زلزال النيجر يغير المعادلات على الأرض..!
السياسية:
الغرب مطلقا لا يدافع عن الديمقراطية في النيجر، ولا في أي بلد إفريقي، ولا يدافع عن الرئيس المعزول “محمد بازوم”.. الغرب يدافع عن مصالحه ومطامعه الاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية. والحقيقة الظاهرة على مرأى العين أن فرنسا والولايات المتحدة تواصلان تحطيم ما تبقى من تماسك دول غرب إفريقيا، بما في ذلك الجوانب الدينية والاجتماعية واللغوية والأخلاقية، ومنح جماعات الإرهاب فرص ازدهار مضافة، تبرر للغرب عموما، سيطرتهما الكاملة، في أحاديثهما الملتوية عن مكافحة الإرهاب، ونشر “ديمقراطية” التفكيك اللانهائي، على نحو ما جرى في عدد من البلدان التي دخلتها في العقود الثلاثة الماضية. فالسياسة الأمريكية معروفة بازدواج المعايير والوجوه، وما تعلنه واشنطن رسميا شيء، بينما ما تمارسه في العلاقات وعلى أرض الواقع شيء آخر.
النيجر ترفض الاستعباد
في مسألة النيجر تنكر الولايات المتحدة علنا وجود دور روسي، وما تلبث أن تتناقض مع ذلك باستحضار أفعالها المنافية في قلب الصورة الأولى وهكذا. وقد لا يكون لروسيا بالفعل دور في التحضير لانقلاب “النيجر”، لكن الدور الروسي حاضر وداعم للحكام الجدد، تماما كما في مناطق أخرى من إفريقيا، التي ضاقت ذرعا بالنهب والاستعباد الغربي والأمريكي، وتتصور أن مد الصلات مع روسيا والصين قد يكون داعما ومنقذا لها.
وفي المجمل، لا يريد الغرب، ولا تريد واشنطن بالذات أن تعترف بأن العالم يتغير، وأن تعدد الأقطاب زاحفة، وأصداء التحول الجاري يظهر في إفريقيا وغيرها، وتتبدل معادلات تقادمت عليها السنين والعقود. وبالرغم من أن واشنطن تحاول تدارك الموقف، وعقد قمم أمريكية ـ إفريقية في السنوات الأخيرة، وتقديم وعود بمعونات واستثمارات وتحالفات أمنية، فإنها تفعل ذلك وغيره بعد فوات الأوان. وما يحدث في إفريقيا من تضخم وتوسع لللاعبين الصيني- الروسي، وإلى حدود لا تستطيع واشنطن مجاراتهما، ليس لأنها لا تملك الموارد هي وحلفاؤها الأوروبيون، بل لأن النظرة الغربية لإفريقيا، لم تغادر أبدا مواقعها العنصرية الاستعمارية الاستعبادية، ومحاولات طمس الهويات لتغيير لغات وثقافات شعوب إفريقيا واستبدالها باللغة الفرنسية والاقتراب من الثقافة الغربية. وليس هناك من فارق جوهري في العمق بين رسالة الرجل الأبيض الذي كان دوما عنوانا لانتهاك القيم والجرائم الإنسانية لسنوات الاستعمار “الكولونيالي” القديم والمعاصر، وبين رسالة الديمقراطية “الهشة ” التي تكرس هذا الوجود، ويتستر خلفها المستعمر، إذ لم تعد الديمقراطية الغربية بذلك البريق لاغراء الشعوب في أوطان منهوبة الموارد ومعدومة الاستقلال وفاقدة للحريات، وفي دول بسلطات مركزية يغلب عليها الطابع الديكتاتوري وتفشي الفساد المالي والإداري في مفاصل وهياكل الدولة، بينما شعوبها يأكلها الفقر، وتسودها المذلة الداهسة لكرامة الناس، إضافة لحروب الإرهاب والنزاعات الأهلية والعرقية، فيما الأجيال الإفريقية الجديدة تريد أن تشعر أولا بوجودها وكرامتها الإنسانية، وتريد مصيرا ومستقبلا آخر غير الموت غرقا في رحلة الهروب إلى أوروبا، أو أمريكا ويدركون أن الغرب الذي يخدعهم بوعود فارغة، هو اللاعب الأول فى مآسي البؤس الإفريقي، وهم مستعدون للتجاوب مع أي صوت كاره للغرب، حتى لو كانت أصوات الانقلابات والجنرالات، وهو ما يفسر اندفاع الحماس الشعبي الظاهر لانقلاب النيجر، وما قبله، ومعه الحماس لاستجلاب الروس، ودعوة فاغنر، وكسب مودة الصينيين، وهو اتجاه مرشح للتنامي، حتى لو افترضنا جدلا إمكانية نجاح التدخل العسكري بإزاحة جنرالات النيجر الجدد.
فالشعور الجارف بالعداء للغرب سيظل باقيا، وربما تتوالى الانقلابات في مناطق أخرى من إفريقيا. وإذا افترضنا لما هو وارد جدا بالتدخل العسكري من وراء أقنعة غربية – إفريقية، أو جرت هزيمته مبكرا، أو ما قد تشكله نيجيريا ومجموعة “إيكواس” قوة عسكرية كبيرة بمجموع 11دولة، يشكل جيش نيجيريا الأكبر بينها، فهو رابع أقوى جيش في إفريقيا، ولا يملك الفرصة لفوز مؤكد في النيجر، ومن غير ذلك فإن أصوات القلق والتخوف والرفض والضيق تتصاعد في نيجيريا ذاتها، بالاضافة تتناقض مواقف مجموعة إيكواس فيما يتعلق بالحل العسكري. كل تلك المخاوف علت سقفها، ودفعت مؤسسات برلمانية كمجلس الشيوخ الأمريكي إلى المطالبة بكف اليد والحيلولة دون الخيار العسكري، وحتى الآن لم تجرؤ “إيكواس” على التدخل، كما حدث تدخلها اليتيم في “جامبيا” الصغيرة جدا عام 2017، ولم تحدث وقتها معارك تذكر. اليوم السيناريو مختلف في النيجر التى تعلن استعدادها للحرب ضد أي تدخل عسكري على النيجر، ويصمم قادتها الجدد على إجلاء القواعد الأجنبية، ولا يملك شعبها شيئا يخسره، إن هو حارب المعتدين على كرامة بلاده المهانة. ومع ذلك ستمتد حرائق الحرب، لتشمل القارة بالكامل، لا سيما بعد إعلان بوركينا فاسو ومالي، للتصدي لأي تدخل محتمل ضد النيجر.
إنهاء الهيمنة الغربية
العنصر المفاجئ في الحركات التحررية الثورية في النيجر وقبلها في بوركينا فاسو ومالي وغينيا، هو بالدرجة الأولى تستهدف الوجود الفرنسي وإنهاء الهيمنة الغربية، وهذا ما يدركه الغرب تماما، وإلا لماذا كان معنيا بهذا الانقلاب دون غيره من الانقلابات المعاصرة، وكان الغرب يسكت عن كل انقلاب يحقق أو يتكيف مع رغباته، ويفتح النار وأسطوانات الديمقراطية المشروخة إن لم يكن كذلك، ويشهر أسلحة العقوبات والتدخلات اللينة والخشنة وصولا إلى شن الحروب وتفكيك الدول.
فرنسا تخسر وجودها
المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا “إيكواس” أعدت بشكل عاجل خطة تدخل عسكري لردع انقلاب “النيجر”، وهي تحظى بدعم غربي، وإن كانت التشققات الغربية تتزايد، على نحو ما بدا في مواقف إيطاليا وأسبانيا وغيرهما، وهما ترفضان التدخل العسكري تخوفا من تدفقات هجرات غير نظامية هائلة إلى الشواطئ الأوروبية. تعد “النيجر” واحدة من أهم مصادرها، بسبب الفقر الرهيب، والاستنزاف الغربي طويل المدى لموارد البلد التعدينية، وأهمها اليورانيوم والذهب، في بلد حبيس عدد سكانه 27 مليون نسمة، يعيش القسم الأكبر من سكانه جنوبا حول روافد نهر النيجر، بينما تتصارع القبائل والمجموعات العرقية في بلد غالبيته من المسلمين، منهم ما يفوق العشرة بالمائة من أصول عربية، تنشط بينهم مجموعات إرهابية، تغطي سعيها لاقتناص فتات الحياة الشحيحة من وراء أقنعة دينية “داعشية” و “قاعدية”، تحركها دوائر مخابرات غربية عند الحاجة، وعلى طريقة ما يحدث اليوم في النيجر.
لا يريد الغرب، ولا تريد واشنطن بالذات، أن تعترف بأن العالم يتغير، وأن تعدد الأقطاب زاحفة، وأصداء التحول الجاري تظهر في إفريقيا، في حين تتحمس فرنسا أكثر للتدخل العسكري، بدعوى إنقاذ حليفها وتابعها “بازوم”، ودرء لقرارات المجلس العسكري بإلغاء الاتفاقات الأمنية والعسكرية المعقودة مع باريس، وهو ما يعني لدى تحققه، أن فرنسا تخسر وجودها وامتيازاتها المهولة في مستعمرتها السابقة، تماما كما جرى قبلها في مالى و بوركينا فاسو، في حين لا تبدو واشنطن متحمسة علنا لأولويات فرنسا، التي تملك قاعدة عسكرية مهددة في شرق النيجر، قوامها نحو 1500 جندي، بينما لأمريكا قاعدتان للطائرات المسيّرة والاستطلاع، وتعتبر وجودها في النيجر حيويا لعمل القوات الأمريكية في إفريقيا. والحال أن فرنسا احتفظت بوزن عسكري ثقيل، عبر ثلاث قواعد عسكرية تُضاف إليها مراكز للتدريب، وقد انضمت الولايات المتحدة إلى فرنسا في العام 2016 بإقامة قواعد عسكرية غير محددة، لكنها تضم 1100 جندي، إضافة إلى نشر قوات ألمانية وإيطالية وكندية لتدريب قوات النيجر، من غير أن تكون هناك كليات ومعاهد عسكرية محلية لأداء هذا الهدف، وبعد نحو ستة عقود على الاستقلال. وقد ارتبط اسم فرنسا النووية بالسيطرة على إنتاج مناجم اليورانيوم الذي يدخل في مكونات القنبلة النووية، وغيرها من الأسلحة النووية، وفي توليد الكهرباء، فيما تتولى شركة كندية إنتاج الذهب مع عائد بنسبة 20% للنيجر. ورغم وجود اليورانيوم والذهب والفوسفات والحديد الخام والفضة، إلا أن حصة هذه المعادن الثمينة في الميزانية العامة لا تزيد عن 2%، فما زالت الزراعة وتربية المواشي تشكلان عصب الاقتصاد الوطني في بلدٍ تبلغ نسبة الصحراء الكبرى فيه 80% من مجمل مساحته.
فلو عاد “بازوم” إلى السلطة، وهذا مستحيل، لا سيما بعد اتهام المجلس العسكري له وضلوعه بتهمة الخيانة العظمى، وبالإضافة لذلك لن تستطيع فرنسا معاكسة التيار الجارف لدى الرأي العام والمؤسّسة العسكرية في النيجر بضرورة إنهاء الوجود الفرنسي، فيما لازالت فرنسا تعول على الاتحاد الإفريقي ومجموعة إيكواس لإجهاض الانقلاب عن طريق وسطاء للحوار مع التجهيز للخيار العسكري في حال الفشل تكون مجموعة الوكيل الإقليمي جاهزة بالإنابة بالتدخل العسكري، فضلا عن اتصال فرنسا بالمجاميع الإرهابية الجهادية المتطرّفة في منطقة الساحل والتي جعلتها ذريعة لتأبيد وجوها الأمني والثقافي في هذا البلد الذي لطالما وُصف بأنه جزء من إفريقيا الغربية الفرنسية، وهو نعت يثلج قلوب نخب فرنسية نافذة، تقلبت على قصر الإليزية عقودا. وهو ما يفسّر مشاعر الصدمة التي سادت الأوساط الفرنسية عقب وقوع الانقلاب الذي أعلن إلغاء الاتفاقيات مع فرنسا، من غير التطرّق إلى نفوذ دول غربية أخرى، إذ يختزل الوجود الفرنسي كما يبدو أشكال النفوذ الأخرى في وعي أبناء النيجر.
الاتحاد الإفريقي
الاتحاد الأفريقي الذي لم يُظهر ذلك القدر من التفاجؤ بما حدث، فقد التزم بموقف رافض للانقلاب، ولزوم عودة الحكم الدستوري، بينما حزمت مجموعة إيكواس أمرها، وأطلقت تهديدا بالتدخل العسكري، وهو خيار يفتح الباب أمام اقتتال لا ينتهي، ويتخطى حدود النيجر، وخصوصا مع إعلان دولتين وقوفهما إلى جانب المجلس العسكري.
فيما بدت الولايات المتحدة أقل جموحا، إذ نشطت وما زالت من أجل التوصل إلى تسوية داخلية تعيد الحكم المدني إلى البلاد، وتحول دون تسلل فاغنر إلى هذا البلد وبغطاء رسمي، وفي أجواء عامة، تحبذ فيها قطاعات من الرأي العام استبدال النفوذ الفرنسي بنفوذ روسي على مقاليد البلاد.
وأيا كان ما سيؤول إليه الوضع في الشهور المقبلة، من الواضح أن الوجود الفرنسي بالذات سوف ينحسر عن هذا البلد، وحتى لو عاد الرئيس بازوم إلى السلطة، وهذا مستبعدٌ ومستحيل، فلن يستطيع معاكسة التيار الجارف لدى الرأي العام والمؤسسة العسكرية بضرورة إنهاء الوجود الفرنسي وانتزاع الاستقلال الثاني، عسى أن يكون استقلالاً ناجزاً لا يتم فيه استبدال سطوة قديمة باستقبال نفوذ أجنبي جديد.
وربما يفسر ذلك امتناع واشنطن، وتحفظها في وصف حكومة الجنرال “عبد الرحمن تشياني” بالانقلاب العسكري، وتفضيلها سياسة اللعب على الحبال، فهي تضع قدما في ملعب التفاهم مع الجنرالات، وتضع القدم الأخرى في حفز وتخطيط ودعم خطة تدخل “إيكواس” عسكريا بهدف “خض ورج” مواقف الحكام الجدد في “نيامى”، وإن لم يحقق سعي واشنطن للتفاهم الدبلوماسى تقدما ظاهرا إلى اليوم، فقد قوبلت وكيلة الخارجية الأمريكية “فيكتوريا نولاند” بقدر ملحوظ من الازدراء، وقالت إن مساعيها لم تنجح للقاء الرئيس المحتجز، وإن قائد الانقلاب امتنع عن لقائها في زيارتها الاستكشافية الأخيرة، بينما التصريحات الرسمية للرئيس الأمريكي جو بايدن ولوزير خارجيته أنتوني بلينكن، تواصل مراوغاتها المنافقة عن دعم عودة الرئيس المعزول، والسعي للضغط على قادة الانقلاب بحثا عن حل دبلوماسي.
ما يلفت النظر أن واشنطن تحرص على الزج باسم روسيا في كل أزمة تميل إليها، وأحيانا إلى تبرئة ذمة روسيا وفاغنر، وتقطع الشك باليقين علنا بغياب أي دور روسي في الانقلاب وما بعده، بالرغم من أن مظاهر الاحتفاء بروسيا وبأعلامها سائدة في احتفالات مئات آلاف النيجريين بالقادة الجدد، وبطلبهم دعم روسيا وجماعة “فاغنر”. وما من تفسير للمفارقة سوى أن واشنطن تتحسب لاحتمالات فشل التدخل العسكري إن حدث، وتريد ترك نافذة للتفاهم مع حكم الجنرالات، ومع حكومة رئيس الوزراء الجديد “علي الأمين زين” ، والإبقاء على صلات تمكنها في وقت لاحق من تدبير الانقلاب على الانقلاب الحالي، يؤمن وجود قواعدها العسكرية، واستمرار التلاعب بحجة أولوية مكافحة الإرهاب فى إفريقيا، بينما هي التى تدعم وتمول نشاط جماعات الإرهاب بشكل خفي، فقد تحولت دول حزام الساحل الإفريقي، وبينها “النيجر”، إلى أكبر ملاعب الإرهاب في العالم.
* المصدر: موقع عرب جورنال
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من المصدر