عندما تحوّل “غلاف غزة” إلى “قلعة” محصّنة (3/7): التوغّل والاختراق بديلاً من الانتظار
السياسية:
لا يزال “الجيش” الصهيوني ينفذ يومياً سلسلة إجراءات بحق قطاع غزة، أهمها الخروق المتكررة على المستويات البرية والبحرية والجوية. مع ذلك، تبقى هذه الخروقات محدودة مقارنة بسنوات ما قبل 2014.
يبدو ضرورياً الحديث عن وضع الحدود من الجانب الفلسطيني قبل الذهاب إلى كشف ما حدث ويحدث على الجانب الصهيوني داخل فلسطين المحتلة (الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة)، لأنَّ الأول هو الجانب الأكثر احتكاكاً وسخونة ميدانياً وأمنياً؛ فالثابت في سلوك “جيش” الاحتلال أنه لا يزال يتعامل مع غزة على أنها ساحة المواجهة الأولى والأساسية، بل الأكثر نشاطاً، على صعيد الحروب والمعارك العسكرية (المواجهة المباشرة) لاعتبارات عدة، أهمها أنها داخل فلسطين المحتلة ولا تحكمها قواعد اللعب مع الدول.
من هذا المنطلق، لا يزال “الجيش” الصهيوني ينفذ يومياً سلسلة إجراءات بحق القطاع، أهمها الخروق المتكررة على المستويات البرية والبحرية والجوية. مع ذلك، تبقى هذه الخروقات محدودة مقارنة بسنوات ما قبل 2014، وأهم أهدافها “استمرار الجاهزية في المنطقة الحدودية” و”متابعة المتغيرات”؛ فمِن رفح جنوباً حتى بيت حانون شمالاً، وصولاً إلى بحر بيت لاهيا على خط موازٍ، يواصل “الجيش” عمليات التوغل بهدف التجريف وجعل القطاع ساحة مفتوحة أمامه والتأكد من أيّ شكوك أو معلومات أمنية أو ميدانية.
أما في البحر، فيهدف الاحتلال إلى المحافظة على المساحات المسموح بها للصيد (متفاوتة بين مرحلة وأخرى) مع استمرار المراقبة لمنع حالات التسلل أو عمليات التهريب، وخصوصاً مع أي تيارات بحرية طاردة ناحية الشواطئ في غزة، إذ يخشى زيادة وتيرة التهريب في مثل هذا الظرف. ليس أخيراً في الجو، لا يخلو يوم من دون تحليقٍ لطائرات الاستطلاع، إضافة إلى طائرات مسيرة صغيرة بهدف جمع المعلومات والاستعداد لأيّ اغتيال طارئ (ستُفصّل الحلقة التالية من هذه السلسلة في هاتين الجزئيتين).
“حدّ السيف”… وما بعد
ثمة نوع آخر من الخروق لا بدَّ من الحديث عنه قبل الإسهاب في تفاصيل الخروق البرية والبحرية والجوية، ألا وهو الخرق الأمني، أي التسلل. ربما تكون عملية “حد السيف” (التسمية فلسطينية خالصة هذه المرة من دون تسمية صهيونية مقابلة) في أيلول/سبتمبر 2018 العلامة الفارقة بين مرحلة ومرحلة في تاريخ التسلل الأمني الصهيوني داخل القطاع. صحيح أنَّ ما قبل هذه العملية كان “اختراقاً” صهيونيا كبيراً للبيئة الداخلية للمقاومة، لكن انكشاف الوحدة الخاصة ومقتل قائدها أحدث شرخاً كبيراً في الاستعداد الصهيوني للمغامرة.
كانت الأهداف الأساسية لدخول القوات الخاصة إلى غزة منذ ما بعد الانسحاب الصهيوني منها عام 2005 متعددة، لكن يمكن حصرها في السنوات الأخيرة في هذه السلّة:
في نتائج التقييم الإسرائيلي لما جرى بعد “حد السيف”، سرّب الاحتلال خلاصة مفادها أن الدخول إلى غزة صار وراء ظهره، وأن الوحدات المعنية بذلك جرى تفكيكها. كان يمكن الاطمئنان إلى أن هذه النتيجة ممكنة التحقق جراء الصدمة، لكن آثارها لن تمتد أكثر من عامين، فالتجربة تقول إن الخداع هو أهم وسيلة لـ”جيش” الاحتلال، ويمكن النظر إلى الضفة للتأكد من ذلك في سلسلة الإجراءات الأمنية والعسكرية ضد المقاومين (تستحق دراسة مفصّلة)، ولكن أيضاً لأن الاحتلال سيبقى بحاجة دائمة إلى دخول غزة لأكثر من هدف.
في المقابل، كانت المقاومة ولا تزال على أهبة الاستعداد لتكرار مثل هذا الاحتمال في أي لحظة، ولها إجراءات وبروتوكولات خاصة جرى تحسينها مراراً، ولا سيما أن ما قبل هذه العملية وما بعدها شهد انتكاسات في عدد من الحالات، فضلاً عن استمرار ظاهرة التسلل عبر السياج الفاصل (من الجانبين) التي تثبت أن ضبط الحدود الممتدة أكثر من 63 كيلومتراً مهمة صعبة على الطرفين: المقاومة والاحتلال (ستتعرض الحلقة الخامسة لقضية التسلل).
التوغلات البرية
لا يكاد يخلو شهر من اختراقات أسبوعية أو شبه أسبوعية للمنطقة الحدودية بمسافة 50–100 متر عادة، و150 في حالات خاصة. تهدف هذه العمليات إلى تجريف التربة والنباتات، إضافة إلى عمليات بحث ميدانية وجيولوجية حول أي تغيرات يمكن الاستدلال منها على أنفاق. يلاحظ هنا أن عمليات التوغل زادت بعد “سيف القدس” (2021) للمناطق المحاذية للسلك الفاصل.
طوال 2022، نفذ الاحتلال 54 عملية توغل داخل أراضي القطاع، فيما شهدت الأشهر الأخيرة قبيل “ثأر الأحرار” حالة مماثلة. أما ما جرى العام الماضي، فيمكن عرضه كما يلي:
بالتوازي، يمكن تسجيل مجموعة من الملاحظات على عمليات التوغل خلال السنة ونصف السنة الماضية، أهمها أن الاحتلال، بعد “وحدة الساحات” في آب/أيلول 2022، نفذ توغلاً في المناطق كافة لإعادة تمهيد الحدود.
يقوم التوغل على دخول عدد من الدبابات، وأيضاً الجرافات التي تجري عمليات تمشيط، إضافة إلى تجريف للأراضي القريبة من الحدود وإزالة النباتات والصخور لتبقى المنطقة سهلة المراقبة والمتابعة. كذلك، تتركز عمليات التوغل في المناطق التي يتخوف الاحتلال من أنها قد تستخدم لعمليات تسلل إلى الأراضي المحتلة أو قد تشهد عملاً للمقاومة قريباً.
تلاحظ كثافة التوغلات في عدد من المناطق (خان يونس جنوباً ودير البلح في الوسط وبيت حانون شمالاً) نتيجة لكبر المنطقة الحدودية هناك وتنوع تضاريسها، ما يعطي نقاط ضعف وإمكانية للاختراق. لهذا، ثمة دائماً عمليات مسح لسد الثغرات وإعطاء صورة للمقاومة تفيد بتنبه الاحتلال في هذه المناطق. أيضاً، تأتي التوغلات أكثر كثافة في المناطق التي فيها كتل سكانية قريبة من الحدود مثل خان يونس.
في المعدل العام، لا تتجاوز مدة بقاء قوات الاحتلال خلال التوغل أكثر من ساعتين، إذ تؤدي الجرافات العسكرية مهماتها وتنسحب بسرعة، فيما تقع عمليات التوغل في الأيام الأكثر هدوءاً مع المقاومة في غزة، إذ يقلص “الجيش” التوغل في الأوقات التي تشهد توتراً خشية استهدافها من المقاومة.
في حال لم يكن هناك توغل، يعمل الاحتلال على إبعاد المواطنين عن السلك الفاصل، ويستهدف كل من يقترب منه، وخصوصاً صيادي العصافير الذين يَتخوف من أن يكون جزء منهم يعملون في وحدات الرصد التي تراقب الحدود وتبحث عن نقاط ضعف.
وقد سُجلت العام الماضي 19 عملية اعتداء عليهم عبر إطلاق النار وإطلاق الغاز المسيل للدموع. وفي 4 عمليات منها، تعمّد “الجيش” الصهيوني إطلاق قنابل الغاز على نقاط مراقبة لـ”الضبط الميداني” التابعة للمقاومة في نوع من التحذير، لكن لم تُسجل إصابات سوى بالاختناق.
في المقابل، لا تسمح المقاومة لقوات الاحتلال باختراق المنطقة الحدودية أكثر من مئة متر، ولدى عناصرها قرارات واضحة بمنع توغل الآليات العسكرية وفق التسلسل الآتي: التحذير، فالاستهداف غير المباشر، فالاستهداف المباشر بالتشاور مع القيادة الميدانية لمراعاة الأوضاع الميدانية وحالة انتشار وحدات الرصد و”الضبط الميداني”.
نتابع في الحلقة التالية الخروق البحرية والجوية مع وضع خلاصة حول مجمل الإجراءات الصهيونية لجهة التوغل والاختراق والهدف منها.
* المصدر: الميادين نت
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من المصدر وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع