عندما تأتي الفاشية إلى أميركا
مازن النجار*
منذ قرن من الزمن، وفي فترة ما بين الحربين العالميتين، نُقل عن الكاتب الروائي والشاعر الأميركي ذائع الصيت في انتقاده المادية والرأسمالية سنكلير لويس (1885-1951) قوله الذي سارت به الركبان: "عندما تأتي الفاشية إلى أميركا، ستكون متدثرة بالعلم القومي وستحمل صليباً!".
شهدت تلك الفترة صعود الفاشية في الغرب، وخصوصاً في إيطاليا وألمانيا، على خلفية الأزمات الطاحنة التي خلفتها الحرب العالمية الأولى من دمار وإفلاس وفقر مدقع وبطالة واسعة، ولا سيما بين الجنود الخارجين من الحرب. وقد زرعت هذه الموجة الفاشية بذور التوترات والصراعات الأوروبية التي أفضت إلى نشوب الحرب العالمية الثانية.
يُستدعى ذلك في سياق الموجة الفاشية الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا، والتي انطلقت في حالة من الذعر والفزع في وجه موجة احتجاج عالمية عارمة في الشوارع والجامعات ضد المحرقة الصهيونية المتواصلة في قطاع غزة، والتي اندلعت شرارتها في جامعة كولومبيا، وامتدت إلى عشرات الجامعات الأميركية وشوارع مدنها، ثم إلى جامعات أوروبا وأستراليا وأنحاء أخرى من العالم.
جاءت موجة الفاشية الأخيرة بمواجهة حركة الاحتجاج العالمية على حرب الإبادة في غزة ملفوفة بالعلم الصهيوني ومتذرعة بفرية العداء للسامية الذي شهدت مضامينه تحولاً جوهرياً من ممارسة العداء لليهود وكراهيتهم في أوروبا والغرب إلى أي اعتراض على الممارسات الصهيونية من استيطان واقتلاع وعنف وإبادة وانتهاك القانون الدولي الإنساني وما يلحق به من معاهدات دولية تُجرّم أعمال الإبادة والاحتلال والفصل العنصري، كما يمارسها الكيان الصهيوني ويتواطأ على إقرارها حلفاؤه المهيمنون على النظام الدولي، بل أصبح السكوت على هذه الممارسات الفاشية أو تمريرها من دون حساب شرطاً للنجاة من "تهمة" العداء للسامية التي أصبحت أحدث أدوات الفاشية الغربية، وباتت طريقة ثابتة للتعبير عن عداء الصهاينة وكراهيتهم لمن يخالفونهم، بل وإنكار إنسانيتهم والتحريض على إبادتهم، كما أوردت شواهد ذلك محكمة العدل الدولية في قرارها يوم 26 كانون الثاني الماضي.
في البدء كان الاستيطان والإبادة
في أواخر القرن الـ15 والقرن الـ16، انطلقت طلائع وأساطيل الغزو والاحتلال والإبادة الأوروبية (الاكتشافات الجغرافية) نحو شرق العالم وغربه. وتزامن ذلك مع ولادة حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا، وما نجم عنها من اضطرابات سياسية وحروب دينية، رافقتها أزمات ومجاعات ضربت أوروبا.
في نهاية المطاف، وضعت حروب الأعوام الثلاثين الدينية أوزارها بمعاهدة ويستفاليا (1648) التي دشنت ميلاد الدولة القومية أو الدولة-الأمة في أوروبا، وكرست سيادتها على إقليمها وحصّنتها ضد التدخلات الخارجية، وأصبح النظام الدولي (في أوروبا) يسمى سلام ويستفاليا أو نظام ويستفاليا.
كانت معاهدة ويستفاليا نقطة انطلاق هامة لحركة الاستعمار والاستيطان الأوروبي في مختلف أنحاء المعمورة، وترافقت تلك المرحلة بعوامل طاردة للسكان، وأصبحت الاكتشافات الجغرافية ذريعة للاحتلال والاستعمار والنهب وأعمال الإبادة.
إذاً، شهدت لحظة انطلاق النظام الدولي المبكر في صورته الأولى، تحت الهيمنة الغربية، موجة الاستعمار والاستيطان والإبادة، وتواصلت على النحو التاريخي المعلوم، وما زال اجتياح العالم واستباحته هما جوهر أي نظام دولي تحت هيمنة الغرب، بل وانتقل مركز ثقل هذا النظام، عقب الحرب العالمية الثانية، من القوى الأوروبية الاستعمارية التقليدية التي تعهدت مشروع الاستيطان والاستعمار والنهب إلى أكبر كيان استيطاني إمبريالي في التاريخ البشري.
استعار الاستيطان الأوروبي تصوراته ومسوغات عنفه من نصوص التوراة وسردياتها وأبطالها ورموزها وقيمها، واستمد المهاجرون الأوروبيون رؤيتهم الكونية وسرديتهم الدينية والأخلاقية منها، وتماهوا تماماً مع الروح القبلية العبرية لقصصها، واعتبروا أنهم خرجوا مما يشبه الأسر الفرعوني لبني "إسرائيل" (في مصر التوراتية) إلى "أرض الميعاد"، بل إن بعض المستوطنين الأوائل كتبوا عهداً على السفينة التي ذهبوا بها إلى أميركا الشمالية يشبه عهد الإله "يهوه" لبني إسرائيل، كما في العهد القديم، وهاجروا لأنهم أرادوا تأسيس ما اعتبروه "إسرائيل الجديدة" في "العالم الجديد".
انطلقت أيديولوجيا الاستيطان التي أسست فكرة "أميركا"، وهي الترجمة الأنكلوسكسونية لفكرة "إسرائيل الأسطورية"، بقوة دفع وعنف عاتية تقوم على: احتلال أرض الغير، واستبدال شعب بشعب، واستبدال تاريخ بتاريخ، وكل منها إبادة قائمة بذاتها.
وقد نشأ الدين المدني؛ دين الدولة الأميركية، وخصوصاً مؤسسات "العدالة" والبيروقراطية والشُرطة وفرض القانون، عن أيديولوجيا المستوطنين "البيوريتان" الأوائل الذين طردوا من إنكلترا، مُكرساً فكرة أن يهوه "رب العهد القديم" بعنصريته وعنفه وشراسته هو المرجع الأعلى! وهذا يفسر شراسة الدولة الأميركية وعنفها وعنصريتها ومنظومتها القانونية وعدوانيتها وسلطويتها.
هذا يؤدي إلى أن القيم الديمقراطية والحقوق المتساوية والنظام السياسي بأسره، كما تضمنها إعلان الاستقلال ووثيقة الحقوق والدستور الأميركي وتعديلاته، هي امتداد وتقنين وتنظيم للمشروع الاستيطاني، بل إن امتيازاته مخصصة حصرياً للتشكيل السكاني "الأبيض الأنكلوساكسوني البروتستانتي "WASP ومشروعه الاستيطاني. وحول خطوطه نُسِجت الخبرة التاريخية الأميركية وتعبيراتها في الداخل والخارج.
صاغ الدستور النظام البرلماني الأميركي في مجلسين: مجلس النواب الذي يمثل الكتل السكانية، ومجلس الشيوخ الذي يمثل الولايات بعضوين لكل ولاية، سواء كان سكانها 40 مليوناً أو 150 ألفاً. ويتكون "المجمع الانتخابي" من مجموع أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، 535 نقطة تمثياية، ولكل ولاية وزنها النسبي المكوّن من عدد ممثليها من النواب والشيوخ.
ولدى حساب نتائج الانتخابات الرئاسية، ينال المرشح الفائز بولاية ما نقاطاً تمثيلية تعادل عدد ممثليها في المجلسين. هذا النظام يهمش الإرادة الشعبية، ويبقي السلطة دائماً رهينة سياسات اليمين وتوجهات ولايات صغيرة محافظة ومعارضة للتغيير الاجتماعي.
تاريخ من العنف
في أقل من 250 عاماً، خاضت الولايات المتحدة نحو 110 حروب، جلها حروب إمبريالية عدوانية. وقد ينطبق عليها تعريف حروب الإبادة كالتي استهدفت السكان الأصليين (الهنود الحمر)، ناهيك بقصف اليابان بقنبلتين ذريتين، واغتصاب مليوني امرأة ألمانية في نهاية الحرب العالمية الثانية وحروب كوريا وفيتنام ولاوس وكمبوديا و"إسرائيل" وانقلابات إيران والمشرق العربي وأميركا اللاتينية، التي ذهب ضحيتها خلق كثير.
وقد شهدت حرب المكسيك غزواً أميركياً لتكساس والمكسيك (1846-1848)، ومنيت المكسيك بهزيمة ساحقة، وخسرت نحو نصف أراضيها. يومها، قال رئيس المكسيك: "مسكينة أيتها المكسيك، بعيدة جداً عن الله، قريبة جداً من الولايات المتحدة!"
ولدى البحث عبر محركات البحث عن مؤلفات بعنوان: "تاريخ العنف في أميركا"، سيجد المرء كتباً عديدة ودراسات بالعشرات بهذا العنوان أو تتناول هذا الموضوع.
بعد إبادة الهنود الحمر، تم توجيه عنف هائل ضد الأميركيين السود قبل وبعد إلغاء العبودية، قادته عصابات كوكلكس كلان العنصرية بالتواطؤ مع السلطة المحلية. وقد تضمن قتلاً وإحراق منازل وكنائس وشنقاً خارج القانون بمشانق نصبها مستوطنون بيض بهدف الترويع والإخضاع. ومع حرمانهم من الحقوق المدنية، كانت تُلصق أي جريمة بأحد السود، وتشهد محاكمته إهداراً فادحاً للعدالة، كما سجلته السينما الأميركية.
شهدت مدن أميركية كبرى في القرن العشرين قمعاً متكرراً ومواجهات دموية بين الشرطة وعمال مضربين واغتيال قيادات نقابية بالتواطؤ مع عصابات المافيا. وقد لفّقت جرائم ضد الناشطين، وحُكم عليهم بأحكام سجن مؤبدة لإرغامهم على الهجرة إلى أفريقيا. وشهدت الاحتجاجات ضد حرب فيتنام إطلاق النار على الشباب والطلاب المحتجين، وسقط منهم ضحايا كثر.
وما زال آثاريون وأنثروبولوجيون يستخرجون عظام وجماجم عمال سود قضوا أثناء السخرة في حفر المناجم وأنفاق ميترو نيويورك وطواهم الإنكار والنسيان، وما زال السود حتى اليوم هدفاً للشرطة الأميركية، تطاردهم وتطلق النار عليهم وتقتلهم بشبهة وبغيرها، فتندلع موجات الغضب والخراب، وما واقعة جورج فلويد منا ببعيدة.
الفاشية.. الآن وغداً وإلى الأبد!
شهدت الخمسينيات موجة المكارثية كإحدى تجليات الفاشية الأميركية المتجددة. قام السيناتور جوزيف مكارثي بدور المفتش inquisitor في محاكم التفتيش الرهيبة في أوروبا القروسطية، وتعهَّد حملة مطاردة أشباح الشيوعية في أميركا، ولم ينج من التهمة إلا قليل. وقد رافقتها حملة مكتب التحقيقات الفيدرالي ضد اليسار فرادى وزرافات.
في الستينيات والسبعينيات، تعرض ناشطون وأكاديمون عرب وفلسطينيون لحملة تجريم شرسة بتهم الإرهاب، واستغرقت قضاياهم سنوات عديدة، واستنزفتهم مالياً ومعنوياً وتشهيراً. وفي التسعينيات، شرّع الكونغرس استخدام أدلة سرية لا يعرفها أو يطلع عليها المتهمون أو المحامون في محاكمة المهاجرين، وأدت إلى سنوات اعتقال طويلة من دون تهم محددة أو إدانة لناشطين فلسطينيين وعرب ومسلمين بزعم ارتباطات مبهمة بالإرهاب!
بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، انتقلت الحملة إلى مستويات هائلة: إعلان "الحرب (العالمية) على الإرهاب" لتشمل استئصال الإسلام محلياً بأميركا بالقوانين الفاشية (قانون باتريوت) واصطياد الضحايا بالمئات في قضايا إرهاب وهمية من تلفيق وتمثيل وإخراج عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي، تنتهي بأحكام بالسجن لعشرات السنين.
وبينما نشهد تجدد موجات الفاشية في أميركا، والمتجسدة بقمع حرية التعبير والاحتجاجات في الجامعات الأميركية وطرد الطلاب واعتقالهم وإساءة معاملتهم وإطلاق عنف الشرطة ضدهم واعتداءات غوغاء الصهاينة على الطلاب والجماهير الحرة على مرأى ومسمع من شرطة نيويورك وكاليفورنيا وتكساس وغيرها، ندرك أن لا حاجة لعودة الفاشية "متدثرة بالعلم القومي وحاملةً صليباً"، لأنها حاضرة دائماً: اليوم وغداً وربما.. إلى الأبد!
* المصدر: موقع الميادين نت
* المقال يعبر عن راي الكاتب