السياسية:

ينتشر حلف الناتو، عبر قواعده العسكرية وقواته التابعة لدوله الثلاثين، في معظم الكرة الأرضية، وعلى المستوى التنظيمي والعسكري، لدى الحلف العسكري الاوسع في العالم ثلاثة مقار قيادة مشتركة – في إيطاليا وهولندا والولايات المتحدة، لكنّ القيادة العسكرية تتخذ من بلجيكا مقراً لها.

وحالياً، يقود حلف الناتو الجهود العسكري الغربية لمواجهة روسيا ودعم أوكرانيا في الحرب الجارية منذ سنة، وهي جهود لم تبدأ مع دخول القوات الروسية إلى الدونباس، بل تعود في مراحلها الأولى إلى سنوات 2005 وقبلها.

ولكنّ الحلف الأطلسي، الذي خليت له الساحة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف وارسو، دخل في طور جديد من التحديات مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، ما كشف عن المشاكل الكبيرة التي يعانيها على مستويات متعددة، والتي تنذر بأنّ مستقبل الحلف، الذي قيل يوماً أنه يقود مسار “نهاية التاريخ” والأحادية القطبية للغرب، قد لا يكون منسجماً مع الدعاية الغربية بشأن صلابته وقدراته.

مشاكل الناتو ودوله ليست جديدة

لم تبدأ الأسئلة حول فعالية الناتو في شباط/فبراير 2022، بل يشكك العديد من خبراء الاستراتيجيا والشؤون الدولية بنجاعة سياسات الناتو خلال العقدين الأخيرين.

سيمون تيسدال، محلل الشؤون الدولية في صحيفة الغارديان البريطانية، سبق أنّ أشار، في مقال نشر منذ أشهر تحت عنوان “خلف درع الناتو يكمن الضعف والانقسام – أوكرانيا ستدفع الثمن”، إلى أنّ المشاكل داخل الحلف لم تبدأ في أوكرانيا، ولكنّها ستظهر أكثر وأكثر مع استمرار الحرب، لا سيما في حال رجحت الكفة إلى جهة موسكو.

فقد اعتبر تيسدال أنّ سكوت الناتو إلى حدّ كبير عن “التمادي” الروسي في حروب الشيشان وجورجيا وسوريا، وفي أوكرانيا نفسها بعد ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، مهّد لتدهور ردع الناتو والوصول إلى الوضع “الكارثي” اليوم، مع “تجرّؤ الروس” على شنّ الحرب على أوكرانيا، في مواجهة الناتو.

ويضاف إلى ذلك أنّ الحروب الكبرى التي شنّها الناتو والدول والتحالفات المنضوية تحت لوائه، في العراق وأفغانستان وليبيا وصربيا ودول أميركا اللاتينية، لم تؤدِّ بمجملها إلى تحقيق أهدافها بعيدة المدى، بصرف النظر عن الفظائع التي ارتكبتها القوات الغربية والخسائر الفادحة التي سببتها في هذه البلاد، وقد ظهر ذلك بشكل كبير في فضيحة الانسحاب من أفغانستان وفي ليبيا.

مظاهر التأزم في “الناتو” بعد أوكرانيا على المستوى السياسي

الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة

كرّس ردّ الفعل على الحرب في أوكرانيا الاعتماد المفرط لدول الحلف الـ29 على الولايات المتحدة الأميركية، وهو أمر سبق أن أشار إليه بكثافة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي لطالما ابتزّ الدول الأوروبية في قضية استفادتها من القدرات الدفاعية للناتو مقابل عدم مساهمتها الكافية في الحلف على الصعيدين المادي والمالي.

إذ ثبّت التحالف الدولي ضدّ روسيا بقيادة الناتو أنّ الدولة التي يمكنها بالفعل تحديد مسارات السياسة والاقتصاد والسلم والحرب بالنسبة لحلفاء واشنطن هي واشنطن نفسها، بعد أن غيّرت دول عديدة مثل ألمانيا وفرنسا والسويد وفنلندا والنروج وغيرها في توجهاتها السياسية الأولى، التي كانت تحاول الحفاظ على توازن ما في العلاقة مع روسيا، وانضمّت تحت الأمر الواقع إلى التحالف، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.

ولا شكّ أنّ واقعة تفجير خط “نورد ستريم” شكّل نقطة مفصلية في التحوّل، حيث أظهر لألمانيا وللدول الأخرى، التي كانت تريد الحفاظ على تمايز نسبي عن سياسات الناتو، أنّ كلّ الخيارات في الضغط على الحلفاء مفتوحة عند واشنطن، ولو كلّف ذلك أن يتمّ التدخل عسكرياً أو أمنياً لفرضها.

ولا يعدّ ذلك زيادة في قوة واشنطن أو ظهوراً لتفاقم هيمنتها، بقدر ما يعدّ مظهراً للخلافات الجوهرية في توجهات وسياسات مرتبطة بقضايا أساسية بين دول الحلف الكبرى، والتي تعني أنّ الحلف في جوهره غير قائم على الانسجام والتكامل بين دوله، وهو ما ظهر في التحديات التي واجهها الحلف، وأبرزها التصنيع العسكري والمعدات والذخيرة.

دول أعضاء “خارج السرب” شكّل الاختلاف بين أعضاء حلف شمال الأطلسي بشأن أوكرانيا أحد أسوء الأزمات التي مرّ بها الناتو في تاريخه الحديث، حيث بدا واضحاً أنّ دوله الـ30، التي تفتح الباب أمام دول إضافية للانضمام إليها، لا تتشارك الرؤى بشأن قضايا أساسية، وتقارب بعض أهم الملفات من زواياها الخاصة واعتباراتها المتمايزة عن البقية، بينما تمتلك دول أخرى أوضاعاً خاصة فرضت عليها الإنفراد في سياسات خاصة.

رومانيا

بالرغم من احتوائها لأقرب القواعد العسكرية التي يملكها حلف الناتو بالنسبة إلى الأراضي الروسية، وأبرز قواعده في شرق أوروبا، لكن رومانيا تلتزم بسياسات حذرة جداً تجاه روسيا، وتسعى إلى عدم الإنخراط كحكومة وقيادة سياسية في أي تصعيد مع موسكو، بعكس توجهات الحلف العامة.

بلغاريا

تمتلك بلغاريا وضعاً خاصاً كذلك، فهي تضمّ قاعدة مهمة للناتو، وحكومتها مؤيدة لتوجهات الحلف، ولكنّ الانقسام الكبير على مستوى التيارات السياسية، والذي يعبر عن انقسام في التوجهات السياسية للشعب البلغاري، قسم البلاد بين مؤيّد للاتحاد الأوروبي ومناصر للسياسات الأوروبية، وبين مؤيدين لروسيا ومعادين لبروكسل وسياسات الاتحاد، وهؤلاء لم يعودوا يقتصرون على أنصار الحزب الإشتراكي وريث الشيوعية.

هنغاريا

بطبيعة الحال، تعدّ هنغاريا (المجر) الدولة الأوروبية ودولة الناتو الأكثر إثارة لسخط الغرب، والتي عبّر القادة السياسيون الغربيون بصراحة في مرات عدة عن كون سياساتها تجاه روسيا “إشكالية” وغير ملائمة للتوجهات العامة للجبهة المعادية لروسيا.

فقد رفضت الحكومة في المجر الانضمام إلى العقوبات القاسية ضد موسكو، وحافظت على علاقاتها مع روسيا، وطالبت وتطالب بشكل مستمر بحلّ سلمي للأزمة وتجنب التصعيد.

تركيا

تعدّ تركيا، بوزنها السياسي الإقليمي والدولي وبكونها عضواً مؤسساً في الناتو وإحدى أقوى دوله من جهة القوة البشرية والعسكرية، وباحتوائها على قاعدة الناتو “إنغرليك” الكبرى، إحدى المشكلات الكبيرة التي عانى منها الناتو في تصعيده مع روسيا.

فقد رفضت الحكومة برئاسة إردوغان أن تنضم إلى العقوبات ضد روسيا بشكل واسع، وحافظت على علاقات جيدة جداً مع موسكو، وناورت للعب دور وسيط بين أوكرانيا وروسيا، كما دخلت مع شراكات اقتصادية مهمة مع روسيا على مستوى تجارة الغاز والطاقة النووية، وافتتح البلدان منذ شهر مفاعلاً نووياً مشتركاً في تركيا.

كما برز موضوع الولاء لسياسات الناتو ضمن أجندة المعارضة التركية في الانتخابات الأخيرة، التي انتقدت بصراحة ما وصفته بمخالفة إردوغان لسياسات الناتو في العديد من الملفات، وعبّرت عن توجهها في حال فوزها لتخفيض مستوى العلاقات مع موسكو، فيما عبّر إردوغان بصراحة في حملته الانتخابية وبعد فوزه، عن أهمية العلاقات بين أنقرة وموسكو.

اليونان

على الرغم من انسجام الحكومة مع مطالب الاتحاد الأوروبي وتوجهات الناتو ضد روسيا، ولكنّ المزاج الشعبي العام في اليونان يضمّ تيارات كبرى مؤيدة لروسيا ورافضة للتصعيد ضدها.

وقد استفادت بروكسل والناتو من الضغوطات الاقتصادية التي يعاني منها اليونان الغارق في الديون والتضخم، لتفرض على الدولة اتباع السياسات الغربية بحذافيرها، لكنّ المزاج الشعبي قد ينفجر في أي لحظة في وجه مظاهر التأزم في “الناتو” بعد أوكرانيا على المستوى العسكري مشاكل سلاسل الإمداد وقدرات التصنيع العسكري مشاكل سلاسل الإمداد وقدرات التصنيع العسكري أوضحت الحرب في أوكرانيا أنّ ترسانة حلف الناتو ومجمل الدول الغربية الحليفة، غير جاهزة للدخول في حروب حقيقية.

إذ أظهر التخبطات التي اعترت التصنيع العسكري مع انقطاع سلاسل التوريد في بداية الحرب، أنّ الدول الأوروبية بمعظمها غير قادرة على الحفاظ على قدرات التصنيع في ظروف الحرب، مع انقطاع مصادر المعادن والخامات من روسيا وأوكرانيا، وذلك بالرغم من استمرار حركة التوريد من دول أخرى مهمة وغير مأمونة الجانب بالنسبة للغرب، كالصين والهند والبرازيل وغيرها.

وانعكست مشاكل ضعف قدرات التصنيع العسكري، والتي نتجت عن سياسات اعتُمدت على مدى عقود لدى دول الناتو في القارة الأوروبية بشكل خاص، على وفرة الإمكانات العسكرية في الحرب الأوكرانية، مع العلم أنّ الحرب هي مقابل مقدّرات دولة واحدة هي روسيا، والتي لا تتجاوز ميزانيتها العسكرية في أحسن أحوالها 10% من ميزانيات الحلف دوله.

حيث ظهرت الحاجة إلى التغطية المدفعية الكثيفة في بداية الحرب، ولجأ الناتو إلى تأمين مدافع “إم777” الهاوتزرية، والتي استنفدت بشكل كبير ذخيرتها في المرحلة الأولى بعد نزولها إلى الميدان، ودخلت بعدها في مرحلة تقنين الاستخدام، وأصبحت أهدافاً لمسيرات الروس الانتحارية.

مشاكل وثغرات في أنواع أسلحة أساسية

كما أوضحت الحرب مشاكل حقيقية في نوعية الأسلحة الغربية المنتجة، فالتصنيع الغربي اتجه بشكل كبير للاستثمار في القدرات الجوية والتقنيات المتقدمة ولكنّ الحرب البرية الدائرة في أوكرانيا اليوم، مع وجود معادلات ردع ألغت مفاعيل التفوق الجوي الغربي الذي اعتادته القوات الأطلسية في حروب سابقة، كشفت النقص الكبير في القدرات.

إذ برزت مشاكل الأسلحة ذات المديات القريبة، الموجودة لدى القوات الغربية، مقابل أسلحة ذات مدى أبعد لدى القوات الروسية، لا سيما على مستوى الأسلحة الصاروخية المختلفة، والتي لطالما راهن الغرب على أن يلعب التفوق الجوي في المعارك دوراً حاسماً في منع العدو من الاشتباك عن مسافات بعيدة، وفي مساعدة القوات الصديقة في الاقتراب بشكل كبير من خطوط الجبهة ومواجهتها.

كما أظهرت منظومات الدفاع الجوي الغربي وجود ثغرات كبيرة في تكتيك المواجهة متعددة الطبقات، فحين اكتسحت مسيرات “جران-2″، النسخة الروسية عن مسيرة “شاهد-136” الإيرانية، الأجواء الأوكرانية، ونقلت خط الجبهة إلى العمق الأوكراني وإلى شوارع كييف، لم يكن هناك في القاموس الغربي أسلحة دفاع جوي فعالة ضد هذا النوع من التهديد، كما أنّ صاروخ الباتريوت لا يستطيع التعامل مع أهداف تحلق على مسافات عشرات الأمتار فوق الأرض.

وعلى مستوى الصواريخ فرط الصوتية، ظهر التفوق الروسي في ساحة المعركة بوضوح، حيث أكّد الأميركيون في مرات عدة وعلى مستويات مختلفة من القيادة العسكرية والسياسية، أنّ هذه الفئة من الصواريخ الروسية، مثل “كينجال” و”أونيكس” و”إسكندر إم-2″، تعدّ عصية على التصدي الناجح من قبل الدفاعات الجوية، وتشكل خطورة كبيرة على مختلف أنواع القوى، لا سيما البوارج وحاملات الطائرات والمقرات والمنشآن الحساسة.

غياب قابلية التشغيل البيني لأنظمة الأسلحة المختلفة

ظهر كذلك في الحرب الأوكرانية، على المستوى العسكري، غياب القدرة المسبقة والجهوزية للتنسيق البيني لأنواع الأسلحة المختلفة في مختلف البلدان الأعضاء في الناتو، وكذلك النقص الكبير في التدريبات المشتركة الفعالة وفي مشاركة الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخباراتية والخبرات.

وبرزت مشاكل مشاركة صور الأقمار الصناعية في مراحل مختلفة من الحرب، وكذلك لم تنجح محاولات تزويد أوكرانيا بدبابات ذات دروع تفاعلية أميركية أو بريطانية حتى الآن، من قبل مختلف أعضاء الحلف، بسبب “الحاجة للحفاظ على سرية” هذه التقنيات، كما كشف النقاش بشأن تزويد أوكرانيا بالدبابات الموانع الكبيرة التي تعيق تشكيل ألوية مدرعة مشتركة، بحسب ما كشفه خبراء غربيون لوسائل إعلام.

أزمة الإعلام والدعاية وتراجع الردع الغربي

بعد عام 1991، قامت معظم الانتصارات في حروب حلف الناتو ودوله، على فرضية أنّه حيثما حصل التدخل العسكري سيعني ذلك حكماً انتصاراً للجبهة المدعومة غربياً، ولذلك كانت النقاشات في مرات عديدة تتركز حول مسألة التدخل أو عدمه، بينما لم يكن يتمّ التركيز بشكل ظاهر على تفاصيل التدخل وحدوده وطبيعة الأسلحة والتقنيات، فهذه المسائل كانت تعتبر “اختصاصية”، و”سهلة”، وتوكل إلى القيادة العسكرية.

أما اليوم، فالنقاش في مسائل تفصيلية مرتبطة بمدى بعض الأسلحة ونوعيات الدبابات والمدرعات والتسليح، يتمّ على أعلى المستويات السياسية، ويخرج قسم كبير منه إلى العلن وبشكل تفصيلي، ما يظهر أنّ الأمر لم يعد “سهلاً، كما حصل في التدخل الأميركي في حرب الكويت مثلاً، أو في صربيا وغيرها.

وقد أثر ذلك، وسيؤثر مستقبلاً، على صورة الحلف وردعه، وعلى الدعاية التي أدّت في العديد من الظروف إلى تحقيق انتصارات من غير معارك، وفرض أجندات الناتو بشكل ناعم، كما ساهمت في صناعة عامل جذب لدى الدول للانضمام إلى الحلف.

والجمعة الفائت، أخفق وزراء دفاع الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي في التوصل إلى اتفاق على خطط جديدة بشأن رد فعل الحلف على أي هجوم روسي محتمل، وألقى دبلوماسيون بالمسؤولية عن الإخفاق على تركيا ودول أخرى.

وتتجه الأنظار إلى قمة فيلينوس المقبلة، التي تعدّ استراتيجية في المواجهة مع روسيا، ويرجح خبراء أن تشهد انقسامات في السياسات العامة للناتو حيال التعامل مع الأزمات المشتركة، لا سيما مع ظهور مشاكل جدية في الهجوم الأوكراني المضاد، الذي لطالما راهن عليه الغرب خلال العام الفائت في إحداث خرق يعيد ترجيح ميزان القوة لصالح واشنطن وحلفائها الأطلسيين مقابل روسيا.

* المصدر: موقع عرب جورنال
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع