ندين نجار*

 

لم تكن هناك حاجة إلى انتظار ما إذا كان العدو الإسرائيلي قادراً على تحقيق “النصر” المزعوم في عدوانه على غزة وجنوب لبنان، فمنذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها ملحمة “طوفان الأقصى”، تشكلت معالم الهزيمة في “إسرائيل”، وما الأيام التي مضت سوى تأكيد يومي لحتمية انهزام العدو الإسرائيلي، مقابل حتمية نصر المقاومة في غزة وجنوب لبنان.

فما كان علينا في أيام المعارك المستمرة حتى هذه اللحظة سوى مراقبة الوقائع والأحداث والعودة إلى الماضي وتاريخ الصراع مع العدو الصهيوني لفهم أن “إسرائيل” تخوض حرباً خاسرة، ولإدراك أن النصر قادم لا محالة. تبدو بعض الأمور معقدة، ولكنها في جوهرها بديهية وواضحة كوضوح الشمس، كوضوح القضية الفلسطينية التي تجسد صراع الحق في وجه الباطل، والحقيقة في وجه الكذب والقوة الفعلية في وجه القوة المزعومة.

أثبتت “طوفان الأقصى” أنه على الرغم من تطور وتنوع وتعدد أدوات القتال لدى العدو الإسرائيلي وداعميه مع تقدم الزمن والتكنولوجيا يبقى سلاح وحيد لم ولن يستطع الإسرائيلي امتلاكه وهو أساس تحقيق الانتصار ودحر الاستعمار والاستيطان عن البلاد، هذا السلاح هو السر الذي تقوم عليه حركات المقاومة التي يعجز الإسرائيلي عن فهم تركيبتها، وهو العقل الواعي والواثق بقوة حقه ومطلبه في أرضه ووطنه وحريته، هو الروح ممتلئة باليقين والإيمان بحتمية الانتصار عاجلاً أم آجلاً، وهذا ما يتسلح به الشعب الفلسطيني في غزة كباراً وصغاراً ومجاهدو المقاومة الفلسطينية والإسلامية.

يشكل العقل ميدان الحرب في القرن الواحد والعشرين، القائم على الحرب النفسية والإدراكية، وقد تطور هذا الميدان بفضل وسائل التواصل الاجتماعي.

تبنى الحرب الإدراكية على أساسين:

1- جعل الخصم غير مؤمن وغير مقتنع بقدرته على تحقيق أهدافه، وبالتالي عدم قدرته على الردع والمقاومة.

2- تدمير معنويات الخصم لدرجة أن يقوم بتدمير نفسه.

يتم ذلك من خلال تضليل الجمهور والرأي العام عبر تعميم النظرة الرمادية لمجريات الأحداث، وهو ما تقوم به بعض الوسائل الإعلامية والمنصات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ما يؤدي إلى زعزعة إرادة القتال والدفاع عن المعتقدات في وجه العدو.

كما يتم في الحرب الإدراكية تأجيج الصراعات ذات الطبيعة الخلافية من خلال التحريض على الشعارات الفئوية المتعلقة بمقدسات ومعتقدات وأفكار مثيرة للجدل، ما يجعل المقاوم مشتتاً وعاجزاً عن التركيز على القضية الأساس، وهي المقاومة في سبيل فلسطين.

يسعى العدو الإسرائيلي وداعموه إلى تحقيق النصر في المعركة الإدراكية بهدف فرض ثقافة الاستسلام للانحناء أمام المستعمر، ونزع الصراع من سياقاته التاريخية سياسياً وإعلامياً وثقافياً، كما يهدف إلى تقليب البيئة الحاضنة للمقاومة، ما يُضعف إرادة المقاومين ويدخل اليأس إلى نفوسهم.

ولكن كلام الليل يمحوه نهار الميدان، حيث جعلت إنجازات المقاومة من الحرب على الإدراك نقطة قوة؛ نظراً إلى قوة السردية المبنية على حقائق تاريخ طويل من المجازر والإبادات والقتل والتشريد بحق الفلسطينيين والعرب، والاتخاذ من هذه المظلومية الدافع والمبرر لجدوى استمرار المقاومة ونقطة ضعف للإسرائيلي؛ نظراً إلى ضعف سرديته القائمة على الادعاء الكاذب، على الرغم من تحكمه بكل التقنيات والمنصات وكل القيود التي تم فرضها لإخفاء حقيقة هزيمة “إسرائيل”، وحتمية النصر وتحرير فلسطين الأمر الذي زاد من شعبية المقاومة وأوصل الصوت الفلسطيني إلى كل أرجاء العالم.

عند إجراء مقارنة بين المقاومة والعدو الإسرائيلي تتجلى بوضوح معادلة “عقلية النصر مقابل عقلية الهزيمة”. على صعيد الحالة النفسية المرتبطة بالحرب النفسية والإدراكية للمقاوم والجندي الإسرائيلي، يبرز الفرق الشاسع الذي يُظهر امتلاك الفلسطيني والعربي سلاح إيمانه بقضيته وأحقيتها استناداً إلى تاريخ طويل.

يقاتل المقاوم في سبيل أرضه التي هي ملك له، ولأن بقاءه وقتاله فيها هو النصر، والاستشهاد على طريق تحريرها هو النصر الأكبر، حيث تمثل الشهادة الهدف الذي يسعى إليه.

هنا، يبرز تأثير العقيدة والثقافة الدينية والمجتمعية التي ترى في الشهادة استكمالاً للحياة الحقيقية ما يبقي معنويات الشعب والمقاتلين عالية وقائمة على الثقة والأمل على مبدأ “إننا محكومون بالأمل” كما يقول الكاتب سعد الله ونوس، على عكس الجندي الإسرائيلي الذي يرى في الموت نهاية حياته الأبدية الأمر الذي يجعله خائفاً ومرتبكاً مهما حاول إظهار العكس. وهذا ما أكدته تقارير إسرائيلية عرضتها الصحف ووسائل الإعلام العبرية التي تتحدث عن الحالة النفسية الصعبة التي يعاني منها الإسرائيلي “جيشاً” وشعباً وقيادةً.

حيث أعلنت مؤسسة “كلاليت” المختصة بالخدمات الصحية في الكيان أن عدد الوصفات الطبية النفسية ارتفع بنسبة 11% بسبب ارتفاع معدلات القلق والهلع والاكتئاب والإحباط النفسي، الأمر الذي يؤكد حتمية النصر والتحرير نظراً لشرعية القضية والهوية مقابل اللاقضية واللاهوية.

على صعيد الأمن القومي، وجهت ملحمة السابع من أكتوبر الضربة القاضية لمفهوم الأمن القومي الصهيوني على عكس المقاومة التي أدى إنجاز ٧ أكتوبر إلى التأكيد أن الأمن القومي لفلسطين المحتلة ولكل الدول العربية المجاورة لا يمكن ضمانه إلا بتحرير فلسطين وكل الدول العربية من الاستيطان.

ففي تعريف الأمن القومي: هو نهج يتضمن معلومات ويقوم على صنع استراتيجيات وسياسات بهدف حماية مصالح الأمة وسيادتها من التهديدات الداخلية والخارجية، إضافةً إلى الدفاع العسكري والاستقرار الاقتصادي.

وقد أدى إنجاز المقاومة في نقل الحرب إلى الملعب الإسرائيلي إلى زعزعة هذا المفهوم ما انعكس سلباً على ثقة المستوطنين بحكومتهم التي زعمت أنها قادرة على تأمين السلام والحماية لهم.

على صعيد الدعم الخارجي والداخلي، تحتضن المقاومة الفلسطينية والإسلامية بيئة شعبية داخلية تقاوم كل أشكال القتل والمجاعة والحصار والتدمير وبيئة قيادية واسعة ممتدة على أكثر من دولة وحركة مقاومة، ويحصلون على الدعم من محور المقاومة الذي يمثل نموذجاً فريداً في إستراتيجياته والتنسيق بين مختلف الأطراف لتحقيق الأهداف المشتركة القائمة على الرؤية الواحدة ولتحقيق الهدف الأساسي وهو تحرير فلسطين وتحرير كل البلاد من كل مظاهر الاستعمار والهيمنة.

وقد برز حجم التكامل بين دول وحركات المقاومة في هذا المحور من اليمن إلى العراق فسوريا وإيران، وصولاً إلى غزة وجنوب لبنان في الأشهر القليلة الماضية في مواجهة “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية.

بالمقابل، تعيش “إسرائيل” وسط جو من الرفض والخلافات وتقليب الرأي العام ضدها لصالح الفلسطينيين، فبرزت إلى الواجهة بشكل لا يمكن إخفاؤه الخلافات بين الحكومة اليمينية المتطرفة والمعارضين من جهة، وأهالي الأسرى والمستوطنين من جهة ثانية، إضافةً إلى أزمة نتنياهو الشخصية والسياسية المتمثلة بسؤال “ما الذي سيحصل في اليوم التالي بعد الحرب؟” كونه يدرك أن نهاية الحرب تعني تلقائياً نهاية وجوده السياسي ما يدفعه إلى تعميق الأزمة وجعلها أكثر تعقيداً وإطالة أمد الحرب والمجازر قدر الإمكان بحثاً عن صورة إنجاز ميداني يستطيع التفاخر به.

وخارجياً، تشهد “إسرائيل” حالة توتر بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية كما تمر علاقاتها مع الوسطاء العرب (قطر ومصر) بخلافات نتيجة الرفض الإسرائيلي لأي محاولة تهدئة، وإصراره على تحقيق أهداف الحرب المزعومة المتمثلة في القضاء على حركة حماس وردع المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان. كل هذا يأتي وسط انقلاب في الرأي العام العالمي ضد الكيان الصهيوني لصالح فلسطين.

في الميدان، الذي يثبت بشكل لا مجال للجدال فيه حتمية نصر المقاومة تُدار المعركة مع العدو الإسرائيلي الهمجي بذكاء وحنكة بناء على إستراتيجية طويلة وتكتيكات تتطور كل يوم وفقاً لتطور شكل المعركة والأحداث، الأمر الذي يسمح بتطور الأسلحة المستخدمة والتقنيات والمناورات بهدف إرهاق العدو واستنزافه.

كما تتميز إدارة المقاومة للمعركة بالسرية والخصوصية والجدية كونهم يخوضون الحرب على أرضهم التي يعلمون كل تفاصيلها وأسرارها الأمر الذي يجعل النصر حليفاً لهم.

بالمقابل، يقاتل الإسرائيلي بإرادة ضعيفة نظراً إلى ضعف حجته وسرديته في أرض غريبة عنه مهما حاول ادعاء الانتماء إليها فإنها تبقى محيطاً مختلفاً عنه وعن وجوده، إضافةً إلى عدم قدرته على فهم وكشف أساليب المقاومة وتكتيكاتها ما يجعله حتى اليوم عاجزاً عن تحقيق أي هدف من أهدافه ومن دون القدرة على تحقيق أي إنجاز عسكري أو سياسي سوى المجازر والإبادة الجماعية التي يقوم بها التي تزيد أهل غزة صلابةً وإيماناً بالمقاومة بصفتها الممثل الشرعي الوحيد، والوحيدة القادرة على الحل.

وضعتنا هذه المعركة أمام حقائق جوهرية وهي أن مجتمعاتنا لا تنقصها الإمكانيات العسكرية ولا المادية لمواجهة “إسرائيل” بقدر ما يلزمها الوعي والإرادة الصلبة للمواجهة، كما أكدت المقاومة مرة جديدة أنها راسخة وثابتة بصفتها الحل الوحيد في وجه طغيان العدو الإسرائيلي.

عقلية النصر في داخلنا هي التي تحقق التحرير، وعقلية الهزيمة هي التي ستجعل الإسرائيلي يبحث في كل لحظة عن جدوى قتاله، ستجعله يضل الطريق، أما نحن فسنبقى نقاوم ونكتب على الطريق، لتغيير مجرى التاريخ وليكون العالم القادم هو عالم فلسطين.

* المصدر: الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب