السياسية:

ربما تبدو السطور التالية، للوهلة الأولى، منفصلةً عن واقع عالمنا المعاصر وهمومه الملموسة. فهي تتناول بالنقد مقولةً نظريةً انتشرت بقوة منذ عام 2015 عن عالمٍ جديدٍ يتشكل أمام أنظارنا، تحت تأثير ثورة صناعية رابعة يٌفترض أننا نعيشها حالياً، سوف تحل كل مشاكله من فقرٍ وبطالةٍ وعوزٍ بلمساتٍ سحريةٍ من عصا التكنولوجيا الرقمية.

لكنّ التدقيق الجاد في مقولة “الثورة الصناعية الرابعة” يكشف نقاط ضعفٍ أساسيةً فيها، الأمر الذي يتركنا وجهاً لوجه أمام جوهرها الأيديولوجي كمحاولة من النخب الغربية لإقناع جمهورها ومليارات البشر في كوكبنا بأنها ليست متأزّمة، وأن نفوذها لا يأفل، وأنها ما برحت رائدة وقائدة وفاتحة لعوالم المجهول، وأن كل ما علينا أن نفعله هو الانضواء تحت رايتها، راية الثورة الصناعية الرابعة، كي نرى نور الوفرة والنعيم في نهاية النفق الراهن.

ولأن مقولة “الثورة الصناعية الرابعة” تبنتها الدول الغربية، وبالتالي المؤسسات الدولية، من صندوق النقد الدولي إلى الأمم المتحدة، فإنها أصبحت مقولة سائدة فرضت سطوتها حتى على بعض دول جنوبي الكرة الأرضية وشرقيّها، ومن ذلك مثلاً إعلان الاتحاد الأفريقي، في موقعه عبر الإنترنت، في 26/2/2020، أن الثورة الصناعية الرابعة باتت “لحظة فاصلة في مسيرة التنمية الأفريقية”. كما أن الكتابات العربية عن تلك الثورة المزعومة تأخذها وتردد صداها من دون تدقيق، لمجرد تبنيها من طرف الغرب والمؤسسات الدولية.

باتت تلك المقولة سائدة ومعممة إلى درجة يصعب معها إيجاد نقادها وحججهم بسهولة في محركات البحث في الإنترنت. ولعل تهميش أولئك النقاد إنترنتياً هو إحدى “بركات” الثورة الصناعية الرابعة المزعومة. لذلك، فإن السطور التالية مدخلٌ للتعريف بوجهة نظرٍ أخرى، غير سائدة، بصدد مقولة “الثورة الصناعية الرابعة”، لن تجد لها أثراً في اللغة العربية.

يدور الحديث إذاً عن صناعة الإذعان للهيمنة الغربية أيديولوجياً، وعن كشف قناعها التكنولوجي “المحايد”، أي أنه يدور بشأن مسألة راهنة جداً هي الصراع العالمي مع النخب الحاكمة في الغرب الجماعي وضرورة مواجهة خطابها الأيديولوجي/التكنولوجي الجديد في الأعوام الأخيرة، بعد أن خفت بريق النيوليبرالية.

من الذي يروج مقولة “الثورة الصناعية الرابعة”؟
نشأ مفهوم “صناعة 4.0” على يد مجموعة من العلماء الألمان عام 2011 كانوا يطورون مشروعاً للتكنولوجيا المتقدمة، برعاية الحكومة الألمانية، يقوم على حوسبة الإنتاج الصناعي. ويشكل “المصنع الذكي”، أو الإنتاج المرقمن، درة تاج ذلك المشروع.

لا حديث حتى الآن عن “ثورة صناعية جديدة”، بل عن تطوير تطبيقات الحاسوب في مجال إدارة التصنيع، وهي عملية بدأت تخطو خطواتها الأولى منذ عقود.

أمّا التقاط عنوان المشروع، أي “صناعة 4.0″، وتحويله إلى أيديولوجيا تدّعي وقوع ثورة جديدة بالكامل في حيز الاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة، وتعد بتفجير أنهار النعيم على الأرض، فجرى على يد كلاوس شواب، مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي عام 1971، ومديره التنفيذي حتى اليوم.

نشر شواب ورقة في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية، في 12/12/2015، بعنوان “الثورة الصناعية الرابعة”، وبعد ذلك بأسابيع، أي في 20/1/2016، انعقد المنتدى الاقتصادي العالمي تحت عنوان “إتقان الثورة الصناعية الرابعة”.

من الأهمية بمكان الانتباه إلى أن المنتدى الاقتصادي العالمي، الملقب بـ”منتدى دافوس”، هو منتدى أكبر ألف شركة متعدية الحدود، من التي لا تقل المبيعات السنوية للواحدة منها عن 5 مليارات من الدولارات. كما أن اللقاء السنوي للمنتدى في دافوس، سويسرا، بات مناسبة سنوية تجتذب نخباً سياسية وثقافية دولية لمناقشة مصير العالم وقضاياه مع أكبر شركاته، ولنسج علاقاتٍ بها.

منتدى دافوس إذاً هو أحد أهم المطابخ السياسية لرأس المال المالي الدولي، إن لم نقل إنه أكبرها على الإطلاق. وهذه الخلفية مهمة جداً لفهم مقولة “الثورة الصناعية الرابعة” من زاوية هوية الجهة التي أطلقتها، وموقعها في خريطة الصراع الدولي، ووزنها من منظور الاقتصاد السياسي.

لم تكن مقولة “الثورة الصناعية الرابعة” إذاً مطروقةً قبل ورقة كلاوس شواب نهاية عام 2015، وقبل التئام منتدى دافوس بداية عام 2016، أي أنها لم تتبلور في الحلقات الأكاديمية أو الثقافية الغربية بصورةٍ طبيعية، كما تبلورت النظريات الاقتصادية النيوليبرالية في المجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية.

فُرضت المقولة فرضاً من الخارج، وراح يرددها العالم، ومنه العالم الأكاديمي الغربي، من بعد شواب ومنتدى دافوس، حتى أصبحت من “مسلّمات” الفكر السائد، مع أن مصدر الفكرة يفترض أن يدعو تلقائياً إلى التشكيك في دوافعها، وخصوصاً من طرف المناهضين للهيمنة الغربية.

جاءت الولادة القيصرية لمقولة “الثورة الصناعية الرابعة” من رحم منتدى دافوس مفاجئة إذاً: من أين أتى هذا الوليد يا ترى؟ ومتى؟ وكيف؟

جاءت أول الأصوات المشككة في مقولة “الثورة الصناعية الرابعة” من داخل النخب الغربية الحاكمة ذاتها، عبر مقالة للمنظِّر الاقتصادي المعروف جيريمي ريفكِن Jeremy Rifkin، نُشرت في 15/1/2016، أي بعد إعلان عنوان منتدى دافوس عام 2016، وقبل انعقاده بأيام.

قال ريفكِن في مقالته إن كل ما تحدث عنه شواب من تطبيقات تكنولوجية يُعَدّ امتداداً للثورة الصناعية الثالثة، أي الثورة الرقمية التي وقعت في النصف الثاني من القرن العشرين، وليس هناك من داعٍ علميٍ بالتالي للحديث عن “ثورة صناعية رابعة” (فإذا انتفى الدافع علمياً، فماذا يكون يا ترى؟!).

من المهم لفت النظر إلى أن ريفكِن منظّرٌ معروفٌ ومحسوبٌ على المؤسسة الغربية، وهو أميركي ويهودي لطالما عمل مستشاراً في دول الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة. وكان نشر كتاباً بعنوان “الثورة الصناعية الثالثة” عام 2011، أصبح من أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة، وتُرجِمَ إلى 19 لغة، وبيع منه نصفُ مليون نسخة في الصين وحدها. لكن من الواضح أن ريفكِن تحمس ولم يكن في الصورة، فأطلق مقالته رداً على شواب، والتي ما برح يجري اقتطافها في الأدبيات (المهمشة إنترنتياً) المناهضة لمقولة “الثورة الصناعية الرابعة” حتى اليوم.

على الرغم من ذلك، فإن تفحص سيرة ريفكِن في موقع “ويكيبيديا” لا يُظهِر أثراً لموقفه المنشور بشأن دعوة كلاوس شواب، بل يُظهِر في الخاتمة ملاحظة نقدية مفادها أن “ريفكِن يفتقد الصرامة العلمية في ادعاءاته”. وهذه الملاحظة لعناية من يعتمدون محركات البحث والموسوعات الإنترنتية فحسب، إذ إن ما تكشفه ربما يكون مثيراً للاهتمام أحياناً، أما ما تخفيه فكثيراً ما يكون أكثر خطورةً.

ويبدو أن ريفكِن تعلّم درسه ولم يعد إلى مساجلة شواب ومنتدى دافوس مباشرةً بعدها، على الأقل في مقالاتٍ ومقابلات، ليتحول جل تركيزه إلى موضوع البيئة والاقتصاد الأخضر. ولم يردّ مثلاً على كتاب كلاوس شواب الصادر تحت عنوان “الثورة الصناعية الرابعة” ذاته قبيل انعقاد منتدى دافوس عام 2017.

مقولة “الثورة الصناعية الرابعة” في الميزان
زعم كلاوس شواب في السطور الأولى من مقالته في “فورين أفيرز” عام 2015 أننا “نقف على شفا ثورةٍ تكنولوجية من شأنها أن تغير جذرياً الطريقة التي نعيش بها ونعمل ونتواصل مع بعضنا البعض. وسيكون التحول، في حجمه ونطاقه وتعقيده، متبايناً عن أي شيءٍ شهدته البشرية من قبل”. ليس التحول تكنولوجياً صرفاً إذاً، بحسب زعمه، بل يمس منظومة العلاقات الاجتماعية برمتها.

يسوق شواب في مقالته هنا، ثم في كتابه، ويردد المرددون من بعده، قائمة طويلة من التطورات التقنية التي تؤكد مقولته، مثل “الذكاء الاصطناعي، الإنسان الآلي (الروبوتات)، إنترنت الأشياء، المركبات التي تقود ذاتها بذاتها، تكنولوجيا النانو، التكنولوجيا الحيوية، علم المواد وهندستها، تخزين الطاقة، والحوسبة الكمومية، وكلها تطورات لا يمكن إنكارها طبعاً، وما برحت في مقتبل الإفصاح عما تختزنه من إمكانات هائلة في تشكيل المستقبل.

يضيف شواب: “ما برح عدد من هذه الابتكارات في مهده، لكنه وصل بالفعل إلى نقطة انعطاف في تطوره لأنه يبني ويضخم بعضه بعضاً في اندماج التقنيات عبر العوالم المادية والرقمية والحيوية”، أي اندماج الآلة والبرمجة الحاسوبية والإنسان (أو المادة الحيوية) معاً بفعل تلك التقنيات، “الأمر الذي يؤثر في كل فروع المعرفة والاقتصادات والصناعات، متحدياً بعض التصورات بشأن معنى أن تكون إنساناً”، كما نجد في تقديم كتابه الصادر عام 2017 في موقع المنتدى الاقتصادي العالمي.

لكنّ استدخال الذكاء الاصطناعي في “معنى أن تكون إنساناً”، من خلال دمج الآلة الذكية في البيولوجيا، هي فكرة روّجتها استديوهات هوليوود منذ عقود بالمناسبة، كما رأينا مثلاً في فيلم “تيرمِنِيتور” Terminator من بطولة أرنولد شوارزنيغر، والذي أُنتج عام 1984، وفي أجزائه اللاحقة. وأفلام هوليوود ليست لهواً وترفيهاً فحسب، بل غالباً ما تكون مثل شرائح البصلة التي تسكن ثناياها نفحة أيديولوجية نفاذة لمن يعنى بتجريدها من قشورها وتشريحها نقدياً.

وليست القضية أن ما بدأ خيالاً تحول مصادفةً إلى حقيقة، بل إن الفكرة الخيالية ذاتها وتجسيدها درامياً والموازنة والإمكانات اللازمة لذلك، وتعميمها في وعي الجمهور بالتكرار سينمائياً، هي بالضرورة جزءٌ من مشروع قديم، في حين يحاول البروفسور شواب ومريدوه أن يقنعونا بأنه أتى بصورةٍ جديدةٍ مدهشة!

لكن ما هي تلك الفكرة بالضبط؟ أن الإنسان يتكون كيميائياً من جزئيات عضوية مصنوعة من الكربون والهيدروجين والأوكسجين، ومن جزئيات غير عضوية، فيها معادن كالحديد والزنك والكبريت، وأن في إمكان المنظومة الغربية أن تعيد صياغته بصورةٍ أفضل عن طريق الذكاء الاصطناعي؟ فهل يعود ثمة داعٍ بعدها للخوف من هيمنة الذكاء الاصطناعي على العالم إذا التحم بالبشر بيولوجياً، ولو كان ذلك عن طريق مجسّات sensors، أو شرائح نانوية الحجم مزروعة فيهم؟

إن مثل ذلك الخطر يبقى قائماً فقط في حال تفلت الذكاء الاصطناعي من أعنّة القائمين عليه، وإلّا فإننا نتحدث في الجوهر هنا عن منظومة هيمنة على البشر لم يسبق لها مثيلٌ في تاريخهم. لكن من الذي يدير تلك المنظومة الآن؟ ولمصلحة من؟ هذا ما لا يتطرق إليه البروفسور شواب.

المهم أن هذه الثورة، بحسب شواب، تختزن فرصاً وإمكانات هائلة، إذ يمكن أن “توصل مليارات إضافية من البشر بالشبكات الرقمية، وأن تحسن كفاءة المنظمات (أي الشركات) بصورةٍ كبيرة، وحتى أن تدير الأصول بطريقة تساعد على تجديد البيئة الطبيعية، الأمر الذي قد يمحو الضرر الذي أحدثته الثورات الصناعية السابقة”.

إنما يكمن الخطر، في رأيه، في عدم احتضان الحكومات والشركات للثورة الصناعية الرابعة وشروطها، وهو ما “سيسفر عن تغيرات في موازين القوى تنتج منها مخاطر أمنية، وتزايد في عدم المساواة، وتفكيك للمجتمعات”، أي أن المتخلفين عن الالتحاق بالثورة الصناعية الرابعة سيدفعون الثمن، ولا يقع اللوم في ذلك إلا عليهم.

يردّ نقاد مقولة الثورة الصناعية الرابعة بأن مثل تلك الآثار هو بالضبط ما تحاول أن تخفيه تلك المقولة الماكرة ودعاتها كنتيجة طبيعية لمركزة الثروة والسلطة وقدرات التحكم عن بعدٍ بأيدي قلة محتكرة ستهمش الأغلبية العظمى في المجتمعات الغربية وخارجها.

مقولات نقاد مقولة “الثورة الصناعية الرابعة”
رب قائل: ما المشكلة في وصف التطورات التكنولوجية المتلاحقة اليوم، مثل شبكة الـ 5G أو الطباعة ثلاثية الأبعاد أو الهندسة الوراثية أو الحوسبة السحابية (Cloud Computing) وغيرها، بأنها تنتمي إلى ثورة صناعية ثالثة أو رابعة أو خامسة أو عاشرة؟ أليس المهم هو أننا نعيش اليوم في خضم تلك التطورات، وأنها تؤثر بعمق في نمط إنتاجنا ومعيشتنا؟ وهل المشكلة مشكلة تسمياتٍ ومصطلحاتٍ في المحصلة، أم مشكلة اللحاق بتلك التطورات كي لا يخلفنا الزمن، الذي لا ينتظر أحداً، وراءه؟

يرد البرفسور إيان مول Ian Moll من جنوب أفريقيا، وهو أحد أهم نقاد مقولة “الثورة الصناعية الرابعة”، بأن مثل هذا التساؤل أو الاعتراض يخطئ الهدف للأسف، إذ إن الخلاف ليس إذا كنا نعيش في عصرٍ يتسم بالابتكار التكنولوجي السريع، فهذا ليس موضع شك، بل فيما إذا كنا نمر في تغير سريع وأساسي، سياسياً واجتماعياً، يستحق أن نسميه “ثورة” تنقلنا من عصر الصناعة الثالث إلى الرابع. وإذا لم نكن، فما هي أبعاد الحديث عن “ثورة صناعية رابعة”؟ (المصدر: كتاب إيان مول “دحض أسطورة الثورة الصناعية الرابعة”، جوهانسبرغ، آذار/مارس 2022، ص 4).

يضيف البرفسور مول أن أبعاد ذلك الادعاء عبارة عن أيديولوجيا، إذ لا تحول جوهريّ في بنية المجتمع والدولة والثقافة يزوغ عن المسار الذي بدأ في النصف الثاني من القرن العشرين يبرر الحديث عن “ثورة صناعية رابعة”. وبصفتها الأيديولوجية تلك، فإن المقولة تعمل على التطبيع والإخفاء للاستغلال والتهميش المتزايدين لأمم الأرض وشعوبها الأكثر فقراً. ومن البديهي أن من يمارس مثل ذينك الاستغلال والتهميش هو رأس المال المالي الدولي الذي أطلق مقولة الثورة الصناعية الرابعة عبر واجهته الأهم: منتدى دافوس.

يمضي البرفسور مول بعد ذلك في كتابه ليُظهر جذور كل واحد من التطورات التكنولوجية المهمة، والمنسوبة اليوم إلى الثورة الصناعية الرابعة، إلى الثورة الصناعية الثالثة في القرن العشرين، من الرقمنة والذكاء الاصطناعي والروبوتات والتعلم الآلي (أي قدرة الآلات على التعلم وتصحيح ذاتها من دون تدخل بشري) إلى إنترنت الأشياء والأنظمة السيبرانية المدمجة في المادة والبيانات الكبيرة والبلوكشين والطباعة ثلاثية الأبعاد (المصدر ذاته، ص: 30-39).

ولا يتسع المجال هنا للدخول في كل واحدة من تلك الحالات بالتفصيل، لكن نذكر على عجل أن الذكاء الاصطناعي بدأ بتطوير الحواسيب الرقمية السريعة في الخمسينيات، وأن أول روبوت صناعي جرى تطويره عام 1961، وأن 750 ألف روبوت كان يعمل في المصانع حول العالم مع مجيء عام 2000، وأن التعلم الآلي وتطوير الشبكات العصبية الاصطناعية بدآ في الخمسينيات. وبناءً عليه، تغلب على بطل العالم في الشطرنج عام 1997، وأن الإنترنت والمحولات التناظرية/الرقمية التي يعتمد عليها عمل إنترنت الأشياء، القادرة على التواصل، بعضها مع بعض، من دون تدخل بشري، بدأت في منتصف الستينيات.

يضيف البرفسور مول في ورقة أكاديمية بعنوان “الثورة الصناعية الرابعة أيديولوجيا جديدة”، نشرت في 17/2/2022، أن مقولة الثورة الصناعية الرابعة جاءت لإنقاذ النيوليبرالية من الأزمات التي راحت تتمرغ فيها منذ بداية الألفية الثالثة، الواحدة تلو الأخرى، وصولاً إلى الأزمة المالية الدولية عامي 2008-2009، وأنها انكشفت قبل ذلك وبعده كأداةٍ لإفقار الشعوب ومركزة الثروات، وأنها باتت في حاجة إلى رداءٍ جديدٍ تعيد إنتاج صورتها فيه (ص: 54-55). وهو بيت القصيد في المحصلة: أدى تأزم مسار الثورة الصناعية الثالثة الذي أنتج نظاماً دولياً مرقمناً تدفعه المعلومات، أو تسليعها بالأحرى، إلى نشوء الحاجة إلى إعادة إخراجه بصورةٍ أبهى.

هل نعيش ثورة صناعية جديدة؟
إن وصف “ثورة صناعية” لا يعني حدوث بضعة تطورات تكنولوجية فحسب، بل يتضمن أيضاً تغييراً كاملاً في بنية الاقتصاد والمجتمع والثقافة والدولة. على سبيل المثال، أنتجت الثورة الصناعية الأولى بين نهاية القرن الـ18 وبداية القرن الـ19 انتقالاً في نقاط الثقل من الزراعة إلى الصناعة اقتصادياً، ومن الإقطاعي إلى مالك المصنع الحديث اجتماعياً، ومن الإمارات والممالك إلى الدولة القومية سياسياً، ومن رجل الدين إلى المثقف الحديث ثقافياً. وكان ذلك كله مدفوعاً بقوة المحرك البخاري وبطاقة الفحم وبسكك الحديد.

أنتجت الثورة الصناعية الثانية بين نهاية القرن الـ19 وبداية الحرب العالمية الأولى انتقالاً ضمن الصناعة إلى المصانع الضخمة التي تعتمد خط التجميع (assembly line)، ومن صاحب المصنع إلى المصرفي الذي يتحكم في المصنع وأصحابه، ومن تشكيل الدول القومية إلى تبلور ظاهرة الإمبريالية (كشيء متباين عن مفهوم الاستعمار)، وإلى نشوء ظاهرة الاقتصاد الدولي. وكان ذلك كله مدفوعاً بقوة محرك الاحتراق الداخلي وبطاقة النفط وبالكهرباء وبتمديد شبكات الطرق المعبدة.

أنتجت الثورة الصناعية الثالثة في النصف الثاني من القرن الـ 20 انتقالاً إلى العولمة، عولمة المنشأة الإنتاجية من جهة، وعولمة ملكية رأس المال المالي الذي لم يعد يتسم بهوية قومية من جهةٍ أخرى. وحل هنا عصر منتدى دافوس. وكان ذلك كله مدفوعاً بقوة الحاسوب وانتشار الإنترنت. وأحدث ذلك كله أثر القدرة على الإدارة عن بعد، وبدأت الإدارة الوسطى تفقد صلاحياتها لمصلحة الإدارة العليا في كل المنظمات العامة والخاصة، وما حوسبة التصنيع سوى استمرار لهذا المسار.

ملاحظة أخيرة
تتبعت أثر الكتاب والباحثين الذي نقدوا مفهوم الثورة الصناعية الرابعة، فوجدت أغلبيتهم من جنوب أفريقيا، وأحدهم من الهند، وآخر من إسبانيا، ومن المؤسف أن العناية بهذا النقاش منعدمة عربياً في أمرٍ يمسنا بصورةٍ مباشرة.

كما لاحظت أن البرفسور إيان مول وغيره من نقاد مفهوم الثورة الصناعية الرابعة لا يعزون أي جزءٍ من أزمة النخب الغربية إلى احتدام الصراع العالمي وصعود قوى منافسة للغرب دولياً وإقليمياً، وهو إغفالٌ أرجو ألاّ يكون مدفوعاً بنظرة يسارية طفولية إلى طبيعة تلك المحاور المناهضة للغرب.

* المصدر: الميادين نت
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من المصدر وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع