ميشال كلاغاصي*

 

في اليوم السابع والأربعين للحرب العدوانية الهمجية الشرسة التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، بعد عملية طوفان الأقصى، توصل الطرفان إلى هدنة موقتة ووقف موقت لإطلاق النار لمدة أربعة أيام، تحت عناوين تبادل الأسرى، وإدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة.

لا شك في أن الهدنة تبدو نوعاً متبايناً عن الهدن التي سطرتها جميع الحروب التي ذكرها التاريخ، والتي غالباً ما كانت تأتي في ظل انتهاء العمليات العسكرية، وجلوس الجانبين المتصارعين إلى طاولة المفاوضات، لإعلان الاتفاق على حلولٍ سياسية، تكون مبنية على نتائج المعارك الميدانية، بما في ذلك إعلان انتصار أحد الأطراف، واستسلام الآخر.

كان من المتوقع والمخطط قَبل بدء عملية طوفان الأقصى أن تكون في نهايتها هدنة وطاولة مفاوضات مبنية على هزيمةٍ وكسرٍ لهيبة قوات الكيان الإسرائيلي، ووضعه أمام ضعفه وهشاشة قدراته الاستخبارية، من أجل إجبار قادته على خوض المفاوضات بواقعية بعيداً عن التهويل وضجيج الأوهام والغطرسة، وبما يُفضي إلى إيجاد حل سياسي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وخصوصاً بعد تراجع ألق القضية الفلسطينية بالنسبة إلى بعض الأنظمة العربية، وتزايد عمليات التطبيع، واتفاقيات أبراهام، ومحاولات دمج الكيان الإسرائيلي في المحيط العربي، وتزايد أعداد من باتوا لا يرون الإسرائيليين أعداء للأمة العربية جمعاء، بالتوازي مع استمرار الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية في دعم المشاريع الصهيو – أميركية المشتركة، والتي تطال مصير القضية الفلسطينية، ومصير دول منطقة الشرق الأوسط برمتها.

كان لا بد للمقاومة الفلسطينية من إطلاق صرختها، كي تُسمع العالم وتعيد التذكير بما يتعرض له الشعب الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة، من ممارسات وجرائم يومية اقترفها الإسرائيليون بحق الشعب الفلسطيني، ناهيك بالحصار والظلم والعنف وتهديم البيوت والاعتقالات من دون أدنى سبب، بالإضافة إلى تمادي قواته ومستوطنيه في انتهاك حرمة الكنائس والمساجد والمؤسسات، والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، واستمرار سياسة قضم الأراضي وتهويدها وتهجير أهلها.

في حقيقة الأمر، أرادت المقاومة الدفاع عن نفسها وشعبها وحقوقها ومقدساتها ووجودها في أراضيها، أمام إعلان رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو تلك الخرائط التي رفعها في الأمم المتحدة، وكشف من خلالها النيات والمخططات التي ستجعل القضية الفلسطينية واقعاً يسهل معه تصفيتها، وحرمان الفلسطينيين من تقرير مصيرهم، ومن طاولة المفاوضات، التي يُفترض بها أن تُفضي إلى إيجاد الحل السياسي العادل والمنصف والمعلن والمدعوم دولياً للقضية الفلسطينية. وبناءً عليه، كانت عملية طوفان الأقصى.

منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي الهمجي، تداعت عدة دول إلى تحضير الهدنة والمفاوضات، بينما سارعت الولايات المتحدة إلى فرض طريقة التعامل، وأعلنت دعمها المطلق وتأييدها “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، والتحق بها عبيدها الأوروبيون، ومن أجبرتهم واشنطن على الالتحاق بسياستها الخارجية، وبتأييد القضاء التام على حركة حماس وسائر فصائل المقاومة، وبالخلق والابتكار لصيغٍ دولية أو أممية أو حتى عربية لإدارة أمنية وسياسية جديدة في قطاع غزة.

لم يتأخر الأوروبيون أنفسهم، ومن دعموا “الانتقام” والعدوان الهمجيين الإسرائيليين، في التراجع التدريجي أمام هول المجازر التي ارتكبها الأمريكيون والإسرائيليون، وأمام ضغوط التظاهر الشعبي في عواصمهم وحول العالم، غضباً واستنكاراً للعدوان الإسرائيلي الهمجي المتوحش، وأمام الأعداد المذهلة للشهداء والضحايا من الأطفال والنساء والمسنين، وأمام قصف البيوت والمستشفيات، واستمرار الحصار الخانق.

لقد طالب المتظاهرون وعشرات الدول حول العالم بهدنة إنسانية، وبوقف اّلة الموت الإسرائيلية، وبإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين المدنيين، وبإدخال المساعدات الطبية والإنسانية والغذائية والوقود والغاز للقطاع، من خلال مواقف إنسانية بحتة، واعتقدوا أنهم انتزعوا، بموافقة الحكومة الإسرائيلية على الهدنة الموقتة، موقفاً إنسانياً أخلاقياً من الكيان المعروف بهمجيته وتاريخه الإجرامي، على الرغم من وصف وزير الأمن الإسرائيلي في 21 نوفمبر عملية إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين من سجونهم بأنها “واجب أخلاقي للحكومة الإسرائيلية”.

بالتأكيد، لم تكن موافقتهم نتيجة أسباب إنسانية وأخلاقية، بل نتيجة أسباب تتعلق بفشل جيش الاحتلال وهزيمته في التوغل البري، وبحجم خسائره العسكرية، وباستمرار المقاومة في إطلاق صواريخها، ناهيك بارتفاع أعداد القتلى والجرحى والأسرى في صفوف قواته، بالإضافة إلى الخسائر المادية والاقتصادية التي أصابت الكيان، وحالة الذعر وفقدان المستوطنين الشعور بالأمن والأمان على امتداد الكيان، ونزوح مليون مستوطن نحو العمق الإسرائيلي، ومغادرة نصف مليون آخرين الأراضي المحتلة في اتجاه أوروبا وأمريكا.

أمورٌ، في مجملها، دفعت الكيان إلى قبول الهدنة الموقتة، وقبول انكشاف ضعفه وفشله في تحقيق أي من أهدافه المعلنة، وعلى رأسها القضاء التام والنهائي على المقاومة في غزة، في مقابل رضوخه لإرادة المقاومة، التي منحت شعبها فرصة التقاط الأنفاس، ودفن الشهداء، ولم الشمل، وتأمين وصول الجرحى إلى المستشفيات، ودخول المساعدات.

إن سعي المقاومة للجلوس إلى طاولة المفاوضات ليس هدفاً، في حد ذاته، بقدر ما تعنيه الهدنة الموقتة من اختبار وفرصة للعدو الإسرائيلي، كي يعيد حساباته وفق مجمل النتائج الميدانية لعدوانه الفاشل، والتفكير بواقعية لتحويل الهدنة الموقتة المبتكرة، إلى هدنة دائمة، تفسح المجال أمام الحل السياسي المنشود والمدعوم دولياً، وما بين الانتقال نحو الحرب الموسعة، التي ستكون كارثية النتائج بالنسبة إلى الكيان الغاصب، وقد تكون الأخيرة له في هذا الصراع الطويل، على الرغم من الحسابات والعضلات الأميركية والغربية عبر استجلاب البوارج وحاملات الطائرات والغواصات، بهدف التهويل وكرسائل تهديد مباشرة لمنع محور المقاومة من دخول المعركة، لكن رسائل المقاومة أتت أكثر وضوحاً وجرأةً وثباتاً في تصريح السيد حسن نصر الله بأن البوارج والحاملات الطائرات “لا تخيفنا وقد أعددنا لها العدة”.

استغرب الكثيرون بنود الهدنة الموقتة وطبيعته، وخصوصاً أنها ترافقت بالوعود والتهديدات الإسرائيلية والتأييد الأمريكي، بمواصلة العدوان والعمليات العسكرية بعد انتهاء أيام الهدنة الأربعة المتفق عليها، وبتأكيد نتنياهو أن “تل أبيب ستواصل الحرب حتى تحقيق جميع الأهداف، وبالقضاء على حماس، وباستعادة جميع الأسرى، وضمان نهاية تهديد إسرائيل في غزة”.

على الرغم من البدء بتنفيذ بنود الهدنة، فإن العدو الإسرائيلي لم يلتزم بشأنها، وحاول عرقلة عملية تبادل الأسرى وتأخيرها خلال دفعاتها الثلاث، وبعدم التزامه السماح لعدد من شاحنات المساعدات المتفق عليها من دخول القطاع، وبالتحكم في حركة الفلسطينيين بين الشمال والجنوب، ناهيك بمحاولاته للتوغل في جنين وفي عدة مدن ومناطق في الضفة الغربية، واعتقاله أعداداً كبيرة من المدنيين الفلسطينيين.

إن مشهد إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين لا يمكن مقارنته بالمشهد ذاته على مقلب المقاومة، وقد تجلت صورة تعامل عناصر المقاومة الإنساني للمحتجزين الإسرائيليين والأجانب على مرأى ومسمع من العالم كله، على عكس المعاملة الإسرائيلية للأسرى الفلسطينيين، في الوقت الذي خرجت فيه جموع أهالي غزة والضفة لاستقبال أسراهم المحررين، وهم يهتفون للمقاومة، ويعبرون عن اعتزازهم وامتنانهم لسعيها وجهودها وتضحياتها من أجل إطلاق سراحهم من السجون الإسرائيلية، وتم رفع الأعلام الفلسطينية وأعلام حركة حماس والقسام والجهاد الإسلامي وسائر الفصائل، وصور القادة، بالتوازي مع تظاهر عدد كبير من الإسرائيليين ضد نتنياهو ومطالبتهم برحيله ومحاسبته، وسط تحميله مسؤولية ما تعرضوا له.

ومع اقتراب مدة الهدنة الموقتة من الانتهاء، تضاعفت جهود المقاومة، والدول الراعية لاتفاق الهدنة، وادعاءات الولايات المتحدة بممارسة ضغوطها على نتنياهو، بالإضافة إلى مواقف عشرات الدول الغربية والعربية والصين وغيرها، لتمديد الهدنة، والبحث عن مزيد من تبادل الأسرى.

لقد كشفت الهدنة الموقتة عن همجية الاحتلال وفظاعة المجازر، وحجم الدمار الهائل الذي تسبب به العدوان خلال خمسين يوماً الأخيرة، لكنها كشفت، في الوقت ذاته، عن الصمود والتلاحم غير المسبوقين عبر التاريخ، بين المقاومة والفلسطينيين، وإصرار غزيّي الشمال على العودة إلى بيوتهم ومنازلهم وهي المدمرة بالكامل.

كذلك كشف حقيقة وجود المقاومة وانتشارهم وسيطرتهم على أغلبية أراضي القطاع، الأمر الذي يؤكد أن الأمور تعود إلى مربعها الأول، وأن المقاومة بخير وقدراتها بخير، وأن العدو فشل في سحقها واستئصالها، وفي تحويل غزة إلى أرض خربة خالية، وأن المخططات الإسرائيلية والأمريكية – الغربية بُنيت على أوهام نتنياهو وأعتى متطرفي حكومته.

وعبّر رئيس الدبلوماسية الأوروبية جوزيب بوريل عن مدى دهشته بالمقاومة، وأنها ليست مجرد مقاتلين، وإنما هي، بحسب وصفه، “فكرة وأيديولوجيا” تمتدان على كامل الأراضي الفلسطينية. وبناءً عليه، تبدو فكرة القضاء على المقاومة حلماً ووهماً لمن نادى بها واندفع وراء سراب تحقيقها.

وعلى رغم تمديد الهدنة يومين إضافيين، فإن الكرة تبدو اليوم في الملعب الإسرائيلي المرتبك، وبات على قادة الكيان الاختيار بين تحويلها إلى هدنة دائمة والاتجاه نحو الحل العادل للقضية الفلسطينية، وبين تنفيذ تهديداته ووعيده بمتابعة العدوان على غزة، بمعنويات منخفضة وبأيدٍ مرتجفة خائفة، وبجبهة داخلية رافضة للحرب، ومن دون أدنى أمل في تحقيق تقدم أو انتصار، ومن دون دعم دولي معلن، وسيكون العدوان بهدف العدوان والإبادة الجماعية فقط، الأمر الذي لن يسمح به محور المقاومة مجتمعاً، وكذلك دول العالم وشعوبه قاطبةً.

* المصدر: الميادين نت

* المقالة نعبر عن وجهة نظر الكاتب