موازنة 2023 .. ما لها وما عليها
السياسية:
يُقال إنّ الموازنة العامة هي عصب حياة الدولة وبدونها يتعطّل عمل الحكومة وعجلاتها. كما يُقال أنّ الموازنة العامة هي أهم أداة بيد الدولة للتدخل بالنشاط الاقتصادي. تاريخيًا، عُرفت الموازنة منذ أن عرف الإنسان الدولة، وقد تضمّنت بعض مؤلفات أرسطو وأفلاطون فقرات كثيرة عن مالية الدولة. إلا أنّ أول موازنة في العصر الحديث تجلّت عام 1628 في بريطانيا.
وقد كان يُشار إلى الحقيبة الجلدية التي كان يحملها وزير المالية على أنها موازنة حيث تُحفظ فيها كشوفات احتياجات الحكومة من موارد مالية وإنفاق فضلًا عن المستندات التي تحتوي على خطة مالية تُعرض على الهيئة التشريعية للمصادقة عليها. ومع الوقت، باتت الموازنات العامة أداة رئيسية من أدوات السياسة الاقتصادية للدول التي كانت تعتمد عليها لتسيير كافة الشؤون الحياتية.
وقد اعتمد لبنان ــ كغيره من الدول ــ منذ عقود من الزمن على الموازنة العامة لتنظيم عجلة الدولة. وعرّفت المادة الثالثة من قانون المحاسبة العمومية الموازنة بأنها “صك تشريعي تقدّر فيه نفقات الدولة وإيراداتها عن سنة مقبلة وتجاز بموجبه الجباية والإنفاق”. لكنّ الموازنة التي اعتُبرت في العديد من الدول على أنها “خط أحمر لا يجوز المساس به” لم يتم التعامل معها في لبنان على هذا الأساس. واذا كانت المادة 83 من الدستور تنص على أن تقدّم الحكومة موازنتها الشاملة لمجلس النواب مع بدء العقد العادي في تشرين الأول من كل سنة فإنّ عقلية التعاطي مع الموازنة حوّلت الدستور إلى استثناء وبات التأخر بمثابة قاعدة تسير عليها الدولة اللبنانية. إلا أنّ هذا التأخر بلغ مستويات كبيرة في السنوات الأخيرة وقد بقي لبنان 11 عامًا بلا موازنة، وبلغ التأخر مستويات لم تُسجّل حتى في عزّ الحرب الأهلية حيث بلغ متوسّط التأخر آنذاك 4 أشهر ونصف رغم تعذُر إقرارها في السنوات الأخيرة من الحرب (1986-1987-1988-1989).
إعداد موازنة 2023 كان صعبًا للغاية
وعليه، كان من المفترض أن تحوّل الحكومة موازنة عام 2023 في تشرين الأول 2022 أي قبل نحو 9 أشهر. مرّت سبعة أشهر من السنة الحالية والموازنة لا تزال بلا إقرار. قبل نحو 10 أيام رفع وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل مشروع قانون الموازنة العامة إلى مجلس الوزراء لدرسه وإقراره وإحالته إلى المجلس النيابي وفق الأصول. ما يعني فعليًا أنّ ثمّة مشوار لا يزال أمام هذه الموازنة كي تسلك طريقها نحو التنفيذ. تلك الموازنة استغرق العمل عليها أكثر من عام وكانت مرهقة جدًا وفق ما تقول مصادر المالية لموقع “العهد”. تُبرّر المصادر التأخر بالإشارة إلى أنّ موازنة 2022 كانت أول موازنة تُعد في ظل تعدد سعر الصرف وكانت “صعبة”، أما موازنة 2023 فقد تأخرت لتحاكي “الرسوم والضرائب والنفقات والإيرادات” سعر الصرف، ولتوحيد سعر الصرف بداخلها حيث اعتُمد سعر “صيرفة”.
وفيما سُجّلت العديد من الانتقادات لهذه الموازنة وللرسوم المرتفعة التي تحتوي عليها، تقول المصادر: ” كل الرسوم هي مقابل خدمة. مثال الإفادة العقارية؛ في السابق كانت كلفتها نحو 5 دولارات، أما اليوم وبموجب الموازنة الجديدة فقيمة الإفادة العقارية 55 ألف ليرة أي أكثر من نصف دولار بقليل. هذا النصف تريد الدولة أن تشتري به الأدوات التشغيلية كالأوراق والحبر وما إلى هنالك، وعليه اضطرت الدولة لأن ترفع الرسوم كما حصل 30 ضعفًا” تضيف المصادر التي تعتبر أنّ “ارتفاع الرسوم 30 ضعفًا ليس بالرقم الكبير طالما أنّ رسم الـ1500 ليرة بات 45 ألفًا أي نصف دولار بينما الدولار في السوق السوداء يتخطّى الـ90 ألفًا” وفق تبرير المصادر التي تشدّد على أنّ الموازنة لا تحتوي على ضرائب جديدة بل رسوم تضاعفت. كما تم تعديل الشطور الضريبية لضريبة الدخل والرواتب والأجور بشكل أفضل لمحاكاة سعر صرف الدولار وغلاء المعيشة، وهذا أفضل للمكلّف بالضريبة.
خطوة أولى للخروج من الأزمة
رئيس “المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق” الدكتور عبد الحليم فضل الله يُقدّم قراءته للموازنة فيرى أنها ليست الموازنة التي يُفترض أن تكون موازنة إصلاحية. يوضح أننا بانتظار “الفزلكة” بالتأكيد للبناء على الشيء مقتضاه، لكن ما ننتظره ــ وبغض النظر إن كانت موازنة إصلاحية أم لا ــ هو موازنة تضع البلد والقطاع العام على سكّة الحل والخروج من الأزمة؛ فنحن لدينا أزمة اقتصاد وأزمة مالية واجتماعية وأزمة قطاع عام وتحدٍ للنهوض في ما بعد، وكل هذه الأمور غير ملحوظة بالموازنة.
وفي حديث لموقع “العهد”، يتعمّق فضل الله أكثر في تفاصيل الموازنة فحجم النفقات لا يزال أقل من اللازم. طوال الوقت كانت نسبة النفقات في الموازنة العامة تشكّل ما لا يقل عن 20 بالمئة من الناتج أما اليوم فنجدها أقل من 10 بالمئة. الجباية أيضًا أقل من اللازم. طبعًا ليس المطلوب فرض ضرائب إضافية، فالناس لا تتحمّل المزيد من الضرائب، لكن الجباية غير مفعّلة. وهنا يشير فضل الله الى ما كانت عليه الرسوم الجمركية قبل عام 2019 إذ ورغم أن إيفاءها أقل من اللازم لكن كانت تشكل 3 إلى 4 بالمئة من فاتورة الاستيراد. اليوم تسجّل أقل من 1 بالمئة من الفاتورة ما يعني أنّ لدينا تهربًا جمركيًا وتهريبًا واسع النطاق ما يحتّم علينا تفعيل الإيرادات.
يتابع فضل الله :” يبلغ عجز الموازنة نحو 34 ألف مليار ليرة. بتقديري بإمكاننا تخطي هذا العجز والتخلص منه لو قمنا بمجموعة إجراءات على مستوى الإيرادات والنفقات دون زيادة الأثقال الضريبية خصوصًا على الفئات الشعبية والمتوسطة”. وينتقد فضل الله أنّ تضم الموازنة نحو 14 ألف مليار ليرة كفوائد على الدين العام علمًا أن معظم هذه الفوائد يذهب إلى المصرف المركزي وجزءًا إلى المصارف وهذا غير عادل فالمصارف متوقّفة عن الدفع ولا تقوم بدورها رغم أنّ لديها أرباحًا طائلة غير منظورة بسبب “صيرفة” والهامش في الفوائد. تمامًا كما أنّ المصرف المركزي لا يستطيع أن يتموّل اليوم من الخزينة العامة بهذه الطريقة”.
ومن الأمور التي يُسجّل فضل الله ملاحظته حولها “إيرادات الأملاك البحرية” التي لا تزال زهيدة جدًا اذ تبلغ 53 مليار ليرة بينما بالحد الأدنى وبدون أي تعديل على المكلّفين يجب أن يكون 3 آلاف مليار ليرة سنويًا بناء على قرار مجلس الوزراء. وفي هذا الإطار، يؤكّد المتحدّث أنّ ثمّة إمكانية لإعادة النظر بالإيرادات وببعض بنود النفقات بحيث تصبح الموازنة خطوة أولى لإنقاذ القطاع العام والمساهمة بتأمين الخدمات الأساسية للناس وبوابة من بوابات الخروج من الأزمة. كما ينتقد فضل الله تراجع حصّة قطاعات حيوية في هذه الموازنة من النفقات العامة مثل قطاع التعليم. وفق فضل الله، المطلوب أن ننجز وفرًا داخل الموازنة نستعمله لدعم وتمويل القطاعات الأساسية؛ المواصلات والنقل، المياه، الصحة، التعليم، الاتصالات، والبرامج الموجهة للأسر الأكثر فقرًا، هكذا تكون الموازنة خطوة أولى للخروج من الأزمة.
وحول الضرائب والرسوم، يلفت فضل الله إلى أنّ مقاربتها والحديث عنها يحتاج إلى دراسة متأنية. ثمّة عشرات الرسوم التي تعدّلت وببعض الأماكن قد تكون المضاعفة في مكانها وأماكن أخرى في غير مكانها، لكنهم أعادوا النظر بالشطور الضريبية التي تحمي المكلفين وجرت زيادتها بناء على التضخم لحماية المكلّفين. وفي الختام، لا يُخفي فضل الله أننا لا نستطيع الحكم من النظرة الأولى على الموازنة لكنه يجزم أنها ليست الموازنة التي تطلق مسار إنقاذ القطاع العام وتساهم في التعافي الاقتصادي للخروج من الأزمة.
أرقام فارغة من مضمونها
مدير المحاسبة السابق في وزارة المالية الدكتور أمين صالح يرى أنّ الموازنة لا تستأهل القراءة لأنها عبارة عن “أرقام فارغة من مضمونها تمامًا كالرؤوس الفارغة” التي تُعد هذه الموازنات. من وجهة نظر صالح، ذهبت الحكومة إلى خيار تمويل الدولة بالتضخم حيث زادت الواردات من 42 ألف مليار ليرة في موازنة 2022 إلى 182 ألف مليار ليرة عام 2023 أي زادت 4 أضعاف ونصف، ما يعني أنّ التضخم يزيد بين 400 إلى 500 بالمئة. وكل هذا ناتج عن زيادة الرسوم والضرائب غير المباشرة التي يتحمّلها المواطنون الفقراء وأصحاب الدخل المحدود الذين باتت قدرتهم الشرائية لا تتجاوز 2 إلى 3 بالمئة. وفق صالح، تأخذ الدولة هذه البقية الباقية من القوة الشرائية للمواطنين وتضعها في جيبها وتتصرف بها بدون أي خطة.
يُشدّد صالح لموقعنا على أنّ الرسوم بموازنة 2023 تضاعفت في كل شيء وفي كل الأمور الأساسية. يُعارض المتحدّث مقولة أنّ الموازنة لا تحتوي على ضرائب. برأيه، طالما هناك رسوم يعني هناك ضرائب على كل نواحي الحياة. اليوم، الضريبة على القيمة المضافة تطال كل شيء ما عدا المواد الغذائية مع العلم أن ثمّة أمور كثيرة غير المواد الغذائية تعد من الأساسيات في الحياة. في السابق، كان الحد اللازم للخضوع للضريبة 100 مليون ليرة أي 70 ألف دولار. أما اليوم بات الحد 750 مليون ليرة أي 7500 دولار ما يعني أنّ أغلب الأشياء باتت خاضعة للضريبة على القيمة المضافة.
يلفت صالح إلى أنّ الدولة تمارس الخداع والنفاق مع المواطنين. نحن في وضع استثنائي وانهياري والتعاملات باتت على سعر صرف 150 ألف ليرة، أما “صيرفة” فهي واجهة لاستفادة الرأسماليين والسياسيين والكبار. يعيد ويكرّر :” هذه ليست موازنة. الموازنة يقتضي أن تستند على خطة وتعمل على إنقاذ البلد من الوضع الاقتصادي، كما تعمل على تعزيز القدرة الشرائية، وإنجاز نظام ضريبي عادل”. ويشير صالح إلى أنّ من المفارقات الغريبة العجيبة داخل هذه الموازنة هي فرض ضرائب على ودائع الأشخاص المتوفين في البنوك. ومن المفارقات أيضًا تخصيص 7 بالمئة من الموازنة للبنى التحتية في بلد لا كهرباء ولا مياه ولا اتصالات فيه. وهنا يسأل صالح: “ماذا تُنجز الـ7 بالمئة أي الـ 11 ألف مليار ليرة من أصل 180 ألف مليار ليرة؟”.
لا يرى صالح في الموازنة العتيدة سوى زيادة العجز والتضخم، فهي موازنة أسوأ بكثير من عام 2022. الإيرادات زادت من خلال زيادة الضرائب والرسوم أكثر من 30 مرة عن عام 2022. جرى تخفيض “التنزيلات” العائلية للموظف رغم تراجع القدرة الشرائية للمواطن، وارتفعت رسوم الطوابع كثيرًا وكذلك الإفادات الرسمية. برأي صالح، تُشبه الموازنة كل شيء إلا الموازنة التي هي من الناحية القانونية “صك تشريعي تقدّر فيه نفقات الدولة ووارداتها عن سنة مقبلة وتجاز بموجبها الجباية والإنفاق”، أما من الناحية الاقتصادية فهي “خطة اقتصادية مالية نقدية للسنة المقبلة” أي خطة لها أهداف اقتصادية، وهذه المواصفات لم تتحقّق في موازنة عام 2023 ــ يقول صالح ــ الذي يُرجّح أن لا تُقر وأن يستمر الإنفاق الحالي غير القانوني.
* المصدر: موقع العهد التحليلي
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من المصدر ولا تعبر عن رأي الموقع