صمت نصر الله
محمد جرادات*
متى يتكلم السيد؟ هنا يأتي شوق المستضعفين لإطلالته الندية، وهم يثقون بأن صمته، في ظل قرارٍ صدر، ولكنه ينتظر التوقيت، هو صمتٌ مقصود لما يتطلبه ميدان الطوفان.
يشغل سماحة السيد حسن نصر الله فضاء الكيان الصهيوني بهيبة صمته، لما كان في إطلالاته المعتادة على مفارق الأحداث والتحولات من وقع عميق في الرأي العام الصهيوني، وهو يتابعها باهتمام، وقد اعتاد من خلالها قراءة المشهد في ظل تناقض النخبة السياسية في الكيان، وخصوصاً مع تصاعد المواجهة في شمال فلسطين المحتلة على صدى طوفان الأقصى، حيث يتقاطر الشهداء من أمة حزب الله بالعشرات، وهم يثخنون بالوحش العبري، في هجمات منضبطة بإيقاع الميدان فيوقعون مئات القتلى والجرحى.
العالم كله منشغل بحزب الله، واحتمال مشاركته الكاملة في الحرب، مع تعاظم الجرائم الصهيونية، وهي توقع عشرات المجازر يومياً وآلاف الشهداء من الأطفال والنساء من أهل غزة المستضعفين.
لم يبق زعيم في الكيان الصهيوني، ولا في أميركا، وربما الغرب برمته، إلا وتحدث عن حزب الله، وبعث الرسائل والموفدين إلى بيروت، متهدداً متوعداً لبنان إذا دخل الحرب من بابها الواسع، حتى الرئيس الأميركي جو بايدن، خص حزب الله بهذا الانشغال، فتحدّث تارة عن دخول أميركا الحرب إذا دخلها حزب الله، وتراجع تارة أخرى، وبقي تائهاً بين الاحتمالين عبر وزير دفاعه في كل تصريحاته التي واكبت التحشيد الأميركي في مياه البحر المتوسط.
هيبة الصمت، على وقع ميدان تشعله قذائف الكورنيت، في اليوم خمس مرات، أكثر أو أقل، لا فرق ما دام رعبها يواصل إطفاء عيون جهاز الاتصالات الإسرائيلي، فيخص أبراجه ومرابض التحكم فيه بكثير من التركيز، ليبدو معها صمت قائد المقاومة كأنه فعل يتراكم ليكسر معادلة الميدان.
بالأمس، ومع اليوم الثامن عشر لاندفاع الطوفان، خرج رئيس الكيان الصهيوني هرتسوغ، ثم رئيس حكومة الكيان بيبي نتنياهو، وقبلهما قائد أركان الجيش هرتسي هليفي، وقد اندفع صراخهم في اليوم ذاته ليهددوا حزب الله ويتوعدوه في عواء يصدع الرؤوس دون توقف، ويقلل من هيبة سلاح التحذير، وكل متابع يرى أن العمليات النوعية التي ينفذها حزب الله عبر الجنوب، ومعه الجهاد وحماس، وقد وفّر لهما الغطاء السياسي مع الدعم اللوجستي، لو كانت هذه الهجمات في غير هذا الطوفان، لترتب عليها حرب مباشرة ضد لبنان، ولكنه طوفان غزة الذي أفقد الكيان توازنه، وهزّ جهازه العصبي إلى غير رجعة، وكبح همجيته عن إعادة لبنان إلى العصر الحجري، بحسب ما سبق أن توعد غالانت وقبله غانتس إذا خرجت رصاصة من لبنان.
سبق للكيان الإسرائيلي أن جرّب وقع الصمت التكتيكي وأثره في الميدان العسكري، غداة اغتياله قادة الجهاد في غزة لترد السرايا بنفير يلفه صمت القوة ليومين متتاليين، حتى اندفع ثأر الأحرار في “تل أبيب” ومستوطنات القدس، وهو الصمت ذاته الذي دفع هذا الطوفان؛ صمت القسام في حربين متتاليتين على غزة، في خداع استراتيجي صنع معجزة الطوفان الذي أغرق الكيان منذ عبور السابع من أكتوبر.
صمت السيد يؤرق أركان الكيان الصهيوني، وسط جعجعات تملأ الفضاء من واشنطن حتى “تل أبيب”، وقد صنع ميدان الجنوب قواعد اشتباك جديدة يقف فيها الصهيوني ليرد دون استراتيجية مبادرة على قذائف الكورنيت والصواريخ والمسيّرات التي وصل بعضها إلى سماء عكا وخليج حيفا، واندفع بعضها من أرض الجولان السوري المحتل.
“إنهم يصطادوننا كالبط”، “نختبئ في مرابضنا وكل واحد يتساءل: متى يأتي دوره؟”. هكذا عبّر جنودُ ثلاثٍ من فرق الجيش الصهيوني، المرابطة في شمال فلسطين، ليقرر قائد المقاومة مصيرها، وهي تقف على رجل واحدة دون استراتيجية، ربما بانتظار مزيدٍ من التحشيد الأميركي البحري، وهو الذي يقف عاجزاً حتى اللحظة عن حماية قواعده العسكرية في العراق وسوريا التي تعرضت لنحو 20 هجوماً منذ اندفع الطوفان، اعترف فيها الأميركي بجرح أكثر من 20 عسكرياً.
متى يتكلم السيد؟ هنا يأتي شوق المستضعفين لإطلالته الندية، وهم يثقون بأن صمته، في ظل قرارٍ صدر ولكنه ينتظر التوقيت، هو صمتٌ مقصود لما يتطلبه ميدان الطوفان، وإن هاجت عواطف المسحوقين في غزة، وكل بقعة من فلسطين، كما كل هذه الشعوب على امتداد المحور والإقليم والعالم، ترجو سماحته أن يطلق للريح هزيعها، فقد غمرت دماء غزة طيف الأفق حتى انعدمت الأنفاس عن البصر.
صمْت القائد، وهو العالم المثقف والسياسي المحنّك، وسط ضجيج المعركة وائتمار الغرب على سحق غزة، والبحر يعج بحاملات الطائرات الحربية، وسط هيجان الثور الإسرائيلي، بكل ما يطاله قرناه في غزة والضفة، فهو يرتكب المجازر في طولكرم وجنين وفي قلاع الأسر، بما يدفع المغلوبين على أمرهم لرجاء إطلالة السيد. عبرها يمكن للميدان أن يعتدل وسط هذا الجنون الإسرائيلي الذي لا يكف عن لعبة الدماء بورقة الضغط الوحيدة التي يملكها من دون شبع.
لا يتكلم السيد، ولكنه هنا في الضاحية يلتقي قادة ميدان الطوفان في اجتماع عاجل مع الأمين العام للجهاد زياد النخالة ونائب رئيس المكتب السياسي في حماس صالح العاروري، وهو اجتماع تكرر قبل الطوفان عدة مرات، ولكنه اليوم بمذاق جديد؛ مذاق ما بعد عبور السابع من أكتوبر، إذ تغيّرت كل أدوات الرؤية، ومعها كل أدوات التحليل السياسي والعسكري.
حتماً، سيصحو الصهيوني يوماً، ومعه الأميركي والفرنسي، كما كل منظومة التطبيع من رام الله والقاهرة حتى أنقرة ودبي، وجهاً لوجه مع السيد وهو يطل بابتسامة غضب تثلج أفئدة المستضعفين وترعب قلوب المجرمين، وعندها حيث تحلّ الصدمة الثانية بالكيان الصهيوني، والقائد يشير نحو تاريخ متجدد؛ انظروا إليها تحترق.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب