بقلم: جيرالد م. فايرستاين*

(صحيفة “فرايتاج” الألمانية ، نقلا عن موقع معهد الشرق الأوسط الأميركي، ترجمة: نشوى الرازحي-سبأ)-

لا يزال الاهتمام الدولي بالصراع اليمني يركز بشكل كبير على الأبعاد الإنسانية للأزمة والمنافسة السعودية الإيرانية على بسط النفوذ في المنطقة بالإضافة إلى جهود الأمم المتحدة المتواصلة لإعادة الأطراف إلى طاولة المفاوضات. لكن قد يكون لجانب آخر من الصراع عواقب طويلة الأجل ذات أهمية أكبر لليمنيين كلهم وللمجتمع الدولي تكمن في تراجع أهمية صنعاء في قلب دولة يمنية موحدة وتزايد الحكم الذاتي رمن البلاد.

لقد أتيحت لي الفرصة مؤخرا للانضمام إلى وفد منظم من قبل المجلس الأطلسي زار عدن كجزء من جولة إقليمية. كانت هذه أول زيارة لي إلى اليمن منذ انتهاء ولايتي كسفير قبل حوالي ست سنوات. بدت شوارع عدن هادئة ولكن غير مريحة. وبصرف النظر عن بعض آثار معارك أكثر حداثة، بدا أن المدينة لم تتغير إلى حد كبير عن زياراتي السابقة وكانت علامات الحياة الطبيعية – من أسواق المواد الغذائية إلى طاولات البلياردو الموضوعة على الأرصفة كترفيه شعبي – وفيرة.

لكن عدن هي مدينة منقسمة بين معقلين: معقل الحكومة الشرعية ومعقل المجلس الانتقال الجنوبي الذي يناور، بدعم من الإماراتيين من أجل الهيمنة. وكان مسئول إماراتي رفيع المستوى قد امتدح في السابق فصائل الجنوبيين ووصفهم بأنهم حلفاء موالون وملتزمون للقوات الإماراتية في اليمن.

ترى في عدن أعلام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقاً ترفرف على السواري في أجزاء المدينة التي يسيطر عليها المجلس الانتقالي الجنوبي وصور شهداء المجلس الانتقالي الجنوبي مطبوعة على الجدران بالاستنسل. وعلى النقيض من ذلك، كانت صور الرئيس عبدربه منصور هادي وسط لوحات الإعلانات في الأحياء التي تسيطر عليها الحكومة أصغر حجماً على المجمع الرئاسي الساحلي حيث قابلنا ممثلي الحكومة.

اجتماعنا مع رئيس الوزراء اليمني الجديد المثير للإعجاب، الدكتور معين عبد الملك سعيد، لم يحدث كما كان ينبغي. فقد تم إرسال التفاصيل الأمنية الخاصة بالمجلس الانتقالي الجنوبي المساعدة لمرافقة وفدنا في المدينة بدلاً من ذلك إلى المجلس الانتقالي الجنوبي على الرغم من أننا أوضحنا أننا نريد أن نقابل الحكومة الشرعية أولاً. لو أننا لم نصر على تحويل القافلة للحفاظ على موعدنا مع الحكومة، لسعت قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي إلى تأخير زيارتنا للمجمع الحكومي حتى يحين موعد مغادرتنا البلاد.

ومع ذلك، وبغض النظر عن هذه التوترات السياسية، من الواضح أن العدنيين يبذلون قصارى جهدهم لإقامة حياة طبيعية رغم وضعهم المعقد.

وفي هذا الصدد، وجدنا أن الوضع في عدن يعكس تطورات مماثلة في أماكن أخرى من البلد المنقسم. تعكس التقارير الواردة من أقصى الشمال، في محافظتي مأرب والجوف، التقدم الذي يحرزه اليمنيون خارج المناطق التي يسيطر عليها الحوثيين في جهودهم لبناء حياة جديدة. وعكس  آخر زوار لتلك المناطق نمو مأرب كمركز تجاري ومالي في الشمال، تدعمه عائدات النفط والغاز المتدفقة إلى المحافظة والتي لم تعد تسلم للحكومة المركزية. وقام كبراء المدينة في محافظة الجوف، التي كانت منطقة صحراوية متربة قبل العام 2015 ، بإنشاء شبكة حضرية في شوارع المدينة فيما يتوافد رجال القبائل إلى وسط المدنية طلباً للحصول على تصاريح بناء. و في مأرب، يدور الحديث عن إنشاء مطار جديد. وفي كلا المحافظتين، أنشأت السلطات المحلية محاكمها الابتدائية الخاصة بها، والتي عالجت المشاكل الطويلة الأمد المتمثلة في الوصول إلى العدالة لمواطنيها، وأصبح لدى مأرب الآن محكمة استئناف.

لا يمكن للمرء أن ينتقد اليمنيين على جهودهم في بناء مستقبل لائق لأنفسهم وعائلاتهم بعيداً عن نزاع أهلي مدمر. في الواقع، يعتبر التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مأرب والجوف وعدن انعكاساً مشجعاً لما يمكن أن يحققه اليمنيون عند منحهم الفرصة. يعزز نجاح هذه التجارب في الحكم المحلي الرأي القائل بأن اللامركزية وتعزيز الحكم الذاتي المحلي عنصران أساسيان لبناء يمن أقوى وأكثر أمنا وازدهارا في المستقبل.

لكن استمرار انتقال السلطة والحكم يشكل خطورة أيضا. فكلما أصبحت هذه الهياكل المحلية أكثر عمقاً في الحياة اليمنية، كلما أصبحت جاذباً لليمنيين الذين يسعون إلى الهروب من النزاع الذي يمزق البلد وكلما أصبح من الصعب إعادة بناء اليمن الموحد القابل للحياة عندما ينتهي النزاع. من المفهوم بما فيه الكفاية، أن الجهات الفاعلة الدولية، من الحكومة الأمريكية إلى البنك الدولي، تبحث في التطوير المستمر للهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللامركزية وتفكر في كيفية التنسيق معها لتوفير المساعدة التي تشتد الحاجة إليها لدى الشعب اليمني. ومع ذلك، فإن أفضل ما يخدم مصالح اليمنيين والمجتمع الدولي في نهاية المطاف هو الحفاظ على اليمن الموحد، وتجنب تطوير عدد كبير من التراكيب التي من شأنها إدامة الصراع، ودعوة التدخل الخارجي المستمر، وزعزعة استقرار اليمن وشبه الجزيرة العربية. وبالتالي، يحتاج كل من اليمنيين وأصدقائهم الدوليين ومؤيديهم إلى المضي قدماً في هذه المشاريع بحذر، حيث يرحبون بالارتياح الذي يقدمونه لملايين اليمنيين ولكن دون إغفال الهدف طويل الأجل المتمثل في الحفاظ على اليمن الموحد.

*جيرالد فايرستاين كان سفيرا للولايات المتحدة الأميركية في اليمن من سبتمبر 2010 وحتى اكتوبر 2013 في فترة حكم باراك أوباما وشغل منصب نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط في وزارة خارجية. منذ أكتوبر 2016 شغل فايرشتاين منصب كبير الزملاء ومدير شؤون الخليج والعلاقات الحكومية في معهد الشرق الأوسط وفي نوفمبر 2018، قام مجلس إدارة معهد الشرق الأوسط بتعيينه نائباً أول لرئيس المعهد.