السياسية:

منذ السبت الماضي، جذبت العملية الضاربة والمنتصرة التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في عمق الأراضي المحتلة، انتباه العالم وتصدرت أخبار وسائل الإعلام العالمية، إضافة إلى أنها أسعدت الفلسطينيين وصدمت الصهاينة.

وفي هذه الظروف، فإن النظر في أسباب ودوافع وعواقب عملية طوفان الأقصى، يتطلب فهم السياقات الأوسع للصراع بين الكيان الصهيوني وفلسطين، حيث يتحمل الشعب الفلسطيني، وخاصةً في قطاع غزة، عبء المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية منذ عقود.

وعلى الرغم من أن الجماعات الفلسطينية تعرضت للقمع من قبل المحتلين على مدى 75 عاماً الماضية، إلا أنها ناضلت دائماً ضد محتلي القدس لتحرير أراضيهم المفقودة، ومع ذلك، فإن العملية الأخيرة التي قامت بها حماس، والتي لم يسبق لها مثيل من جميع النواحي، هي نتيجة للأعمال الاستفزازية التي قامت بها الحكومة المتطرفة لبنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، ضد الفلسطينيين.

تكثيف أعمال العنف والعدوان من قبل المتطرفين ضد الفلسطينيين والمسجد الأقصى

في العام الماضي، خلقت معادلات الاحتلال وضعاً جديداً مع دخول وزراء متشددين مثل إيتمار بن غفير، وزير الأمن الداخلي في الكيان الصهيوني، وبتسلئيل سموتريتش، وزير مالية هذا الكيان، إلى حكومة نتنياهو في ديسمبر الماضي، حيث تم طرح المخططات المعادية للفلسطينيين على جدول الأعمال أكثر من أي وقت مضى، حتى يتمكنوا من إنهاء قضية فلسطين وتحقيق حلم تهويد القدس. وفي هذه الأثناء، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، كانوا بحاجة إلى تطهير الضفة الغربية من الفلسطينيين، وهو الأمر الذي تم تكليف بن غفير بالقيام به، وتكثيف العنف ضد الفلسطينيين.

فمن خطة تسليح المستوطنين إلى إنشاء الحرس الوطني، تم القيام بكل شيء لقتل وتهجير المزيد من الفلسطينيين في الضفة الغربية، وإضفاء الشرعية على الأعمال الإرهابية للمستوطنين.

وحسب الإحصائيات، فإن مئات الفلسطينيين استشهدوا منذ بداية العام 2023، بينهم العشرات من النساء والأطفال، وقد اتخذت هذه الإحصائية منحى تصاعدياً مقارنةً بالسنوات السابقة.

وحسب الإحصائيات الرسمية، منذ عام 2008، عندما كان نتنياهو على رأس السلطة في تل أبيب، استشهد 150 ألف فلسطيني على يد قوات الاحتلال، ثلثهم تقريبًا من النساء والأطفال.

ورغم المطالبات الدولية بخفض التوترات، إلا أن الحكومة المتطرفة رفعت مستوى التوتر مع فصائل المقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الأشهر الماضية، وتنفذ هجمات متواصلة على بلدات حوارة ونابلس وجنين في هذا الاتجاه.

وقد أثارت الموافقة على خطة التطوير الاستيطاني في الضفة الغربية، والتي أعلن عنها نتنياهو كأحد وعود حكومته، غضب الفلسطينيين وحتى المجتمع الدولي، وحذّر قادة المقاومة الصهاينة مرات عديدة من أن بناء المستوطنات بهدف التهجير القسري للفلسطينيين، لن تكون له نهاية سعيدة للمحتلين، لكن المتطرفين لم يلتفتوا إلى هذه التحذيرات.

كما تصاعدت خلال الأشهر الماضية هجمات المستوطنين المتطرفين بقيادة بن غفير على باحات المسجد الأقصى، وكان القادة الفلسطينيون قد أعلنوا أن تدنيس هذا المكان المقدس خط أحمر بالنسبة لهم، ورغم المعارضة العالمية لهذه الأعمال الاستفزازية، واصل الصهاينة مغامرتهم في هذا المكان المقدس. وفي الأيام الأخيرة، هاجموا المسجد الأقصى لمدة أسبوع بسبب الاحتفال بالأعياد اليهودية، وهذه الاعتداءات أثارت حفيظة فصائل المقاومة.

وكان تنظيم مسيرة “الأعلام” الاستفزازية، إحدى الحالات الأخرى التي أثارت استياء الفلسطينيين بشكل كبير، وكان ابن غفير متورطاً في هذا العمل المتوتر، والذي هدد الفلسطينيين علناً بالقتل والتهجير من الضفة الغربية من خلال وجوده بين الصهاينة.

وحاولت حكومة نتنياهو المتطرفة تكثيف الضغوط الاقتصادية على الفلسطينيين لتنفيذ خططها الطموحة، ولهذا الغرض، قامت بتشديد الحصار على المعابر المحيطة بغزة، حيث يتم إدخال المساعدات الإنسانية إلى هذه المنطقة بين الحين والآخر.

كما حاولت من خلال فرض عقوبات على السلطة الفلسطينية وقطع المساعدات المالية عنها، الانتقام من هزائمها أمام فصائل المقاومة في الضفة الغربية، الأمر الذي خلق ظروفاً اقتصاديةً صعبةً للفلسطينيين.

ومن الأمثلة الأخرى على إثارة الحرب من جانب الحكومة المتطرفة، زيادة الضغط على السجناء الفلسطينيين، الذين فرض بن غفير ضدهم قوانين صارمة، وحتى الأسرى كانوا محرومين من الإمكانات الأساسية مثل البطانيات والماء الساخن للاستحمام.

وكان الحد من زيارات العائلات الفلسطينية للسجناء، وعدم تشكيل محكمة مختصة لشرح الاتهامات الموجهة للسجناء الفلسطينيين، من بين الإجراءات الأخرى التي اتخذها المتطرفون ضد الفلسطينيين.

ودائماً ما حذرت قيادات حماس والجهاد الإسلامي من مغبة هذه التصرفات اللاإنسانية، من خلال اعتبار محنة الأسرى خطاً أحمر.

ومن الأسباب المهمة التي دفعت حماس إلى تنفيذ عملياتها في الأراضي المحتلة، هو إعلان قيادات هذه الحركة يوم السبت الماضي أن الجيش الصهيوني يستعد لهجوم واسع النطاق على الضفة الغربية وقطاع غزة، واتخذوا إجراءات لمنع هذا العمل العسكري.

وفي الأسابيع الماضية، أثارت وسائل الإعلام العبرية أيضاً الخطة المحتملة لهجوم واسع النطاق على الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن التوقيت لم يكن واضحاً.

عمليات مبرمجة مسبقاً

أثارت الهجمات المفاجئة والصادمة التي تشنها حركة حماس على الأراضي المحتلة، التساؤل في أذهان المحللين حول ما إذا كانت هذه العملية عمليةً فوريةً، أم إن المقاومة خططت لهذه العملية في الأسابيع الماضية.

للإجابة على هذا السؤال يمكن القول إن حماس، منذ تشكيل حكومة نتنياهو المتشددة، انتهجت سياسة الصبر والمهادنة وتحذير الكيان، ولم تهاجم مجازفةً، وقد أظهر هذا العمل الصبور أن قادة هذه الحركة قد خططوا بلا شك للصهاينة، حتى يتمكنوا من ضرب العدو في الزمان والمكان المناسبين.

كما أن حجم الضحايا ومفاجأة الكيان الصهيوني، تشير إلى أن العملية كانت مخططةً مسبقاً، وتم تقييم نقاط القوة والضعف لدى الكيان إلى حد كبير، وإلا فإن كل هذه الخسائر البشرية وغنائم الحرب والأسرى لم تكن لتتحقق بين عشية وضحاها.

وهذا ما أكده صالح العاروري، نائب المكتب السياسي لحركة حماس، في حديث لقناة الجزيرة، والذي قال: “هذه الخطة تم تنفيذها حسب التخطيط، بما في ذلك السيطرة على المستوطنات والمخيمات، والآن المعركة في بدايتها”.

ولفت العاروري إلى أن دخول العدو برياً إلى غزة سيكون السيناريو الأفضل للمقاومة، وأضاف: “كتائب القسام أسرت ضباطاً إسرائيليين كبار، ونحن جاهزون لأسوأ الاحتمالات بما في ذلك دخول العدو بريا”.

هذا في حين أن نتنياهو نشر عشرات الآلاف من قوات الجيش للتدخل البري حول قطاع غزة، وادعى أنه ينوي إنهاء وجود حماس، لكن مع تصريحات قيادات حماس يبدو أن هذه الحركة لديها خطة لمواجهة الكيان في الأراضي المحتلة، ولا تشعر بأي خوف أو قلق.

انهيار الجيش الصهيوني

رغم أن حماس ألحقت خسائر فادحة بالكيان الصهيوني من خلال تعزيز قاعدتها الدفاعية في العقدين الأخيرين، إلا أن إنجازاتها في يومين من المعركة الحالية هي أكثر من كل الحروب السابقة.

ففي فترة قصيرة تمكنت مجموعات المقاومة من قتل مئات الجنود الصهاينة وأسر عدد كبير منهم، وأظهرت هذه العملية أن الكيان الصهيوني ضعيف للغاية، على عكس ادعاءات مسؤوليه، وإذا واصل الفلسطينيون الصراع حسب الخطة، فيمكنهم تحقيق نصر كبير.

بمعنى آخر، دمرت هذه العملية الهيبة العسكرية المزيفة للجيش الصهيوني بشكل كامل، كما أن عدم فعالية منظومة القبة الحديدية في اعتراض صواريخ حماس، ووصول هذه الصواريخ إلى قلب تل أبيب، كلها تؤكد أن الجيش الإسرائيلي فقد توازنه أمام محور المقاومة، ولا يمكن للمستوطنين أن يثقوا بهذا الجيش المهتز لتوفير الأمن لهم، رغم أن العديد من المسؤولين السابقين في تل أبيب أشاروا في الأشهر الأخيرة إلى ضعف الجيش في التعامل مع جماعات المقاومة.

والنقطة المهمة الأخرى في هذه العملية كانت استخدام التكتيكات المفاجئة، التي صدمت الكيان الصهيوني، وكانت هذه العملية شرسةً، لدرجة أنه خلال 20 دقيقة تم إطلاق أكثر من 5000 صاروخ من غزة على الأراضي المحتلة، وأظهرت أن المقاومة في أعلى مستويات الجهوزية العسكرية.

وكان عدد 350 قتيلاً وأكثر من 1000 جريح، واختفاء 750 شخصاً وأسر أكثر من 100 جندي خلال 24 ساعة، هو الإنجاز الذي حققته حماس في معركتها مع الكيان، حتى أن السلطات الصهيونية أعلنت عن سقوط المزيد من الضحايا.

وكانت فصائل المقاومة تدافع من قبل عن أراضيها في قطاع غزة ضد هجمات المحتلين، لكنها الآن تركت الدفاع وتحولت إلى المرحلة الهجومية، لقد تم تدمير الأسلاك الشائكة والأسيجة المحيطة بقطاع غزة، وجرى الدخول البري والجوي إلى الأراضي المحتلة لأول مرة في تاريخ صراع الفلسطينيين مع الكيان الإسرائيلي، بل تمكن المقاومون حتى من الاستيلاء على العديد من المستوطنات الصهيونية.

الأسرى هم الورقة الرابحة لحماس

إن أخذ الأسرى سيكون إحدى أوراق حماس الرابحة في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، حيث يتواجد الآن عشرات الجنود الصهاينة وعدد من المستوطنين تحت تصرف فصائل المقاومة، وبهذا العدد يمكنهم استكمال قضية تبادل الأسرى التي وصلت إلى طريق مسدود في السنوات الأخيرة بسبب عرقلة تل أبيب.

في تشرين الأول 2011، وقعت حماس اتفاق تبادل “وفاء الأحرار” مع تل أبيب، وبناءً على ذلك تم تبادل 1027 أسيراً فلسطينياً مقابل جندي صهيوني، ثم أطلق سراحهم.

ومع ذلك، يمكن القول إنه مقابل تسليم عشرات الأسرى الصهاينة، يمكن إطلاق سراح آلاف الفلسطينيين (4900 أسير فلسطيني حسب الإحصائيات) من سجون الاحتلال.

وقد أثار أسر الجنود الصهاينة الرعب في الأراضي المحتلة، وخاصةً بين قوات الأمن التابعة لهذا الكيان، وهذه القضية تجعل جنود الجيش مترددين في مواجهة قوات حماس بشكل فردي.

في المقابل، فإن هذا الحجم من الخسائر البشرية، ومن بينها عدد من كبار القادة الإسرائيليين، سيضعف معنويات الكيان، وسيكون له تأثيره الميداني بلا شك.

والنقطة المهمة الأخرى هي أن عملية حماس هذه المرة كانت مرکبةً وشاملةً، فبالتزامن مع العملية الصاروخية والتقدم الميداني، من البحر والجو، حسب سلطات تل أبيب توغلت مجموعات المقاومة في عمق الكيان، ما يدل على قدرة حماس.

لقد ادعى نتنياهو دائماً أنه قادر على تدمير العديد من البنى التحتية لحماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، لكن العمليات الأخيرة أظهرت أن قوة ترسانات هذه الجماعات تفوق خيال المحتلين، وأنهم قادرون على المقاومة لعدة أشهر بل والانتصار على الجيش المدجج بالسلاح.

إن ما يحدث اليوم في الأراضي المحتلة سيخلق معايير جديدة للصراع الفلسطيني، وسيطرح قضية الحل الدائم لهذا الصراع على الطاولة مرةً أخرى في أي مفاوضات مستقبلية.

لأن الصراع الحالي بين الكيان الصهيوني وحماس، بصرف النظر عن تسليط الضوء على الطبيعة المعقدة للصراع بين الجانبين وتحدي هيمنة الكيان، وجّه رسالةً إلى المجتمع الدولي، وخاصةً الغربيين، مفادها بأنه لا ينبغي لهم أن يغمضوا أعينهم عن مصالح الفلسطينيين بعد الآن، وحتى لإنقاذ الكيان الإسرائيلي من الانهيار، عليهم إكمال حل الدولتين.

* المصدر: موقع الوقت التحليلي

* المادة الصحفية نقلت حرفيا من المصدر