مازن النجار*


مؤخراً، نشر أشهر صحافي استقصائي في أميركا، سايمون هيرش، مقالاً بعنوان: "حرب بايدن الباردة الدائمة"، وتساءل: لماذا لا يستطيع جو بايدن النظر بعقلانية إلى روسيا؟ ولفت إلى أن سن الرئيس المتقدم والصعوبات التي يواجهها أثناء إلقاء خطابه ليست الأشياء الوحيدة التي تهدد إعادة انتخابه رئيساً، فهناك مسؤولية أخرى تتمثل في عدم قدرته طويلة الأمد على رؤية العالم كما هو، فهو لم يبذل أي جهد منذ غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022 لترتيب لقاء فردي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وتحدثت مجلة "نيشن" الليبرالية عن أن "حنين بايدن إلى الحرب الباردة يقضي على رئاسته" وإرثه السياسي بالضرورة، وأن المخاوف من الصواريخ والكينزية العسكرية لن تنجح في كسب الناخبين الذين يريدون الإصلاح الداخلي. ينزلق بايدن بسهولة إلى أحلام يقظة مفرطة حول الماضي، وخصوصاً خلال المناسبات العامة العاطفية.

عندما تقاعد بايدن من عضوية مجلس الشيوخ عام 2009 ليتولى منصب نائب الرئيس، ألقى خطاباً عاطفياً أشار فيه إلى أنه عندما أدى اليمين لأول مرة في الكونغرس عام 1973، كانت "لوحة العمالقة (أهم الشخصيات في التاريخ الأميركي) فوق مشهد مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة". ولا يزال هؤلاء العمالقة المفترضون، بمن فيهم عنصريون معلنون، يفرضون معالم بارزة في عالم بايدن العقلي، إذ إنهم الركائز الأساسية التي توجه إحساسه بما يمكن أن تحققه السياسة.

في خطابه الوداعي آنذاك، لم يسلط بايدن الضوء على هؤلاء العنصريين فحسب، بل أشار أيضاً إلى السيناتور هنري جاكسون؛ أحد نجوم تصعيد الحرب الباردة في الخمسينيات، والذي كان له تأثير كبير في تطور بايدن السياسي.

المفارقة التاريخية الساخرة أن بايدن هذا الذي يُجدد، بل يُسعّر حربه الباردة الدائمة، ويتعهد حرب الإبادة الجماعية "الإسرائيلية" في قطاع غزة، بلغ من العمر أرذله، وهو يرتدي الحفاض باستمرار لمنع تسرب فضلاته أمام الملأ، ويقف تائهاً شارد الذهن زائغ العينين أمام الكاميرات، فاقداً الإحساس بالمكان والزمان والشخوص، مختزلاً صورة أميركا كإمبريالية مترهلة عفا عليها الزمن على نحو بالغ الدلالة!

ورغم أن مياهاً كثيرة جرت تحت جسور الأنهار منذ نهاية الحرب الباردة، فإن عقلية الصراع والنفي الكامنة في أرجاء واشنطن، من اللوبيات والمجمع الصناعي العسكري والدولة العميقة، لا تجد بديلاً رابحاً من إشعال الصراعات وتمويلها، إذ تقوم الولايات المتحدة بدور مشعل الحرائق ودور الإطفائي أيضاً.

وقد وقر في هذه العقلية أن نهوض أي أمة من الأمم خارج نطاق السيطرة الأميركية يمثل تهديداً أكيداً للولايات المتحدة، وهذا يفسر الموقف الأميركي إزاء كل من اليابان وكوريا الجنوبية والصين، فلدى قراءة تقرير البنتاغون السنوي حول الوضع الاستراتيجي والعسكري العالمي، سنجد تقريباً أن جميع جيوش العالم مكشوفة أمام الاختراق والنفوذ الأميركي، ما عدا جيوش روسيا وبيلاروسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وفنزويلا وكوبا تقريباً.

وقد أشار أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بوسطن والكولونيل الأميركي السابق، أندرو باسيفتش، إلى أن السلام بين أميركا أو "إسرائيل" وبين أي "عدو" حقيقي أو محتمل لا بد من أن يقوم على علاقة دونية مستمرة وغير متكافئة، وهذا ما يسجله تاريخ وحاضر علاقات التحالف الأميركي باليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك العلاقات الأميركية الروسية بعد نهاية الحرب الباردة.

هذه الحالة الأخيرة هي سبب استياء روسيا من الغرب، ثم نهوضها تحت قيادة فلاديمير بوتين وعودتها إلى العسكرة والتشدد وسباق التسلح وإقامة أسوار استراتيجية بينها وبين الغرب، ثم مواجهة تمدد الناتو إلى أوكرانيا، وهذا ما يعتبره المفكر الروسي ألكسندر دوغين معجزة بوتين!

رغم أن الصين لا تبدي استعجالاً لصدام يفضي إلى قمة النظام الدولي أو المشاركة في القمة ضمن تعددية قطبية عالمية، فإنها تسعى إلى حيازة كل أسباب القوة الاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية، وتبني تحالفات ومؤسسات دولية بديلة أو موازية لمؤسسات الغرب، مثل بنك آسيا للتنمية الذي يوازي البنك الدولي ومنظمة معاهدة شانغهاي للأمن وكتلة بريكس الاقتصادية، وتنسيقاً استراتيجياً "بلا حدود" مع روسيا، ودبلوماسية نشطة تحقق نجاحات حتى في مناطق النفوذ الأميركي كما في الشرق الأوسط (الاتفاق السعودي الإيراني)، ويمتد نفوذها إلى أفريقيا ووسط أوروبا وجنوبها وأميركا اللاتينية، وتتزود بالتقنيات المتقدمة وتطورها في المجالات المدنية والعسكرية كافة.

في المقابل، تعتبر الولايات النهوض الصيني تهديداً استراتيجياً لها، وتطلق حرباً باردة لاحتواء الصين وتطويقها: استراتيجياً، بتسليح تايوان ودعم ممانعتها للعودة إلى الوطن الأم، وإرسال الأساطيل إلى المحيطين الهادي والهندي، والتحالف العسكري مع الدول المناوئة للصين في بحر الصين الجنوبي، وتطويق الصين بنحو 200 قاعدة عسكرية وتحالف رباعي مع اليابان والهند وكوريا الجنوبية (كواد) وتحالف ثلاثي (أوكوس) مع بريطانيا وأستراليا وتزويد الأخيرة بغواصات الدفع النووي، واقتصادياً بزيادة رسوم الجمارك والضرائب على الصادرات الصينية لأميركا، وحصار الشركات الصينية الكبرى لمنع توسعها في السوق الأميركية، ودفع الشركات الأميركية لنقل استثماراتها من الصين إلى الهند.

وكان المفكر المصري الراحل جمال حمدان قد تنبأ منذ نصف قرن في كتابه: "استراتيجية الاستعمار والتحرير" (1971) بانتقال مركز ثقل القوة العالمية والاقتصاد العالمي من حوض شمال المحيط الأطلسي إلى حوض المحيط الهادي، بعد انتقاله سابقاً من حوض البحر الأبيض المتوسط إلى حوض شمال المحيط الأطلسي.

ويبدو أن التركيز الأميركي الاستراتيجي الذي بدأ منذ رئاسة باراك أوباما على محور المحيط الهادي لاحتواء الصين سيفضي، للمفارقة، إلى ما يتجاوز التنافس إلى تدافع وصراع حتمي بين أكبر كيان استيطاني في التاريخ وإحدى أقدم أمم وحضارات العالم.

ويبدو أن تجديد الحرب الباردة يجد هوى لدى روسيا، إذ إنه يعزز تماسكها الداخلي والتفافها حول قيادة الرئيس فلاديمير بوتين ويشحذ سكاكينها التقليدية والنووية وأفكارها القومية الأوراسية بمواجهة تمدد حلف الناتو إلى حدودها.

وكان لموافقة الرئيس الروسي مؤخراً في 9 حزيران الجاري على نقل السلاح الروسي إلى دول أخرى في نزاع مع دول الغرب التي تسلح أوكرانيا دلالة بالغة في سياق تعزيز قوة وفاعلية القوى الإقليمية الساعية للخروج من دائرة الحصار والاحتواء والسيطرة الغربية في عالم الجنوب، وربما حركات التحرر الوطني كذلك. وسيكون لهذا التوجه ما بعده من بثّ القلق والاضطراب في مناطق النفوذ الغربي والأميركي بخاصة في فترة يشهد فيها العالم تردداً، بل يشهد عجزاً أميركياً عن القيادة والتأثير وحل النزاعات!

* المصدر: موقع الميادين نت
* المقال يعبر عن رأي الكاتب