أحمد يحيى الديلمي
ترجل عن الحياة الفانية رجل الأعمال والسياسي المعروف الأستاذ المرحوم بإذن الله عبد الله حمود الحسيني ، بعد حياة مليئة بالمواقف والمفاجأت الإيجابية فلقد أمتهن العمل التجاري بالوراثة من والدة المرحوم الحاج حمود الحسيني ، بعد ذلك أثر وجوده في القاهرة للدراسة على مسار حياته لأنه ترافق مع خصوبة فترة الثورة وانبثاق الفكر القومي بأبعاده التحررية المناهضة للاستعمار ، فأنزلق إلى ميدان السياسة ، الموقف ألهب حماسة وجعله ينحاز باندفاع ذاتي إلى فكر حزب البعث العربي الاشتراكي ، استهواه الشعار (أمه عربية واحدة ذات رسالة خالدة) فأضاف إلى دراسة الاقتصاد النظرية في الجامعة بُعد سياسي بأفق واسع أتصل بالثورة ونزعات التحرر وهو الدور الذي كانت تضطلع به الأحزاب القومية لتُذكي من خلاله صحوة الشعوب وتوقظ الجماهير من سباتها الطويل كي تتبنى فكرة الثورة على الاستعمار .
كل ذلك حول المرحوم إلى رجل سياسة بذهنية متقدة استطاع من خلالها أن يشكل حضور متميز خاصة بعد امتلاك ناصية التحليل وقراءة القادم من الزمن بأفق إيجابي , وفي وقت لاحق بعد التخرج والعودة إلى الوطن تحول هذا النبوغ إلى عامل إحباط نتيجة تقاطع المصالح وفهم الحزبية بأفق ضيق بفعل التحريم المطلق الذي ورد في الدستور بأسم الدين، هذا التوجه المتخلف قتل الأمل في مهده وكان له تأثير سلبي مباشر على المرحوم في الجانب التجاري وفق توصيف المرحوم القاضي عبدالكريم عبدالله العرشي في رده على صديق المرحوم الوزير السابق الأستاذ علوي حسن العطاس أطال الله عمره ، ظهر التوصيف جلياً عقب جريمة اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي ، فقد ألتقى مع المرحوم الدكتور محمد عبد الملك المتوكل وزير التموين والتجارة الأسبق حول فكرة هامة تمحورت في رفض استنزاف الاحتياطي الكبير من النقد الاجنبي في صناعة تحويلية وأخرى وهمية مؤكدين أن العملية ستبدد المخزون النقدي دون فائدة مرجوة للوطن ، وتمت الدعوة إلى تشجيع ودعم صناعات استراتيجية تمثل إضافة نوعية للاقتصاد الوطني ، الرؤية أفزعت اصحاب المشاريع الوهمية ولقيت دعماً وموازرة من أطراف متنفذة في الدولة ، بحيث وجهت العديد من التهم للرجلين وتسببت في إقصاء الدكتور المتوكل من وظيفته بحجة أن وجودة سيمهد لعودة الملكية بينما وجهت تهمة ترجمة فكر حزب البعث للحسيني وأثرت العملية على نشاطه التجاري ، وهناك واقعة أخرى حصلت للمرحوم وكانت لها تبعات سياسية سلبية .
ذات مساء والمرحوم عائد إلى منزله في القاع الساعة الثانية عشرة منتصف الليل أكتشف وجود شيء غريب ملصق بباب منزله وبعد التدقيق وجد أنها قنبلة كان الهدف منها القضاء على حياته بمجرد أن يفتح باب المنزل ، تراجع واتصل بصديق عمره الأستاذ عبد الحميد سيف الحدي وكان يومها يشغل منصب مرموق في الدولة أتصل بأجهزة الأمن فأرسلوا فريق لتفكيك القنبلة وضمان سلامة الرجل ، من تلك اللحظة حضر البُعد السياسي بقوة حيث قال الرئيس الأسبق “الفاعل معروف أصحابه في حزب البعث يرجع أموالهم ولن يحصل له شيء” هكذا قال قبل انتظار التحقيقات ومعرفة أبعاد ما جرى وهي تهمة كانت تلاحق المرحوم بدعوى أنه المسئول المالي لحزب البعث ، هذا التهمة دحضتها الحادثة التي نحن بصددها ، بعد أيام تمكنت قوات الأمن من إلقاء القبض على الجاني ، وعند التحقيق معه أفصح عن دوافع ما أقدم عليه وظهر أن الأسباب خاصة لا تتصل بالسياسية وشئونها الملتبسة إطلاقاً فالفاعل اشترى من مجموعة الحسيني شاحنة سورر سويسري بالتقسيط ، وبعد فترة تقاعس عن دفع بقية الأقساط بحسب العقد الذي اشترط بأن تدفع الأقساط بالفرنك السويسري، وعند ارتفاع سعر العملة توقف عن الدفع فاضطرت المجموعة إلى حجز الشاحنة عبر المحكمة والأمن ، فحقد الرجل على المرحوم وقرر الانتقام منه بحجة أنه قطع مصدر رزق أولاده فأقدم على هذه المحاولة ، هذا ما تم تدوينه في محاضر التحقيق وقد أوردت التفاصيل رغم أنها هامشية بقصد التدليل على الفوضى وحالة الارتباك التي كانت سائدة وكيف انها كانت تؤدي إلى التسرع في إصدار الأحكام والتهم بشكل جزافي على خلفية حسابات خاطئة مبعثها خوف الحكام والمسئولين على المواقع التي وصلوا إليها وبدعوى الاستماتة في الدفاع عن الثورة وملاحقة المتربصين بها ، مع أنها كانت في الواقع هي من تشوه الثورة وتسيء إليها وإلى أهدافها السامية .
للأسف هذه الذرائع تحولت إلى شماعة قادت إلى إزهاق أرواح برئية أو إخفائها قسرياً وكلهم أشخاص لا ذنب لهم ولا تهمة ، فقط لمجرد أنهم انتقدوا التصرفات غير السوية والممارسات الشاذة لبعض رموز الثورة ، إذ يكفي هنا أن نستدل بالعبارة الشهيرة التي يتداولها الناس (قد أسمه جا) وما ترتب عليها من تصفيات جسدية وأعمال عنف مروعة ، غياب العدل والقانون وإشاعة الفوضى وتوزيع التهم بشكل عبثي وأحياناً مزاجي يخضع لرضاء وسخط القابع على كرسي السلطة ، كل ذلك كان قدر عدد كبير من أرباب الفكر والثقافة والأدب والسياسة والوجاهات الاجتماعية وكانت الحزبية مدخل للوصف بالعمالة والخيانة وقد أوقعت الكثيرين في حبائل السلطات المتعاقبة ، مما عمق العداوات وضاعف الأحقاد كما قال المرحوم الحسيني معلقاً على فكرة رفع الضرر عام 2011م ، كان يردد (التركة كبيرة والأحقاد متراكمة وضحايا الطيش بالملايين).
أما الموقف الأكثر حيوية فقد تمثل في دوره الذي لعبه بأسم حزب البعث العربي الاشتراكي حيث شرع في الحوار مع حزب الإصلاح واصفاً هذه الخطوة بقولة (إن استقطاب الإصلاح من موقع العداء المطلق للقوى السياسية المخالفة واتهامه لها بالكفر والإلحاد تارة والفسق والنفاق تارة أخرى ضرورة هامة على كل سياسي وطني ، لأن هذا الفعل سيخفف من حالة التشنج ويقلل من استسلام حزب الإصلاح لإرادة السلطة ومساعدتها في شرعنة كل ما تقدم عليه ، لأنهم يقومون بهذا الفعل ليس عن قناعة وإنما من باب التُقية وهواجس الخوف من الآخرين ، هذا الحوار تم في زمن مبكر عقب قيام الوحدة المباركة ، استطاعت السلطة أن تسقطه في المهد ، من خلال استمالة الفريق المتشدد في حزب الإصلاح ودفعه إلى تبني الرفض ، إلا أن الفكرة كانت المدخل الذي شجع قيادات سياسية أخرى على تكرار المحاولة وقد نجحت وانتهت بقيام تكتل أحزاب اللقاء المشترك، والموقف برمته يدل دلالة واضحة على نبوغ المرحوم وقراءته المبكرة للأحداث بأفق متميز ، رحم الله الأستاذ الحسيني وأسكنه فسيج جناته ،
المواقف كثيرة والرؤى أكثر لا يمكن حصرها في مثل هذه العجالة ، وعزائنا الكبير لشقيقه أحمد حمود الحسيني وأبنائه العزي وأمين وفضل وجميع أفراد الأسرة ، وكل الأصدقاء ممن عرفوه وتابعوا سجالاته اليومية في المقايل والندوات ، حيث كان كما يقال (شيخ هذه المواقع ) بما يسهم به من أفكار ويقدمه من ملاحظات ، الرحمة له والعزاء للأسرة والإصدقاء .. والله من وراء القصد ..