما شهدناه من طرد للقوات الفرنسية والأميركية في القارة السوداء، إفريقيا، والذي منح فرص واسعة للتغيير في سياسات هذه الدول السياسية والاقتصادية، والدعاوى ضدّ المجازر في غزّة والتي قادتها دولة جنوب أفريقيا وغيرها من دول أميركا اللاتينية. ولا يقل أهمية عن جميع ما ذكرناه انكشاف "مسخرة" الديمقراطية وضحالة شرعة حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية أمام حقوق الآخرين. ونعني بالآخرين كلّ الآخرين الذين يعيشون خارج دول الغىب في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية وأستراليا. وهنا لا ننسى تعليق الإدارة الأميركية عند طلب المحكمة الدولية إصدار مذكرة القبض على بنيامين نتنياهو بتهمة ارتكاب مجازر الإبادة الجماعية في غزّة، وزعمها أن المحاكم الدولية هي من أجل "مجرمي الحرب من أمثال بوتين ومن هم ضدّ الغرب وليس لتوجيه التهم للديمقراطيات التي يحميها الغرب" حسب تعبيرها.
* المصدر : موقع العهد الاخباري
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع