أيمن الرفاتي*

مع اقتراب الحرب على غزة “طوفان الأقصى” من شهرها الرابع، عادت قضية تحرير الأسرى من سجون الاحتلال لتكون الملف التطبيقي الأول لدى المقاومة ضمن الضرورة التي تحوّلت إلى عقيدة لدى الفلسطينيين مهما كان ثمنها، وبات الحديث اليوم عن تبييض السجون ضمن صفقة كبيرة في نهاية الحرب.

ومؤخّراً في ظلّ حراك يقوم به الوسطاء لإنهاء الحرب في القطاع، ما زالت المقاومة تصرّ على صفقة تبادل كبيرة مع الاحتلال للإفراج عن الأسرى الصهاينة الذين ألقي القبض عليهم خلال اقتحام منطقة غلاف غزة وتدمير فرقة غزة في “جيش” الاحتلال، ولفهم دوافع معركة طوفان الأقصى يجب معرفة الدوافع لدى المقاومة الفلسطينية فيما يتعلّق بملف الأسرى.

على مدار الصراع مع الاحتلال كانت قضية الأسرى أحد الملفات الهامّة التي أراد الاحتلال من خلالها وقف وتفكيك العمل المقاوم، حيث اتخذ سياسة مشدّدة لاعتقال الفلسطينيين بهدف جمع المعلومات، وبهدف معاقبة من يعملون في المقاومة، وبهدف عزل المقاومين عن الجماهير التي كانت تتأثّر بأعمالهم المقاومة.

وخلال سنوات الصراع مع الاحتلال كثّف الاحتلال عمليات الأسر للمقاومين، وبلغت الأعداد في بعض الأحيان عشرات الآلاف، وهو ما فرض على المقاومة وضع ملف الأسرى على رأس أولويات العمل المقاوم، والتفكير في حلول لهذا الملف، ولم يجد الفلسطينيون وسيلة سوى أسر جنود الاحتلال لمبادلتهم بالأسرى.

وحينما فشلت كلّ الوسائل في الإفراج عن الأسرى في سجون الاحتلال، تحوّلت قضية أسر الجنود بهدف إجراء صفقات تبادل مع الوقت من عمليات اضطرارية ضمن العمل المهني لقوات المقاومة، إلى عقيدة يحملها المقاتلون في الفصائل الفلسطينية، ما بين تخطيط وتجهيز، وفكر قتاليّ خلال المعارك، وبات كلّ مقاتل يرى أن أحد الأهداف السامية التي يقوم بها خلال المعركة أن ينفّذ عملية أسر لجنود العدو.

الحالة الشعبية ساعدت في تحويل عمليات أسر الجنود من ضرورة إلى عقيدة، إذ بات يرى المواطنون أن تنفيذ عمليات تبادل الأسرى جزء من حالة الانتصار على العدو، وهو ما جعل قيادة المقاومة والمقاتلين توّاقين لتحقيق جزء من النصر، عبر ترسيخ عمليات أسر الجنود ومبادلتهم بالأسرى في سجون الاحتلال.

فيما كان للأحكام العالية التي أصدرتها محاكم الاحتلال على المئات من الأسرى الفلسطينيين، دور بارز في تحرّك المقاومة للتفكير في تنفيذ عمليات أسر بهدف التبادل وإنهاء معاناة قد تستمر لسنوات طويلة، وذلك يعود إلى البعد الإنساني والأخلاقي والثوري الذي لا يقبل فيه أن يدفن الكثير من الأسرى داخل الزنازين لسنوات طويلة أو مدى الحياة.

ومع تجذّر الصراع مع العدو، ظهرت الكثير من الدوافع التي حتّمت على المقاومة وقيادتها العمل في قضية الأسرى في سجون الاحتلال وتطوير الأدوات لإنهاء هذا الملف بأسرع وقت، وقد انعكس هذا الأمر ليصبح عقيدة في ضوء الدوافع الملحّة للإفراج عنهم.

وقد توجّهت المقاومة إلى عقيدة أسر الجنود من منطلقات قانونية تؤكّد حقّ مقاومة الاحتلال، والتجارب التاريخية لعمليات تبادل الأسرى بين الدول وقوات التحرير.

عقيدة أسر الجنود تعدّ (عقيدة بيئية) أي أنها ثاني أنواع العقيدة العسكرية على المستوى العملياتي، وهي عبارة عن المبادئ الأساسية التي تنتهجها الوحدات الرئيسية للقوات، لتوجيه نشاطاتها العسكرية المختلفة لتحقيق الأهداف المرسومة لها. وتعدّ العقيدة البيئية مكمّلة للعقيدة الأساسية التي توجّه مستخدميها إلى الأهداف العسكرية والوطنية التي ينشدونها، وهي التي تربط بين العقيدة في أعلى مستوياتها (الاستراتيجي) وأدنى مستوياتها (التعبوي).

وتعرف عقيدة أسر الجنود بأنها المذهب العسكري الذي اتخذته المقاومة في مجالات عملها العسكرية والمتعلقة بملف الأسرى في سجون الاحتلال، حيث بنت عدداً من المبادئ الاستراتيجية بهدف مواجهة العدو، وقد تنوّعت مبادئ هذه العقيدة ما بين التجهيز وتنفيذ العمليات، وصولاً للحفاظ على الجنود الأسرى، وقواعد العمل في صفقات التبادل.

وقد أدخلت المقاومة قضية أسر الجنود ضمن “العقيدة القتالية” (Fighting Doctrine) لديها للدلالة على المستوى العملياتي من العقيدة العسكرية، و”عقيدة القتال” (Combat Doctrine) للإشارة إلى المستوى التعبوي.

وخلال العقدين الأخيرين ومع تطوّر المقاومة الفلسطينية بنت الأجنحة العسكرية مجموعة من القيم والمبادئ الفكرية التي تهدف إلى إرساء نظريات العلم العسكري وعلوم فن الحرب، لتحدّد بناء واستخدامات قواتها في زمن السلم والحرب بما يحقّق الأهداف والمصالح الوطنية، وقد كان ملف الأسرى في سجون العدو أحد أهم هذه القيم والمبادئ الفكرية التي انعكست كنظريات في عملها العسكري.

وخلال السنوات الماضية رسّخت المقاومة هذه المفاهيم لتصبح في مجملها مبادئ وسياسات وتكتيكات وتقنيات وعمليات تدريب، بهدف ضمان الكفاءة خلال عمليات التجهيز والقتال مع العدو، وقد انتقلت عقيدة أسر الجنود لتكون مشروعاً هاماً ضمن مشاريع المقاومة المتكاملة بدءاً من القيادة حتى الجنود في الميدان.

وقد نفّذت المقاومة الفلسطينية خلال معركة طوفان الأقصى هذه العقيدة، حيث هدفت العملية العسكرية لمختلف الفصائل إلى تنفيذ عمليات أسر للجنود والمستوطنين في منطقة غلاف غزة لتنفيذ صفقة تبادل يتم خلالها الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين.

* المصدر: موقع الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب