نهاية العصر الأميركي
عماد الحطبة*
بدأت معالم النصر الفلسطيني تظهر مع انطلاق معركة “سيف القدس”. كانت تلك المعركة تمريناً ميدانياً على المواجهة مع العدو من خلال وحدة الساحات الفلسطينية.
العنوان لمقال للكاتب الأميركي ستيفن والت كتبه عام 2011، وتحدث فيه عن المسار الانحداري للسيطرة الأميركية على العالم، ليصل إلى استنتاج مفاده أن “العصر الذي كانت فيه الولايات المتحدة قادرة على إنشاء وقيادة نظام سياسي واقتصادي وأمني في كل جزء من العالم يقترب من نهايته”.
هدف المقال كان تقديم النصح لصانعي القرار الأميركيين لتجنب المزيد من التآكل في السطوة الأميركية على العالم. يبدو أن ساسة الولايات المتحدة الأميركية لم يستمعوا إلى نصائح السيد والت، واستمرت الولايات المتحدة وحلفها الأطلسي بالانحدار حتى وصل الأمر بهم إلى المطالبة بإنشاء تحالف دولي لمحاربة حركة مقاومة محلية تسيطر على 360 كم2 فقط من مساحة هذا العالم المترامي الأطراف. هذه الحركة اسمها “حماس”.
بدأت الهيمنة الأميركية على العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية، مستغلة الدمار الذي حل بأوروبا الغربية نتيجة الحرب.
عام 1945، أنتجت الولايات المتحدة منفردة 50% من إجمالي الناتج العالمي، واستغلت هذه الميزة الاقتصادية لتعمل على تشكيل العالم وفق مصالحها. لقد سيطرت الولايات المتحدة على حلفائها بشكل مباشر من خلال خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا أو من خلال القواعد العسكرية المنتشرة في العديد من دول العالم. ولكي تضمن استمرار هذه السيطرة، لجأت الولايات المتحدة إلى دفع حلفائها للانضمام إلى مؤسسات دولية قامت بصناعتها لضمان استمرار هيمنتها، مثل منظمة الأمم المتحدة والبنك والصندوق الدوليين ومنظمة التجارة العالمية.
ارتكزت هيمنة الولايات المتحدة على خلقِ عالم مستقر، وخصوصاً في الجزء الغربي منه، وفرض التبعية للنمط الاقتصادي الغربي على حلفائها، وفي الوقت نفسه، فرض حصارٍ على خصومها بقيادة الاتحاد السوفياتي من خلال ما عُرف بـ”الستار الحديدي”.
واعتمدت الولايات المتحدة على موقعها الجغرافي البعيد من ساحات الصراع والحروب لتفرض هيمنتها العسكرية على العالم من دون الخوف من العواقب المباشرة لعملياتها العسكرية. لذلك، لم تتأثر هذه الهيمنة الأميركية بهزيمتها في حرب فيتنام أو بنجاح الثورة الكوبية أو حركات الاستقلال الوطنية في دول عديدة من العالم.
لقد استطاع الاقتصاد الأميركي الضخم امتصاص جميع حركات “التمرد”، ودفعها إلى الانخراط في آلياته من خلال مجموعة من الإجراءات، أهمها اعتماد الدولار عملة دفع عالمية وحيدة.
بلغ “العصر الأميركي” ذروته عام 1990 بانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك منظومة الدول الاشتراكية. وبحسب مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق برنت سكوكروفت، وجدت الولايات المتحدة نفسها “تقف وحيدة في ذروة القوة. لقد كان وضعًا لا مثيل له في التاريخ، وهو الوضع الذي يقدم لنا أندر فرصة لتشكيل العالم”.
تصرفت أميركا على هذا الاساس ناسيةً أو متناسية أن الاتجاه الوحيد أمام من يتربع على القمة هو النزول نحو الأسفل. على مدى عقدين من الزمن، ارتكب القطب العالمي الوحيد جميع الأخطاء التي تدفعه نحو الانحدار. كانت الحرب على العراق وأفغانستان أكبر هذه الأخطاء. أظهرت هاتان الحربان محدودية القدرة الأميركية على خلق حقائق على الأرض تحقق مصالحها.
العراق الذي سعت لتدميره بذريعة معاداة قيادته لأميركا وكيان “إسرائيل”، انتهت الأمور فيه إلى حالة شعبية أكثر جذرية وعقائدية في العداء لأميركا و”إسرائيل”، وإلى دولة عراقية أكثر قرباً من إيران التي تعتبرها الولايات المتحدة عدوها الأول في المنطقة.
لقد أظهرت الحرب على العراق وأفغانستان أن الحرب بين القوى غير المتكافئة تنتهي دائماً لمصلحة القوة الأضعف. هذه التجربة كررها حزب الله في لبنان عامي 2000 و2006، وكررتها المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزّة، وسوريا في مواجهة حرب كونية جمعت لها الولايات المتحدة الإرهابيين من كل أصقاع الأرض وزودتهم بقدرات عسكرية هائلة، وفي اليمن في مواجهة تحالف دولي خارق القوة تقوده المملكة العربية السعودية التي أنفقت مليارات الدولارات من دون التمكن من تحقيق النصر المطلوب.
إضافة إلى التراجع والفشل العسكري المتكرر، كانت القوى الصاعدة اقتصادياً تهدد الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي. وإضافةً إلى الصين التي أصبحت تستحوذ على أكثر من 25% من الإنتاج العالمي، ظهرت قوى إضافية مثل الهند والبرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا، وهي دول تسيطر مجتمعة على أكثر من 45% من إجمالي الناتج العالمي.
رغم أن بعض هذه الدول تدور في الفلك الأميركي سياسياً، فإنّها أصبحت مضطرة إلى أخذ مصالحها الاقتصادية المتضخمة بعين الاعتبار، وهو ما ظهر في رد فعلها على العقوبات الأميركية على روسيا مع بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
هذا التراجع الأميركي انعكس على الأرض بازدياد حركات التمرد ضد الولايات المتحدة ومصالحها وحلفائها. في فلسطين، فقد الجميع الثقة بقدرة الولايات المتحدة على إنجاح عملية السلام التي كانت الراعي الوحيد لها منذ انطلاقها. تحوَّل انعدام الثقة إلى حالة يأس من الحلول السياسية، وخصوصاً بعد ذهاب الولايات المتحدة نحو الحلول الاقتصادية من خلال اتفاقيات التطبيع وما عرف بـ”السلام الإبراهيمي”. لم يكن يأس الفلسطينيين سلبياً، بل مثّل استعادة للخط المقاوم الذي طبع نضال الشعب الفلسطيني بطابعه.
بدأت معالم النصر الفلسطيني تظهر مع انطلاق معركة “سيف القدس”. كانت تلك المعركة تمريناً ميدانياً على المواجهة مع العدو من خلال وحدة الساحات الفلسطينية، بما فيها الأراضي المحتلة عام 1948، وكانت معركة وحدة الساحات تمريناً ميدانياً آخر، ليأتي السابع من أكتوبر 2023 ويكون يوم تحقيق النصر الفلسطيني على المستعمرة الأميركية المسماة كيان “إسرائيل”.
انتهت الحرب وانتصرنا. ما يفعله العدو الصهيوني مدعوماً بالقوة العسكرية الأميركية على الأرض ليس سوى سلسلة من المجازر الوحشية التي لن تلغي ما حدث يوم 7 أكتوبر. لقد أضافت المقاومة الفلسطينية في غزّة مسماراً آخر إلى نعش العصر الأميركي، وأعلنت أنها شريكة في المستقبل الذي تصنعه الشعوب.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب