هل يكفي الجنون لعودة مستوطن صهيوني إلى “غلاف غزة”؟
محمد فرج *
بعد الانسحاب الصهيوني من غزة عام 2005م، استثمرت كيان “إسرائيل” في مستوطنات “غلاف غزة”، نظراً إلى قربها من القطاع ووقوعها مباشرة تحت تهديدات المقاومة من جهة أولى، وإرضاء لشريحة واسعة من المستوطنين المتشددين فيها من جهة أخرى.
سار هذا الاستثمار في اتجاهين أساسيين: الاتجاه الأول هو البنية التحتية (السياج المتطور، وجدار تحت الأرض لصد الأنفاق، والملاجئ العامة والخاصة، وأنظمة الإنذار المتقدم، وأنظمة الدفاع النشط (Active Defense) التي يفترض بها الرد على أي تهديد بشكل تلقائي، من دون الاستعانة أساساً بالعامل البشري).
والاتجاه الثاني من الاستثمار كان فيما تسميه مراكز الدراسات الصهيونية “المرونة المجتمعية” أو “الصمود المجتمعي”، وهي مجموعة من البروتوكولات النفسية والصحية التي تساعد المستوطنين على التكيّف مع مستويات عالية من الخطر.
تشارك في مهمات “الصمود المجتمعي” مراكز يسميها الاحتلال “مراكز القدرة على الصمود”، وهي منظمات تتلقى تمويلاً مباشراً من الحكومة أو رجال الأعمال الصهاينة، ومكتب رئاسة الحكومة، ووزارة الصحة، ووزارة الشؤون الاجتماعية. وتتضمن هذه المهمات جلسات العلاج الفردي لاضطرابات القلق، وتعزيز الاستعدادات لحالات الطوارئ، وورشات لتدريب عائلات المستوطنين على العودة إلى الحياة الروتينية بعد جولات الحرب.
إضافة إلى البرامج التي يختارها الاحتلال في أجندة ما يسميه “الصمود المجتمعي”، تتعمد سلطات الاحتلال أيضاً اختيار أعداد من اليهود المتشددين كجزء من المستوطنين الذين يسكنون منطقة “الغلاف”، مثل كيبوتس ألوميم، في محاولة منها لتعميم مبدأ “الأفودا” الذي تطور من الكيبوتسات الصهيونية الزراعية إلى اعتبار الهروب من الصواريخ عيباً اجتماعياً.
وإلى جانب الاعتماد على اليهود المتشددين، تحاول سلطات الاحتلال إرسال مجموعات من “معدومي الخيارات البديلة” من اليهود، الذين إذا ما قارنوا مستوى الخدمات في هذه المستوطنات مع فرصهم الحياتية الشخصية خارجها لاختاروا البقاء.
تشير الدراسات البحثية المختلفة، بما فيها الدراسات الصهيونية، إلى أن الاستثمار الصهيوني في مستوطنات “غلاف غزة” على المستويين المعنوي والنفسي والفكري والمادي فشل. ويمكن تقييم هذا الفشل في 3 مؤشرات أساسية: حالات الاضطراب والانتحار، والتوجه إلى إخلاء المستوطنات في كل جولة حرب، والنمو السكاني.
1- حالات الاضطراب والانتحار
لم يتوقف مستوطنو “غلاف غزة” عن التواصل مع مراكز “الصمود المجتمعي” بشأن اشتباههم بسماع أصوات ضجيج تحت الأرض. لم يكن ذلك خلال هذه الموجة العالية الأخيرة من “طوفان الأقصى”، إنما كان خلال الفترة الممتدة بين 2001 و2014، بحسب دراسة الصهاينة كارمت بادان ومائير إلران.
في تلك الفترة، لم تكن إمكانيات المقاومة قد وصلت إلى المستوى النوعي الذي نشهده اليوم في “طوفان الأقصى”، كما أن الأصوات التي سمعها المستوطنون لم تكن حقيقية. كانت حالات الهلع الصهيوني تتعاظم (1673 حالة مزمنة) على الرغم أن مجموع من قتلوا من المستوطنين على مدار 14 سنة (2001-2014) في تلك الفترة لم يتجاوز 41 مستوطناً (27 إصابة بالصواريخ، و14 قذيفة هاون).
لاحقاً، في دراسة أجرتها جامعة “تل أبيب” تزامنت مع معركة “سيف القدس”، قام الباحثون بمراقبة 954 مشاركاً فوق سن الأربعين، بعد تجهيزهم بساعات ذكية وتطبيقات متخصصة في قياس المؤشرات الفسيولوجية والعقلية. ما لاحظه الباحثون أن الاضطرابات الفسيولوجية لمستوطني غلاف غزة عالية، وتشتد خلال جولات الحرب، وتعود إلى مستوياتها الطبيعية، ببطء على الأغلب، بعد انتهاء الحرب.
في جولة “طوفان الأقصى”، تبدو إمكانية إعادة هذه المؤشرات إلى مستوياتها الطبيعية بين أوساط المستوطنين مسألة في غاية الصعوبة والتعقيد، ولا سيما أن المشاهد البصرية التي زرعتها المقاومة في الذاكرة البصرية للمستوطنين سكنت عميقاً بما هو أبعد من قصف صاروخي أو إلقاء القذائف.
2- عمليات الإخلاء
عام 2008م، غادر 8 آلاف مستوطن سديروت (ما يقارب 35% من مجموع المستوطنين فيها)، وشكلوا حالة أطلقوا عليها اسم “شتات الكيبوتس”، على اعتبار أن الانتقال إلى مدينة الخيام في “تل أبيب” يعني أنهم لم يعودوا يمتلكون بيتاً خاصاً بهم. عدد غير قليل من هؤلاء لم يعد أصلاً إلى الكيبوتس، حتى بعد انتهاء المعارك. عام 2014م، وعلى الرغم أن تهديدات المقاومة كانت أعلى، ومستوياتها الفنية كانت أيضاً تتقدم، غادر 10% فقط من المستوطنين.
لقد سيطر على المستوطنين حينها “التحيز الإدراكي” (Cognitive bias) الذي زرعته في رؤوسهم سلطات الاحتلال: “انظروا إلى من غادر الكيبوتس عام 2008.. هل كان الأمر يستحق فعلاً؟ “. جاء الاستحقاق الكبير عام 2021م في معركة “سيف القدس”، وعاد صوت الحقيقة ليعبر أوهام الأمان المطلق، ويجدد حالة الرعب لدى المستوطنين إلى ما هو أبعد حتى من مستويات 2008.
لم يتوقّع مستوطنو “سديروت” يوماً أن ينظروا من نوافذ وحداتهم السكنية في الكيبوتس ليجدوا مقاومي غزة يتجولون في الشوارع. في هذه اللحظة، سقطت محاولات وحدات “الصمود المجتمعي” في إقناع المستوطنين بأن جولات الحرب هي محطات عابرة تمر عادة من دون نتائج وخيمة. سقطت هذه المحاولات إلى الأبد.
3 – النمو السكاني
في هذا المؤشر، يمكن القول إن محاولات الاحتلال لإنعاش النمو السكاني في تلك المنطقة لم تكن ناجحة، ولا سيما أن حالات الإجلاء مع جولات الحروب لم تستتبعها حالات عودة كاملة. من ذلك على سبيل المثال: تناقصت أعداد مستوطنة “سديروت” عام 2008م، وانتعشت قليلاً إلى حين لحظة “سيف القدس”، إذ انحدرت مجدداً (كانت عملية التأرجح في عدد المستوطنين مستمرة حول 25 ألف مستوطن على مدار 20 عاماً). أما الآن، فلم تعد المنحنيات الخطية لدراسة تغيّر أعداد المستوطنين تعني شيئاً.
بصرف النظر عن النتائج الميدانية المقبلة، وعن الأماكن التي ستبقى فيها عناصر المقاومة، والتي ستغادرها عائدة إلى القطاع أو محظية بالشهادة، فقد دفع “طوفان الأقصى” مستوطني “غلاف غزة” إلى جنون استثنائي وعصي على مجموعات العمل على “الصمود المجتمعي”.
في كل الأحوال، لا يبدو هذا الجنون كافياً لقرار العودة إلى الغلاف الممزق في أي وقت. لن يختار المتشددون الأفودا العودة هذه المرة، وسيفضّل معدومو الخيارات الحياتية الموت جوعاً، ولن يكون خياراً عاقلاً لمستوطن أن يمرّ بتلك الشوارع مجدداً!
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب