خطاب السيد خارطة جديدة
أحمد فؤاد*
ما ترتب على عملية طوفان الأقصى، يوم السابع من أكتوبر، وما تلاها من دخول لمحور المقاومة إلى ساحة الجهاد المقدس ضدّ العدوّ المباشر، بأثقال مواجهته وأعبائها وحساباتها العصيبة، حقق للأمة العربية للمرة الأولى منذ قرون طويلة فرصة أن تكتب هي تاريخها وأن تمتلك هي مصائرها. هذه الحقيقة الساطعة وسط دخان الحرب وعظمة التضحيات التي دفعت للوصول إليها، قد أخذت البعض بالدهشة وعدم الاستيعاب، ثمّ سحبت البعض الآخر، حيث اشتد عليهم دويّ الإعلام الخبيث، إلى حيث الأوهام والخيال والمخاوف، هذه القلة التي أضاعت نفسها وأضاعت موقفها، كانت بحاجة إلى حديث من سيد المقاومة سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، ربما هي فرصة أخيرة وكريمة لإعادة الحياة لبعض القلوب.
خطاب سماحة السيد لمناسبة “يوم الجريح المقاوم”، وفي خلفيته ذكرى ميلاد سيد الشهداء أبي عبد الله –عليه السلام – حمل طوال كلماته وروحية خطابه معنى واحدًا أكثر من غيره، هو إحساس الفخر والثقة بما حققه محور المقاومة في ميادين القتال، ليس أمام الكيان التافه المهزوز، ولكن أمام عالم من القتلة المفسدين، وفي مواجهة خيانة قومية ودينية هي الأوسع في تاريخنا كله. والخطاب كله لا يحتاج لشرح نقاطه وتفصيلها، لكنّه للأمانة أشد ما يكون احتياجًا إلى إعادة سماعه بصوت السيد ومشاعره التي انتقلت إلينا في هذا الظرف، حيث انتقلت المواجهة من شكلها العسكري وفي الميادين والجبهات إلى صراع شامل، منه الحرب النفسية وحروب الشائعات، ونشر التخويف والتهويل، لكسر إرادة المقاومة لدى الناس، أو بعض الناس.
منذ 42 عامًا، ومنذ اللحظة المباركة الأولى التي انطلقت فيها المسيرة المظفرة للمقاومة الإسلامية في لبنان “حزب الله”، كانت المنطقة والعالم العربي يعاينان ظاهرة متفردة وعظيمة لمعاني الجهاد والإخلاص والفداء، أمام عدو أميركي ووكيل صهيوني ظنّا أن المنطقة قد فتحت أمامهما تمامًا بفعل اتفاقية “كامب ديفيد”، التي أحدثت أثرًا مدويًا على النفسية والإرادة العربيتين، ثمّ إنها فوق ذلك أضاعت بوصلة مصر، التي تتخبط ولا تزال في تيهٍ نهايته باتت الآن معروفة لا ينقصها إلا الوقت.
إن المعايير والقيم والحقائق العليا التي حملها دخول الحزب إلى ساحة المواجهة، وحيدًا غالبًا في بداياته، منذ العام 1982، حين كانت القلة المستضعفة المؤمنة -وفرق مروع بين الضعيف والمستضعف- تقاتل العدوّ في داخل الأراضي اللبنانية تغيرت في 2024 عنها في 1982، ودارت العجلة دورتها الكاملة، لتصبح المعركة اليوم شمال فلسطين المحتلة، والعنوان الذي يغازل العقل الواعي والقلب الذكي هو “التحرير”، ليس غيره، ولا أقل.
سماحة السيد وجّه رسالته الثلاثية، إلى العدوّ الغبي وإلى بيئة المقاومة الكريمة، وإلى الموهومين بعصر القوّة الأميركية الذي بهت، فقال سماحته: “من يهدّدنا بالتوسعة أقول له بتوسّع منوسّع وبتعلّي منعلي، ومن يتصور للحظة واحدة أن المقاومة في لبنان تشعر ولو للحظة واحدة بخوف أو ضعف أو ارتباك هو مشتبه ويبني على حسابات مخطئة تمامًا، وهذه المقاومة التي تقاتل اليوم هي أشد يقينًا وأقوى عزمًا من أي يوم مضى، للاستعداد ومواجهة العدوّ في أي مستوى من مستويات المـواجهة، دون أي تردّد ولا قلق”.
في هذه الأيام التي وصلت فيها المعركة إلى ذروتها، وتحولت إلى عملية “فرز وغربلة” واسعتين للأطراف والمواقف والإنسان حتّى على المستوى الشخصي المجرد أمام نفسه، لا يزال الحزب هو الطرف الذي لا يخذلنا، يثبت حتّى حين يتراجع الجميع، ويصمد حين يفر الكل إلى الخندق الأمريكي. وفي السنوات العربية السوداء من 2003 إلى 2006 لم يحقق ثأرنا ويحُز انتصارنا ويمثل ردنا سوى الحزب وسيد الوعد الصادق، ولم يرد كابوس سقوط بغداد المخيف سوى انتصار تموز الملهم، بالنسبة لهذا الجيل على الأقل.
لخص سماحة سيد المقاومة هذا الخط الثابت، بقوله: “ما نقوم به هو بالدرجة الأولى استجابة صادقة للمسؤولية الايمانية والأخلاقية والدينية، ما نقوم فيه في جبهتنا اللبنانية هو كذلك مسؤولية وطنية بالدرجة الأولى لمنع انتصار “إسرائيل””، وهو ما يجعل أية أنباء أو أحاديث عن تسويات قريبة يروج لها إعلام العدوّ وخدمه العرب فاقدة لكل معنى وقيمة وتأثير. الحرب في جبهة جنوب لبنان مستمرة طالما استمر العدوان الصهيوني والحصار على غزّة، هكذا قضي الأمر.
في مراحل الفرز، خصوصًا وإن ارتبطت بثمن غال وتضحيات جسيمة وثقيلة ومطلوبة، آن لنا أن نوجه تلك التحية المباركة الزكية الطيبة التي وجهها السيد إلى الجنوبيين أهل العز والشرف، من يقاومون كفعل يومي وعهد متجدد ومقدس، من يقدمون مباشرة من دمائهم وبيوتهم وأموالهم “ثمن نصرة” أهلهم في غزّة، البيئة الكريمة التي لا تعرف المهرجانات ولا مباريات الكرة التي تشغل شعوبًا أخرى، ويكتبون من جديد معادلتهم الخاصة أن الفقر ليس قلة مال، لكن الفقر الحقيقي هو قلة النخوة وقلة الكرامة وقلوب سوداء جائعة لا تحس ولا تألم ولا ترى.
* المصدر: موقع العهد الاخباري
* المقال يعبر رأي الكاتب