محمد منصور*

تتصاعد بشكل لافت النزعة “الانتقامية” في كل الأوساط السياسية والاجتماعية الصهيونية حيال ما أسفرت عنه الهجمات الفلسطينية المفاجئة والناجحة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

بطبيعة الحال، هذا الوضع يلقي بظلاله على المؤسسة العسكرية الصهيونية التي تجد نفسها -وهي محطمة المعنويات ومشتتة التفكير بسبب ما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر- تتقاذفها أمواج 3 تيارات رئيسية؛ الأول تيار يطالبها بـ”الثأر” للقتلى الذين سقطوا خلال الهجوم الفلسطيني، والآخر يحملها مسؤولية ما حدث خلال هذا الهجوم ويتوعدها بالمحاسبة لاحقاً. أما الثالث، فيأتي من اتجاه حكومة “الطوارئ” الحالية التي دخلت في سجال مكتوم مع قيادة “الجيش” حول أولويات المرحلة المقبلة من التحركات العسكرية نحو غزة.

العنوان الرئيسي لهذا السجال كان حول طبيعة وشكل وأهداف التحرك العسكري المقبل للقوات الإسرائيلية التي تحتشد حول قطاع غزة منذ الحادي عشر من الشهر الجاري، فحقيقة الأمر أن معظم السيناريوهات المتوقعة لهذا التحرك تتضمن تحركات برية مختلفة الدرجات والاتجاهات، لكن تبرز في هذا الإطار عدة تحديات ربما تكون أساس حالة السجال السالف ذكرها.

تحديات خطوة “تل أبيب” العسكرية المقبلة
التحدي الأول يكمن في ملف “الأسرى” الذين اعتقلتهم الفصائل الفلسطينية خلال هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فحتى الآن، لم تتمكن “تل أبيب” من تكوين صورة كاملة حول عدد الأسرى الموجودين في قطاع غزة، وعدد من بقي منهم على قيد الحياة، بالنظر إلى إعلان حركة حماس مقتل عدد منهم خلال الغارات الجوية الصهيونية، ناهيك بالمعضلة المتعلقة بالخسائر المتوقعة في صفوفهم ما إذا تم تفعيل عملية برية شاملة، وهو ما قد يفاقم حدة الغضب الشعبي الإسرائيلي تجاه المؤسسة العسكرية.

هنا، لا بد من ملاحظة أن للقوات الأمنية والعسكرية الصهيونية سوابق في “التضحية” بالرهائن، مثلما حدث خلال عملية “كمال عدوان” الفدائية الفلسطينية في أيار/مايو 1978، والتي أسفرت عن مقتل نحو 38 رهينة صهيونية، وبالتالي إذا ما افترضنا اتباع القوات الصهيونية تكتيكاً مشابهاً لهذا خلال تحركاتها البرية في غزة، فإن مسألة العثور على جثث الأسرى ستبقى معضلة إضافية.

التحدي المتعلق بإمكانية أن يطلق أي تدخل بري واسع النطاق في غزة شرارة مواجهة إقليمية أوسع في جبهات أخرى، سواء كان ذلك في الاتجاهين الشمالي والشمالي الشرقي لفلسطين المحتلة -أي الحدود مع لبنان وسوريا- أو حتى استهداف المصالح الصهيونية من جانب أطراف أخرى أبعد في الموقع الجغرافي، مثل إيران أو أنصار الله في اليمن. إمكانية حدوث هذا الاحتمال تبدو واردة، بالنظر إلى تلويح عدة أطراف تدور في فلك محور المقاومة بإمكانية دخولها على خط المعركة ضد “إسرائيل” ما إذا تدخل “الجيش” الصهيونية برياً في غزة.

هنا، تجب ملاحظة أن تراشقاً متقطعاً تم بين حزب الله و”الجيش” الصهيونية خلال الأيام الأولى للعمليات العسكرية في غزة، تحول بداية من اليوم الثامن للعمليات إلى اشتباكات يومية استهدف فيها حزب الله المواقع الصهيونية في مزارع شبعا بالصواريخ المضادة للدروع وراجمات الصواريخ قصيرة المدى.

وقد بدا أن الجبهتين السورية واللبنانية تنضويان على استخدام لافت لتكتيكات الحرب الإلكترونية والهجمات الوهمية، ما أدى إلى حدوث ارتباك واضح في منظومة القيادة في الجبهة الشمالية الإسرائيلية ستكون له نتائج سلبية على الأداء الصهيوني في حال تصاعد الوضع أكثر في هاتين الجبهتين.

بالطبع، تشكل “الفاتورة البشرية” التي قد تدفعها كيان “إسرائيل” في أي تحرك بري داخل غزة هاجساً رئيسياً، وتعدّ أحد أهم التحديات الماثلة أمام المخطط العسكري الصهيونية، فـ كيان “إسرائيل” في الوضع العام لا تستطيع تحمل خسائر بشرية كبيرة، وهو العامل الذي تزيد أهميته بعد العدد القياسي من المستوطنين والعسكريين الصهاينة الذين سقطوا في السابع من أكتوبر، وبالتالي تضع “إسرائيل” في اعتبارها تجنب حدوث أي خسائر كبيرة في صفوف قواتها خلال أي تحركات مقبلة في اتجاه قطاع غزة.

حقيقة الأمر أن التوغل داخل غزة على المستوى البري -وبالنظر إلى مواجهات سابقة نفذت فيها القوات الصهيونية عمليات توغل محدودة شمال وشرق القطاع- ينطوي على مصاعب ميدانية جمة؛ فالفصائل الفلسطينية تتجهز منذ سنوات لهذا الاحتمال.

وقد أظهرت عمليات السابع من أكتوبر حيازة هذه الفصائل قدرات نوعية، وخصوصاً الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات الانتحارية من دون طيار، إلى جانب تجهيزات جيدة على مستوى التسليح الفردي وتكتيكات الاقتحام والتمويه والقتال داخل المدن.

وبالتالي هذا في المجمل يجعل من دخول قطاع غزة برياً، رغم القصف الجوي المكثف الذي استهدف مسح كامل المناطق التي من الممكن الدخول إلى القطاع منها -وعلى رأسها المناطق الشمالية- مخاطرة عسكرية كبيرة ومكلفة، وخصوصاً أن تجربة “الجيش” الصهيوني في حرب المدن لا تبعث على التفاؤل، سواء في تجارب تاريخية سابقة مثل حصار مدينتي السويس والإسماعيلية عام 1973 أو العمليات القتالية في قرى جنوب لبنان عام 2006.

هذا الجانب يضاف إليه الوضع الحالي في الضفة الغربية، إذ باتت القوات الصهيونية هناك تحت ضغط الأنشطة الفلسطينية المختلفة، سواء كانت تظاهرات أو عمليات إطلاق نار أو إحراقاً للمستوطنات، وبالتالي إن توسيع حجم المواجهة في غزة والدخول برياً إلى القطاع قد يطلق شرارة انتفاضة فلسطينية ثالثة في عموم الأراضي المحتلة.

أخيراً، يبقى العامل الإقليمي والدولي مهماً في تحديد شكل ومستوى الخطوة العسكرية الصهيونية المقبلة في قطاع غزة، إذ بدا أنَّ “التضامن” الغربي مع “تل أبيب” في هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر بدأ بالتقلص بشكل تدريجي ملحوظ نتيجة المشاهد الواردة من قطاع غزة، وظهور بعض الآراء التي تفضل اكتفاء “تل أبيب” بما تم عسكرياً في غزة، وعدم تصعيد الموقف الميداني أكثر، وخصوصاً أن عملية تحول القوات الصهيونية من الحالة الدفاعية إلى الحالة الهجومية أخذت وقتاً أكبر بكثير مما تقتضيه الخطط العسكرية الصهيونية الأساسية التي كانت في مناسبات سابقة تمت مباغتة القوات الصهيونية فيها -مثل حرب أكتوبر 1973 مثلاً- تخصص ما بين يومين وأربعة أيام لاستدعاء قوات الاحتياط وبدء عملية الحشد للهجوم المضاد.

لكن لم تتمكن القوات الصهيونية من بدء هذه العملية بشكل كامل في حالة هجوم السابع من أكتوبر إلا في اليوم الثامن للعمليات، مع العلم أن منظومة القيادة والسيطرة الصهيونية ما زالت تعاني قصوراً ومشكلات لافتة تظهر من خلال عدة مؤشرات، من بينها تكرار “الإنذارات الكاذبة” في الجبهة الشمالية مع لبنان.

إذاً، بالنظر لما سبق من عوامل، إلى جانب عامل آخر مهم يتعلق بعدم قدرة كيان “إسرائيل” على خوض معركة ميدانية طويلة، نظراً إلى عوامل اقتصادية وبشرية عدة، يمكن القول إن سيناريو إطلاق عملية عسكرية برية ضد قطاع غزة يعدّ بشكل عام أسوأ الخيارات المحتملة وأخطرها على الجانب الصهيوني.

ورغم كونه تحولاً للهجوم، فإنه سيزيد بدرجة كبيرة حجم الخسائر الصهيونية في الأرواح، ويطيل أمد العمليات العسكرية، ويفقدها القدرة على إنهاء المعركة في الوقت الذي تريده وتحقيق الأهداف المرجوة من مثل تحرك كهذا، والتي ستكون في هذه الحالة -غالباً- إنهاء أي قدرات عسكرية للفصائل الفلسطينية وإعادة بسط السيطرة على قطاع غزة أو جزء منه.

بالعودة إلى الأوضاع الميدانية الحالية، يمكن القول إن عمليات حشد المدرعات والمدفعية والقوات الصهيونية على طول حدود قطاع غزة شارفت على الاكتمال، وإن عمليات “التمهيد النيراني” التي تسبق أي هجوم بري مستمرة منذ فجر العاشر من تشرين الأول/أكتوبر الجاري.

هذه العمليات تتضمن جانباً مهماً يتعلق بتركيز القصف الجوي الصهيوني على مناطق شمال قطاع غزة، وتحديداً بيت لاهيا وبيت حانون، بهدف إخلاء نطاق شمال القطاع وصولاً إلى منطقة “وادي غزة” وأطراف مخيم النصيرات وسط القطاع، وهو النهج الذي يمثل أبرز مؤشر على ميل القوات الصهيونية لتنفيذ أول سيناريو مطروح على المستوى الميداني، وهو سيناريو “اقتطاع جزء من أرض قطاع غزة”.

يتضمن هذا السيناريو -الأقرب من حيث القدرة على تنفيذه وارتباطه بإجراءات صهيونية تمت بالفعل على الأرض- السيطرة على أراضٍ تقع على أطراف قطاع غزة، وتحديداً المحافظة الشمالية المتاخمة لمستوطنات “زيكيم” و”سديروت”، بحيث يتم توسيع المنطقة العازلة المحيط بالقطاع وخلق “أرض حرام” يمكن من خلالها منع أي تحركات جديدة من جانب عناصر الفصائل الفلسطينية نحو مستوطنات غلاف غزة. وقد يتضمّن هذا السيناريو قيام القوات الصهيونية بعزل القطاع عن الحدود مع مصر، وهو اتجاه يبدو أقل احتمالاً نظراً إلى المواقف المصرية الحالية.

إذاً، من هذا المنطلق يمكن ترجيح السيناريو السابق ذكره، لكن هناك أيضاً 3 سيناريوهات أخرى مطروحة على الطاولة الميدانية، منها سيناريو “الهجوم الشامل” الذي تعمل من خلاله القوات الصهيونية على اختراق قطاع غزة من عدة محاور، لقطع التواصل بين محافظاته المختلفة وتدمير القدرات العسكرية للفصائل الفلسطينية على مستوى العتاد والأفراد، بحيث تتم إعادة احتلال كامل القطاع.

هذا السيناريو يبدو الأقل ترجيحاً بالنظر إلى مخاطر دخول أطراف إقليمية أخرى على خط هذه المواجهة، والكلفة العالية التي قد تتكبدها القوات الإسرائيلية خلال تنفيذها هذا الهجوم، في ظل احتمالات اندلاع “انتفاضة” جديدة رداً على هذا السيناريو.

ثمة سيناريو آخر مطروح، هو سيناريو “العملية البرية المحدودة” الذي يتضمن دخول قوات برية خاصة لتنفيذ مهام محددة تتنوع بين تدمير أهداف نوعية أو تنفيذ اغتيالات لشخصيات رفيعة المستوى، ومن ثم يتم الانسحاب بعد إلحاق أكبر ضرر ممكن بالأهداف.

يحتل هذا السيناريو المرتبة الثانية ضمن السيناريوهات الأكثر احتمالاً -بعد سيناريو اقتطاع جزء من أراضي القطاع- علماً أن قيادة “الجيش” الصهيوني أعلنت في اليوم السابع للعمليات بدء تنفيذ وحدات خاصة عمليات داخل القطاع.

السيناريو الأخير هو سيناريو “الحصار والقصف”. في هذا السيناريو، قد تلجأ القوات الصهيونية المحيطة بالقطاع إلى تكريس حالة حصار تامة عليه وقصفه بشكل مستمر بهدف إضعاف الموقف الفلسطيني قبل أي تفاوض مقبل، وخصوصاً أن كيان “إسرائيل” ربطت عدة مرات بين تمرير مياه الشرب والكهرباء ومستلزمات الإغاثة إلى القطاع والإفراج عن الأسرى الصهاينة، وهو سيناريو لا يوفر لـ كيان “إسرائيل” الحد الأدنى من “الانتقام” الذي تنادي به أوساطها الداخلية، وينضوي على إقرار تام بهزيمة كيان “إسرائيل” عسكرياً أمام فصائل غزة.

إذاً، نستطيع القول إن “تل أبيب” في بحثها عن “الانتقام” من غزة تتلمس السيناريو الأقل تكلفة على المستوى المادي والبشري، وتحاول تجنب فتح جبهات أخرى، مثل الجبهة الشمالية التي صرح وزير الأمن الصهيوني أن لا مصلحة لـ كيان “إسرائيل” في فتحها.

هذه المعادلة تبدو صعبة، لكنها في الوقت نفسه تجعل سيناريو “الاجتياح الشامل” مغامرة لا يمكن لأي مسؤول في كيان “إسرائيل” تحمل تبعاتها. وبناء عليه، فإن الخطوات المقبلة لها في القطاع ترتبط بالشكل الذي ستتم عليه عمليات “تمهيد مسارات التحرك” و”اتجاهات تحرك الوحدات المدرعة”، وهما عنصران أساسيان في أي اجتياح بري يلي عمليات التمهيد النيراني الجارية حالياً.

* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب