ما وراء زيارة بوتين إلى الصين .. ؟
السياسية:
مثلت زيارة الرئيس الروسي الأخيرة إلى الصين تدشين لحقبة جديدة من التعاون الروسي الصيني في عالم يشهد تغيرات كبيرة، وصراعات تتصاعد في اكثر من منطقة حول العالم. والزيارة من الناحية السياسية تعد توجه نحو تعاون استراتيجي، كونها جاءت في وقت يقف فيه البلدين في معركة واحدة ضد الهيمنة الامريكية، التي تسعى لإبقاء العالم تحت وصاية نظام القطب الواحد الذي تقوده، ومن خلاله تتجه لمنع انتقال العالم نحو نظام الأقطاب المتعددة.
مغزى الزيارة
زار بوتين الصين الخميس 6 مايو 2024 بعد شهر من إعادة انتخابه رئيسا لروسيا الاتحادية، ما عدها مراقبون بأنها مؤشر على توجه بوتين خلال المرحلة المقبلة نحو تعميق علاقاته بالصين، وتحويل العلاقات بين موسكو وبكين من التعاون المشترك إلى التعاون الاستراتيجي، لافتين الى ان هدف الزيارة هو استمالة العملاق الصيني في وقت تتوتر علاقاته بالولايات المتحدة الامريكية، حيث تعد الأخيرة عدوا مشتركا لموسكو وبكين، فالأولى تخوض حربا غير مباشرة مع واشنطن وحلفاؤها الغربيين في أوكرانيا، فيما الثانية تتوتر علاقاتها باستمرار مع واشنطن، ويكاد الوضع ان ينفجر بينهما في جزيرة تايوان، التي تدعمها واشنطن. لكن وضع الصين يختلف عن وضع روسيا في العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب، فالصين لا تزال تراوح في علاقاتها مع الغرب، وتسعى لعدم اغضابه، كونها اصبحت مستفيدة اقتصاديا من الازمات التي تعيشها اوروبا، ما ساهم في رواج منتجاتها في الاسواق الاوروبية، التي تشهد تضخما في الاسعار، بفعل الازمات التي خلفتها الحرب الاوكرانية، وابرزها ازمة الطاقة، بعكس روسيا التي ادارت ظهرها للغرب بعد العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها على اثر الحرب الاوكرانية.
تقارب وتباعد
يقترب الموقف الصيني من الموقف الروسي نظريا من الغرب بشكل نسبي، لكنه يختلف عمليا وبشكل نسبي، ويرجع ذلك لطبيعة الصراع مع الغرب، فالصراع الروسي الغربي صار اقتصاديا وعسكريا، وان كان الأخير بشكل غير مباشر، فيما الصراع الصيني الغربي لا يزال صراعا اقتصاديا، وتمنع المصالح المشتركة تحوله إلى صراع عسكري، لكن هذا الأخير غير مستبعد، في ظل توجه الغرب إلى عسكرة بحر الصين الجنوبي، والدفع بتايوان لان تكون بؤرة توتر امني قبالة البر الصيني. ومن هنا تأتي المصالح المشتركة بين الصين وروسيا، والتي يسعى بوتين لاستثمارها وتحويلها إلى استراتيجية في اطار مساعيه لكسر الطوق الذي يفرضه الغرب على بلاده التي تتطلع للعب دور رئيسي في عالم متعدد الأقطاب.
مرحلة عنوانها المشتركات
بوتين زار الصين بعد اعادة انتخابه رئيسا لولاية جديدة، تماما كما فعل الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الذي زار روسيا في مارس/آذار 2023 بعد إعادة انتخابه لولاية جديدة، وهذا التبادل في الزيارات بعد الانتخابات يعد مؤشرا على توجه بوتين وبينغ للمرحلة المقبلة، وهو توجه لتمتين العلاقات بين البلدين، وان كان لكل طرف تصوره، والذي سيفضي إلى مشتركات تدفع نحو تعاون استراتيجي في عديد من المجالات، والتي سيكون اسها الحد من الهيمنة الامريكية كمشترك عام يدفعهما باتجاه تمتين التعاون والارتقاء به نحو الاستراتيجي.
مهندسا النظام الدولي القادم
تنظر الدول التي تسعى للانعتاق من الهيمنة الامريكية إلى روسيا والصين بانهما مهندسي سياسة قيادة العالم نحو التعدد القطبي، وانطلاقا من ذلك ينظر إلى الرئيسين بوتين وبينغ كخبيرين رئيسيين للنظام الذي يتجه نحو التشكل، بعيدا عن الهيمنة الامريكية. ويبدو ان الرئيسين الروسي والصيني يتصرفان من هذا المنطلق، وبالتالي وضعا استراتيجية المرحلة المقبلة لولايتهما الرئاسية من كونها خبيران رئيسيان يقع على عاتقهما هندسة النظام الدولي متعدد الاقطاب، يتضح ذلك من الخطوات السابقة لهما، والتي بدات بالسير نحو بناء تحالفات دولية متعددة الاطراف شاركت فيها عدد لا بأس به من الدول النامية كمنظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة البريكس، باعتبارها تكتلات دولية موازية للغرب، كانت فيها روسيا والصين فاعلين رئيسيين.
تخفيف حدة العقوبات
والمتتبع للموقف الصيني من روسيا منذ اندلاع الحرب في اوكرانيا، سيجد أن بكين قدمت دعما اقتصاديا كبيرا لروسيا، يعد الاكبر قياسا بما قدمته دول اخرى لروسيا، وهي قليلة، وينظر للدعم الصيني بانه ساهم في تخفيف العقوبات الاقتصادية الغربية، والتي هدفت لتقليل وصول روسيا إلى سلاسل التوريد العالمية والأسواق الدولية، فقد فتحت الاسواق الصينية امام المنتجات الروسية، وابرزها النفط والغاز، ما ساعد روسيا على الصمود في حربها المستمرة للعام الثالث في أوكرانيا المدعومة اقتصاديا وعسكريا من الغرب.
اثارة حفيظة الغرب
واثار الدعم الصيني لروسيا حفيظة الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ما جعل واشنطن تطلق التحذيرات اكثر من مرة لبكين، والتي زادت خلال الاشهر الاخيرة، كان اخرها الرسائل التي نقلها وزيرا الخزانة والخارجية الأمريكيين اللذان زارا بكين في بداية ونهاية إبريل/نيسان 2024. فالولايات المتحدة ترى ان دور الصين في دعم روسيا يعد رئيسيا في ساحة المعركة التي تدور على الاراضي الاوكرانية، ويعتقد الساسة الامريكيين ان بكين اصبحت تساهم في تعزيز الصناعات الدفاعية الروسية من خلال توريد منتجات مزدوجة الاستخدام، وان كانت غير فتاكة، لكنها مفيدة عسكريا.
الاولوية اقتصادية
ويرى ديمتري كيم محلل الشؤون الدولية، إن قرار بوتين اختيار الصين كأول دولة يزورها بعد إعادة انتخابه لم يكن مفاجئا، ويعتقد ان ذلك يظهر أن موسكو تولي أهمية كبيرة لمواصلة تطوير شراكتها الاستراتيجية مع الصين، والتي لن تتخلى عنها رغم الضغوطات الغربية، بل إنه يرى ان موسكو أصبحت أكثر إصرارًا على "التوجه نحو الشرق"، وبين انه من خلال التشكيلة "العددية والنوعية" للوفد الروسي الذي رافق بوتين في زيارته للصين يتضح أن هدف تركز على القضايا الاقتصادية والتعاون في صناعات التكنولوجيا الفائقة، مع إعطاء اهتمام خاص لمشكلة التسويات المتبادلة في التجارة بين البلدين. ومن حديث كيم يتضح ان هدف زيارة بوتين للصين بشكل رئيسي كان الاقتصاد كاولوية، ما يعطي انطباعا بان استراتيجية بوتين خلال ولايته الجديدة اعطاء دفعة جديدة لاقتصاد بلاده، بما يضمن حضورها القادم بقوة في الساحة الدولية كفاعل رئيسي، وهي خطوة يمكن وصفها بالذكية من بوتين لانها ستعمل على منح الصين فرصة لتجاوز القيود الأميركية التي أدت إلى انخفاض الصادرات الصينية إلى روسيا منذ منتصف العام 2023، لا سيما تلك المرتبطة بواردات السلع الاستهلاكية والمنتجات مزدوجة الاستخدام.
حاجيات ملخة
تقف التكنولوجيا حائلا في مساعي روسيا التفوق العسكري الروسي على الغرب، وهي ايضا حجر عثرة في خطوات موسكو الرامية لان تصبح قوة عالمية وازنة اقتصاديا، ولذلك اتجه بوتين نحو الصين التي تتفوق على الولايات المتحدة في مجالات تكنولوجية عديدة كالرقمنة الكمية والبيولوجيا الصناعية، للاستفادة من تفوقها في هذه الجوانب التي تبدو روسيا متاخرة فيها، وذلك انطلاقا من كون الصين صديق اقرب لروسيا، وتطوير التعاون نحو مستوى يجعل منها حليف استراتيجي، وهنا سيقدم بوتين للصين بالمقابل الطاقة الرخيصة التي تعد روسيا من اكبر مخزوناتها الاستراتيجية عالميا، والخبرة في مجال التصنيع العسكري التي تتفوق فيها على الغرب، وصارت الصين بحاجتها في عالم تشتد فيه المنافسات الجيوسياسية، وتتضارب فيه المصالح الاقتصادية. وفي هذين المجالين تبدو الصين بحاجة لروسيا، مقابل حاجة الاخيرة للاولى في مجال التكنولوجيا، وهو مشترك سيجعل البلدين ينطلقان نحو تأسيس شراكة استراتيجية مبنية على المصالح المشتركة.
لقاءات
والمتتبع لعدد اللقاءات بين بوتين وبينغ منذ وصول الاخير إلى رئاسة الصين في العام 2012 سيجد ان عدد اللقاءات تربو على 40 لقاء، وهو ما ما يجعل اللقاء الأخير، بينهما بانه لقاء استراتيجي، فرضته طبيعة التحديات التي تواجهها البلدين، وحاجتهما المشتركة في الانطلاق نحو عالم لا تسود فيه القطبية الواحدة.
بعيدا عن الحرب
ومما سبق يمكن القول ان زيارة بوتين للصين اكبر وابعد من ارتباطها بالحرب الاوكرانية، فروسيا قد خلقت واقع على الارض في اوكرانيا يصعب تغييره، فيما الصين قد حسمت موقفها من الحرب الاوكرانية والعقوبات الغربية باكرا. ولذلك فإن الزيارة تعد تدشين لمرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي، ورسالة للغرب والولايات المتحدة بأن محاولتهما لابعاد بكين عن موسكو لن تجدي نفعا، لأن الواقع يقتضي التعاون اكثر من التباين.
* المصدر: عرب جورنال ـ تقرير: أنس القباطي
* المادة نقلت حرفيا من المصدر