السياسية:

عرض تحقيق صحفي التفاصيل الكاملة لقضية “الإمارات 94” التي استندت عليها دولة الإمارات في تجريم المعارضة السلمية لتكريس القمع المستمر وفرض النظام السلطوي المستبد.

وأبرز التحقيق الذي نشره موقع (نون بوست) الالكتروني، اختطاف رجل الأعمال الإماراتي الذي يحمل الجنسية التركية، خلف عبد الرحمن الرميثي (58 عامًا) مؤخرا، وتسليمه إلى السلطات الأمنية في أبوظبي.

وجرى اختطاف الرميثي بعد وصوله إلى الأردن في زيارة خاصة، وإيقافه في مطار الملكة علياء واقتياده إلى قصر العدل بالعاصمة عمّان بناءً على طلب من الإمارات.

ورغم إخلاء القضاء الأردني المعارض الإماراتي بكفالة مالية وتحديد عقد جلسة للنظر في تسليمه من عدمه، تبيّن بعد أيام أن أجهزة الأمن الأردنية ضربت بقوانين الدولة عرض الحائط، وسلمت الرميثي عنوة لأبوظبي دون أي محاكمة أو إجراءات قانونية في جريمة مكتملة الأركان.

رغم صدور وثيقة رسمية فيها حكم الإفراج عنه، وبعد مضيّ 10 أيام من الاختفاء القسري، أقرّت أبوظبي تسلمها رسميًّا الرميثي من السلطات الأردنية، واصفة إياه بـ”الإرهابي المطلوب للعدالة”.

كما قالت إنها ستعيد محاكمته مرة أخرى وفقًا لقانون الإجراءات الجزائية الذي ينص على أنه “في حال القبض على متهم صدر بحقه حكم غيابي أو سلَّم نفسه، وتُعاد محاكمته في نفس التهم المنسوبة إليه”.

ورغم ابتعاد الرميثي عن أي نشاط سياسي وعدم خروجه على أي وسيلة إعلامية منذ خروجه من البلاد قبل 10 سنوات، وتركيزه على عمله في المشاريع التجارية التنموية، إلا أن جهاز أمن الدولة لم يتوقف عن ملاحقته.

وجمّدت الحكومة الإماراتية أمواله، وحرمته من رؤية بعض أبنائه عبر فرض منع السفر عنهم، ووضعت اسمه لدى لائحة المطلوبين لدى “الإنتربول” و”الشرطة العربية”، لتتحيّن الفرصة أخيرًا وتلقي القبض عليه في إطار سطوة جهاز أمن الدولة على القانون والقضاء.

أثارت هذه الواقعة قلق منظمات حقوقية أعربت عن مخاوفها من تعرض الرميثي للتعذيب وسوء المعاملة وعدم حصوله على محاكمة عادلة.

وانتقدت تلك المنظمات موقف الأردن بالتواطؤ في هذه الانتهاكات التي يحظر دستورها في مادته “تسليم اللاجئين السياسيين على أساس مبادئهم السياسية أو دفاعهم عن الحرية”.

في حين تقول السلطات الإماراتية إن إجراءات تسلمه جرت وفقًا للاتفاقيات المبرمة بشأن التعاون القانوني والقضائي بمجلس وزراء الخارجية العرب، المعنية بملاحقة المجرمين الفارّين من العدالة الجنائية وفق قولها.

جاءت ملاحقة السلطات الأمنية في أبوظبي على خلفية قضية عُرفت وقتها باسم “الإمارات 94″، والتي رفض فيها الرميثي تعليمات جهاز أمن الدولة بالشهادة ضد المعتقلين الآخرين.

لتتمّ محاكمته غيابيًّا بالسجن 15 عامًا بتهمة “إنشاء وتأسيس تنظيم سرّي يتبع لجماعة الإخوان المسلمين”، في أشهر محاكمة للمعارضين أعقبت حملة قمع غير مسبوقة على نشطاء الديمقراطية، وكشفت تناقضات الدعم الغربي لنظام أبوظبي.

كيف بدأت القصة؟
بدأت الحملة عام 2011 بعد اندلاع ثورات الربيع العربي.

لم تكن هناك احتجاجات في الإمارات، وفي مارس/ آذار 2011 أعلنت الحكومة الإماراتية عن تخصيص مبلغ 1.6 مليار دولار في مشاريع البنية التحتية للمناطق الأقل نموًّا، والتي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها جزء من محاولة لتجنُّب السخط.

في ذلك الشهر، وقّع أكاديميون والعديد من أعضاء جمعية إسلامية تُدعى “الإصلاح والتوجيه الاجتماعي” (الإصلاح)، على عريضة إلكترونية تطالب ببدء عملية إصلاح ديمقراطي.

بما في ذلك الحق في اختيار أعضاء مجلس الحكّام الأعلى (المجلس الوطني الاتحادي) المؤلف من حكّام الإمارات السبع، والذي تركزت في يدَيه السلطة العليا للدولة.

وقدّمت المجموعة المكوّنة من 133 ناشطًا التماسًا إلى شيوخ الحكم الذين يسيطرون على المجلس، صاحب اليد الطولى في تعيين رؤساء الحكومات والوزراء، طالبوا فيه بانتخاب الأعضاء بالاقتراع المباشر بدلًا من اختيارهم بانتخابات غير مباشرة وبالتعيين.

بذلك لم تكن هذه المطالب وحملات القمع التي رافقتها صدفة في عالم ما بعد “الانتفاضات العربية”، فهم يريدون أن يتم إنشاء برلمان ديمقراطي بالكامل، وإعطاء تلك الهيئة سلطات تشريعية وتنظيمية كاملة.

كما طالبوا بإنهاء السلطة المطلقة الممثلة في هيئة شبه تشريعية مقضومة الصلاحيات، ويدعون إلى الحرية والمضيّ بالإصلاحات الديمقراطية والاستقلال القضائي الكامل، وتراجع الدولة الأمنية واعتماد الإمارات نظام ملكي دستوري يلتزم بمعايير حقوق الإنسان.

ضمن الموقّعين الشيخ سلطان بن كايد القاسمي، ابن عم حاكم إمارة رأس الخيمة، وكان حينها رئيس جمعية “الإصلاح”، وهي جمعية إسلامية يعود تاريخها إلى سبعينيات القرن الماضي، وتقول إن لديها 20 ألفًا من أنصارها، وتعرِّفها “هيومان رايتس ووتش” بأنها “جماعة غير عنيفة تدعو إلى زيادة الالتزام أكثر بتعاليم الإسلام بصورة سلمية، وإلى الحرية في البلاد”.

عقب إرسال العريضة، دشنت أجهزة المخابرات التابعة للدولة ردًّا قمعيًّا سريعًا لم يسبق له مثيل، ومذ ذلك الحين أطلقت العنان لحملة اعتقالات واسعة تستهدف المعارضة.

وفي الشهر التالي، اعتقلت أجهزة الأمن 5 ناشطين بارزين ومنتقدين للحكومة، معظمهم لم يوقّعوا على العريضة، وحُوكموا بتهمة “التجريح” بالعلاقة في مقالات نشروها على منبر “حوار الإمارات العربية المتحدة” للنقاش على الشبكة.

وتطورت قضيتهم لاحقًا ليُعرَفوا بـ”الإماراتيين الخمسة”، وحُكم عليهم جميعًا بالسجن 3 سنوات، لكن صدر عفو أميري عنهم في اليوم التالي، رغم الإبقاء على سجلّهم الجنائي.

وشملت قائمة المستهدفين أيضًا مواطنين من مختلف مناحي الحياة الإماراتية: هناك 3 قضاة، واثنان من المدافعين عن حقوق الإنسان (المحامي الحقوقي البارز محمد الركن ومحمد المنصوري).

ومجموعة من رجال القانون البارزين والأكاديميين والمحامين والمدرّسين وقادة العمل الطلابي، ومن بينهم القاضي محمد سعيد العبدولي والفقيه والأستاذ جامعي الدكتور هادف العويس.

وحتى كان منهم أقارب إحدى العائلات المالكة في هذا البلد، الذين قالوا إنهم لا يتطلعون إلى الإطاحة بالقيادة، لكنهم يطالبون بإصلاح ديمقراطي، بالإضافة إلى أفراد عائلاتهم الذين حاولوا مناصرة ذويهم من خلال الكشف عن الانتهاكات التي ترتكبها الدولة بحقهم.

قال أبرزهم، المدافع الإماراتي عن حقوق الإنسان أحمد منصور، الذي كان من الموقعين على العريضة سابقة الذكر، إنه منذ ذلك الحين تعرّض للضرب مرتَين، وسُرقت سيارته واختفى حوالي 140 ألف دولار من حسابه المصرفي الشخصي، واتهم الحكومة بمحاولة ترهيبه.

وقال إنها ترفض إعادة جواز سفره، لكنها لم تعلّق على قضيته، وتدّعي في كل مرة أنها “تستخدم الوسائل القانونية للحفاظ على الاستقرار”.

في منتصف عام 2011، تحولت الحملة مباشرة إلى جمعية “الإصلاح”، وبدأت السلطات ممارسة الضغوط على من لهم صلة بالجمعية التي كانت تعمل بشكل قانوني في البلاد منذ عام 1974، إلا أن الأمر تغير لاحقًا.

وفي عام 1994 أغلقت السلطات مقرّها الرئيسي في دبي، وأقدمت على حلها عام 1995 بعد ازدياد نشاطها واتساع عدد مؤيديها، لذلك انتقل قادتها إلى العمل السرّي في إمارة رأس الخيمة، لكن حوارها مع السلطات لم ينقطع، وعادت إلى العمل العلني مرة أخرى بعد عدة مفاوضات عام 2003.

لكن ابتداءً من عام 2011، تلقت هذه الجمعية حصة الأسد من القمع، وجرّدت السلطات 7 من أعضاء “الإصلاح” من الجنسية على نحو تعسُّفي لأسباب أمنية غير محددة، وأُمروا بمغادرة البلاد، اُحتجر 6 منهم على الأقل بمعزل عن العالم الخارجي لشهور دون تهمة، لرفضهم التوقيع على تعهُّدات بأنهم سيتقدمون للحصول على جنسية جديدة.

نشر الشيخ سلطان حينها مقالًا ينتقد فيه السلطات لقرارها تجريد السبعة المعروفين باسم “الإمارات 7” من جنسيتهم، وكتب: “إن إسقاط الجنسية عنهم لا يضرّ فقط بالمواطنين السبعة، بل يضرّ أيضًا بهيكل الدولة والتماسك المجتمعي ككل”.

تصاعدت الاعتقالات التي طالت الشيخ سلطان، ففي أبريل/ نيسان 2012 اقتحم مسلحون منزله، وطلبوا منه التوقيع على اعتراف يدينه بمعارضة النظام لكنه رفض حتى قراءة الوثائق، فاُحتجز في الحبس الانفرادي في أحد قصور ابن عمه حاكم رأس الخيمة، إحدى أفقر الإمارات في الاتحاد الغني بالنفط، دون إبداء أي سبب لاعتقاله، ثم ظهر بعد عام في المحاكمة الأشهر في تاريخ الإمارات.

جاء اعتقال القاسمي بعد أن أبلغه زملاؤه في الأسرة الحاكمة قبل أسبوعَين أن قوات الأمن في أبوظبي أرادت اعتقاله، وبدا حينها أن استهدافه تصعيد واضح لحملة الحكومة على “الإصلاح” بشكل خاص، وهاجس الإسلام السياسي بشكل عام، فلم تكن تلك فقط خطوة ضد عضو بارز في جمعية كانت قبل سنوات في حالة من الوئام والتصالح مع السلطات، لكن أيضًا أحد أفراد إحدى العائلات السبع الحاكمة في الإمارات.

مع اعتقال القاسمي، بدأت الضغوط تتزايد على الناشطين، فقُبض على الأشخاص الـ 94، وبينهم عدد من النساء، واحدًا تلو الآخر، واُقتيدوا إلى أماكن مجهولة لشهر كامل قبل أن يُسمح لهم بإجراء اتصالات هاتفية مع بيوتهم، لإخبار أحبائهم بأنهم ما زالوا على قيد الحياة.

وفقد بعضهم وظيفته، وجرى التشهير ببعضهم في وسائل الإعلام، وطُردت زوجات العديد منهم من وظائفهن، بينما فُصل أطفال بعضهم من المدارس، كما فُرض حظر على سفر العديد من أقاربهم ومُنعوا من مغادرة البلاد.

توالت بعد ذلك الاعتقالات التي طالت معظم الموقعين الآخرين -ومعظمهم من الإصلاح- على العريضة، واتهمتهم السلطات بالتواصل مع جهات أجنبية للإساءة إلى سمعة الدولة، وأنهم على علاقة بجماعة الإخوان المسلمين بهدف التمويل، وأنهم يسعون إلى الاستيلاء على الحكم، لكن أعضاء الإصلاح نفوا صلتهم بالإخوان.

ويقول خالد الركن، الذي يعد شقيقه محاميًا بارزًا، ومن بين من يخضعون للمحاكمة، إنها “منظمة اجتماعية وليست سياسية أو اقتصادية، وعملت مع الناس من أجل الحفاظ على الإمارات كدولة مسلمة ذات طابع عربي”، ونقلت عنه صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أن “السلطات رأت في أنشطتنا الحلقة الأولى في سلسلة نحو إسقاط الحكومة وإضعاف الدولة”.

لم تكتفِ السلطات الإماراتية بهذا الإجراء، بل سعت إلى تقويض نفوذ الجمعية على النقابات المهنية، وامتدت حملة القمع إلى المجتمع المدني، وواجهت بعض الجمعيات والنقابات حملة قمع بما يتعارض مع القانون الدولي لحقوق الإنسان.

وفي أبريل/ نيسان 2011، صدرت الأوامر بإغلاق 4 منظمات غير حكومية بما فيها نقابتَي الحقوقيين والمعلمين، بدعوى انتهاك “المادة 16” من قانون الجمعيات لعام 2008، الذي “يحظر على المنظمات غير الحكومية وأعضائها التدخل في السياسة أو في الأمور التي تضر بأمن الدولة ونظامها الحاكم”.

لم يمرَّ كثيرًا حتى ولّت جمعية “الإصلاح” التي كانت تدير ذات يوم المجمّع الاجتماعي عند مدخل المدينة، فقد استبدلت السلطات مجلس إدارتها بالكامل بمرسوم حكومي، وحاكمت العشرات من أعضائها، وغيّرت اسمها، وتحركت حكومة الإمارات بقوة لإغلاقها، واتهام أعضائها بالتآمر ضد الدولة، بل تعدّى الأمر إلى سحب جنسية الناشطين المنتمين إلى جمعية “الإصلاح” وحرمانهم منها.

المحاكمة الجماعية الأسوأ
خلال الأشهر التي سبقت المحاكمة السياسية الغريبة في الإمارات، اُحتجز ما لا يقل عن 64 من المعتقلين في أماكن غير معلنة لفترات تصل إلى عام واحد قبل المحاكمة، لم يحصل العديد من المعتقلين على مساعدة قانونية حتى أواخر فبراير/ شباط 2013.

وعندما حصل ذلك كان ممثل نيابة أمن الدولة في الغرفة وعلى مرمى البصر، في انتهاك لمتطلبات القانون الدولي الخاصة بالسرّية في المحادثات بين المحامين وموكليهم.

فقط بعد أن هددت عائلات المتهمين بالاعتصام، أُحضروا إلى المحكمة وهم معصوبي الأعين، وظهرت على بعضهم علامات واضحة تشير إلى تعرضهم للتعذيب وسوء التغذية وسوء المعاملة، وتوسّل البعض إلى سجّانيهم لإعطائهم الدواء، كان جميعهم خائفين من الكلام.

بالإعلان عن المحاكمة في يناير/ كانون الثاني 2013، أفصح المدعي العام أخيرًا عن السبب وراء حملة الاعتقالات.

وقال في بيان إن المعتقلين “أطلقوا وأنشأوا وأداروا منظمة تسعى إلى قلب النظام السياسي في البلاد، بما يخالف المادة 180 من قانون العقوبات، وأن هذه الجمعية السرّية “وضعت هدفها التحريضي على الورق، لكنها تعترف بشكل غريب أن هذه الوثائق قد أُتلفت”.

سعت السلطات لإقناع المحكمة بأن أعضاء الجمعية كانوا يخططون لتشكيل حكومة موازية، في حين ادّعى النائب العام الاتحادي، سالم سعيد كبيش، أن المدانين كانوا يعملون وفق أجندة سرّية للتسلل إلى المدارس والجامعات والوزارات.

وأشار إلى أن النيابة العامة لديها أدلة على أن المتهمين أسّسوا منظمة موازية “أهدافها غير المعلنة كانت مواجهة المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم”، بحسب ما ذكر ممثلو وسائل الإعلام الإماراتية المحلية الذين سمحت لهم السلطات بحضور المحاكمة.

ضاعفت سلطات الإمارات الانتهاكات الجسيمة السابقة للمحاكمة من خلال الحرمان التعسفي لأفراد الأسرة والمراقبين الدوليين ووسائل الإعلام الدولية من الوصول إلى المحاكمة.

وقبل افتتاح المحاكمة في 4 مارس/ آذار 2013 منع مسؤولو الأمن دخول أحمد نشمي الظفيري، المراقب الدولي للمحاكمة عن منظمة العفو الدولية، ونعومي كروتاز، ممثلة منظمة “الكرامة” لحقوق الإنسان ومقرها جنيف، حيث نجح العديد من المراقبين الدوليين في دخول البلاد.

لكن السلطات منعتهم من دخول المحكمة، رغم امتثالهم للإجراءات المنصوص عليها وتقديم الوثائق المطلوبة.

وزاد اعتقال عبد الله الحديدي، نجل أحد المتهمين الـ 94، في 21 مارس/ آذار 2013، المخاوف بشأن عدالة المحاكمة، فقد اتهمته السلطات في 28 مارس/ آذار، بموجب المادة 265 من قانون العقوبات، بنشر تفاصيل جلسة محاكمة عبر الإنترنت “بصورة غير نزيهة وبنية سيّئة”.

استندت السلطات إلى مرسوم بقانون 5 لسنة 2012 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، الذي تجعل المادة 46 منه “استخدام الإنترنت أو تكنولوجيا المعلومات طرفًا مشددًا في ارتكاب الجرائم”.

حضر الحديدي 4 جلسات منذ بدء المحاكمة، وكتب عنها على مواقع التواصل الاجتماعي، في اليوم السابق لاعتقاله أبلغ مسؤولون من المحكمة الاتحادية العليا في أبوظبي الحديدي وأقارب آخرين للمتهمين، أن السلطات لن تسمح لأفراد الأسرة بحضور المحاكمة بعدها.

وقد زاد هذا من الشكوك حول سبب حاجة السلطات لإخفاء ما يقال ويُفعَل في الداخل بحسب “هيومن رايتس ووتش”، علمًا أن الإمارات طرف في الميثاق العربي لحقوق الإنسان، الذي ينص في المادة 13 على أن “المحاكمات يجب أن تكون علنية، إلا في الحالات الاستثنائية التي قد تتطلبها مصلحة العدالة في مجتمع يحترم حريات وحقوق الإنسان”.

الأدلة ضد المتهمين كانت أيضًا لغزًا، فقد اعتمد ملف المدعي العام، الذي أُرسل إلى المحكمة قبل أيام قليلة فقط من بدء المحاكمة، بشكل كبير على الاعترافات القسرية لاثنين من المتهمين.

وفي اليوم الأول من المحاكمة، كان لدى أحدهم، أحمد غيث السويدي الذي تعرّض للحبس الانفرادي المطوّل الذي يرقى إلى الاختفاء القسري، تغيير جذري في موقفه، فقد نفى التهم الموجهة إليه، وناشد المحكمة لحماية عائلته: “أعلم أن ما سأقوله قد يكلفني حياتي، لكني أنكر التهم وأطلب من المحكمة حماية حياتي وحياة عائلتي”.

في النهاية، أصدرت المحكمة الاتحادية حكمها بحقّ 94 شخصًا قدّموا للمحاكمة، وقضت بسجن 61 منهم لمدد من 7 إلى 15 عامًا، ومحاكمة 8 غيابيًّا بأحكام غير قابلة للاستئناف، وبراءة 25 من بينهم 13 امرأة إثر محاكمة جماعية وُصفت بأنها “فادحة الجور”، واستندت فيها النيابة إلى احتجاز المتهمين بمعزل عن العالم الخارجي مددًا وصلت إلى سنة، والاعترافات المنتزعة بالإكراه كعنصر أساسي في الأدلة، وقبلتها المحكمة.

كان لدى منظمات حقوق الإنسان، بما فيها منظمة العفو الدولية “أمنستي”، الكثير لتقوله بعد هذه المحاكمة، فقد عدت المحاكمة “معيبة وغير قانونية” باعتبارها محاكمة جماعية، أسفرت عن احتجاز تعسفي لعشرات الأشخاص دون احترام لحقهم بمحاكمة عادلة، ووجدت وقت المحاكمة أن 11 من بين 14 سجينًا في القضية -المحتجزين الآن بعد قضاء محكوميتهم- هم سجناء رأي.

وفي حين قامت مجموعات في تحالف منظمات حقوق الإنسان بتوثيق مزاعم موثوقة بالتعذيب في مرافق أمن الدولة الإماراتية لسنوات عديدة، أشادت جمعية الإمارات لحقوق الإنسان، التي تربطها علاقات وثيقة بالسلطات الإماراتية، بالجلسة الأولى في بيان أصدرته لـ”وكالة الأنباء” الحكومية في 8 مارس/ آذار.

وقالت الجمعية: “سمح القاضي للمتهمين بالحق في التحدث والتعبير عن مطالبهم من خلال محامي الدفاع”، وصرحت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان أن “المتهمين كانوا بصحة جيدة، ولم يكن هناك دليل على التعذيب”، رغم أن المنظمة ذكرت أيضًا أن بعض المتهمين قالوا إنهم تعرضوا للتعذيب عند القبض عليهم، وأن اثنين منهم قالا إنهما تعرضا للاختفاء القسري لمدة 5 أشهر.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، وصف محامٍ أمريكي للحريات المدنية، كان قد راقب جلسات محاكمة 5 معارضين سياسيين، القضية بأنها “مليئة بالعيوب القانونية والإجرائية منذ البداية”، وخلص إلى أن “الإجراءات القانونية الصارخة حرمت الرجال الخمسة من حقهم في محاكمة عادلة”.

بدا حينها أن المحاكمة سياسية بوضوح، فقد استبق قائد شرطة دبي، ضاحي خلفان، الحكم، محذّرًا من أن جميع دول الخليج تواجه تهديدًا وجوديًّا يتمثل في جماعة الإخوان المسلمين في مصر، التي لا تخفي جمعية “الإصلاح” التي ينتمي إليها معظم المتهمين، ولكن ليس كلهم بأي حال من الأحوال، تعاطفها الأيديولوجي معها، إلا أن هذه الادّعاءات لم تمنع المنظمات الدولية من التنديد بتلك الاعتقالات والمحاكمات.

الإمارات التي غالبًا ما توصف بأنها واحدة من أكثر دول الخليج استقرارًا، حسّاسة للغاية لصورتها الدولية كدولة حديثة ومتقدمة، وقد انضمت إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في يوليو/ تموز 2012، لكنها رفضت السماح للجنة الأمم المتحدة بالتحقيق في مزاعم فردية بالتعذيب، كما أبدت تحفُّظًا على الاتفاقية جاء فيه أن “الألم والمعاناة الناشئَين عن العقوبات القانونية” لا يرقيان، في نظرها، إلى درجة التعذيب.

أُعلن عن المحاكمة نفسها عشية مراجعة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والذي اُنتخبت الإمارات لعضويته للمرة الأولى في فترة 2013-2015، ووعدت حينها بالتمسك بأعلى المعايير في تعزيز وحماية حقوق الإنسان، لكن تعاملها مع هذه المحاكمة أثار أسئلة مقلقة حول التزامها بإجراء محاكمات عادلة، واحترام معايير حقوق الإنسان الأساسية الأخرى.

ما زال القمع مستمرًّا
لم تنتهِ القضية بمحاكمة المتهمين، بل امتدت آثارها حتى بعد المحاكمة كما كان الحال قبلها، فبعد مرور عقد من الزمن على احتجاز الرجال الستيني جرّاء المحاكمة المتعلقة بقضية “الإمارات 94″، لا يزال بعض السجناء محتجزين بمعزل عن العالم الخارجي طوال سنوات، ويُحرمون من حقوقهم، ويتعرّض أقرباؤهم لعمليات انتقامية.

يصف أقارب السجناء كيف عانوا هم وأحباؤهم المسجونون طيلة السنوات الماضية، فقد أبلغت أسرة حسن الجابري، أحد المحكوم عليهم هو وشقيقه حسين -كلاهما كانا موظفَين حكوميَّين سابقًا- بالسجن 10 سنوات، منظمةَ العفو الدولية أن السلطات منعت في ديسمبر/ كانون الأول 2019 كافة الزيارات العائلية، ومنعته من الاتصال بأسرته طوال ما يزيد على 6 أشهر، وجرّدتهما الحكومة من جنسيتهما في ديسمبر/ كانون الأول 2011.

ازدادت الآثار المدمرة لهذه السياسة القاسية وضوحًا بوفاة المعارضة والناشطة الحقوقية الإماراتية آلاء الصديق، المديرة التنفيذية لمنظمة “القسط”، وهي منظمة غير حكومية رائدة تسلط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية، وابنة محمد الصديق أحد السجناء في قضية “الإمارات 94” الذي اُعتقل عام 2013.

وسلطت وفاتها الأضواء على محنة أسر الذين فُرّقوا ظلمًا عن أحبائهم طيلة هذه السنوات، فقد توفيت في 19 يونيو/ حزيران 2021 جراء حادث سيارة في بريطانيا، دون التحدث إلى والدها منذ عام 2018 لأن السلطات قطعت كافه الاتصالات معه.

جرّدت السلطات في الإمارات آلاء وأشقاءها التسعة من جنسيتهم في مارس/ آذار 2016، بعد أن جُرِّد والدهم من جنسيته في ديسمبر/كانون الأول 2011 قبل الحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات، بسبب ما قالت السلطات “صلته بمنظمات وشخصيات إقليمية ودولية مشبوهة”، وفرّت آلاء الصديق إلى قطر عام 2012 ثم انتقلت إلى المملكة المتحدة عام 2019.

كذلك أُدين عمران الرضوان، صهر محمد الصديق، في القضية نفسها بعد اعتقاله في 16 يوليو/ تموز 2012، ورغم إكماله في يوليو/ تموز 2019 حكمًا بالسجن لمدة 7 سنوات، تستمر السلطات في احتجازه في “سجن الرزين” بموجب قانون مكافحة الجرائم الإرهابية “الفضفاض الصياغة” الصادر عام 2014، وقانون إنشاء “المركز الوطني للمناصحة”.

في حين أفرجت الحكومة عن سجناء إماراتيين آخرين في هذه القضية، بعد أن أدلوا باعترافات في مقاطع فيديو عُرضت على وسائل التواصل الاجتماعي الموالية للحكومة.

في مارس/ آذار وأبريل/ نيسان من عام 2022، أنهى 10 آخرين من المعارضين الذين يقبعون خلف القضبان محكوميتهم، من بينهم 5 كانوا قد وقّعوا على عريضة 2011، وكان من المقرر إطلاق سراحهم بعد أن أمضوا عقدًا من الزمن وأعوامًا طال انتظارها داخل السجن، لكن السلطات أبلغتهم باستمرار حجزهم لتقديم “المناصحة” لهم.

حسب قانون “مكافحة الإرهاب”، يمكن للمحاكم الإماراتية أن تصدر أوامرها باستمرار احتجاز أي سجين “يتبنى فكرًا متطرفًا أو إرهابيًّا” إلى أجل غير مسمّى، بحجّة تقديم “المناصحة” له في أحد “مراكز المناصحة” حتى يعدِّل سلوكه، ومن ثم يُعاد تقييم حالته للإفراج عنه.

لكن القانون لا يمنح السجين الحق في الحضور إلى هذه المراكز أو الحصول على محامٍ لتمثيله في الإجراءات، ولا يحق له الاستئناف ضد قرار الاحتجاز الإداري بحكم الأمر الواقع، وليس هناك حدّ أقصى للمدة في ظل نظام “المناصحة”، أو الاعتراض على هذه الانتهاكات القانونية المستمرة التي يتعرض لها.

وعلاوة على ذلك، لا يزال جميع السجناء المحتجزين بعد قضاء محكوميتهم رهن السجن نفسه والظروف نفسها، كما كانوا من قبل، وهو ما يجعل قانون “مكافحة الإرهاب” مجرد “ذريعة تستخدمها السلطات كأداة للقمع والتضييق على الفضاء المدني”، بحسب وصف منظمة العفو الدولية.

وترى المعارضة في “المناصحة” أداة عقاب لإسكات الأصوات المعارضة، وحجّة لتمديد الاعتقال وابتزاز هؤلاء المعتقلين بحريتهم.

وبحسب نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية، لين معلوف، كان هذا أحدث مثال لكيفية استخدام السلطات الإماراتية نظام العدالة كسلاح وتقويض سيادة القانون، وتجريم المعارضة السليمة وإسكات صوت أي شخص يختلف معها.

منذ عام 2017، وثّقت منظمة العفو الدولية احتجاز 24 سجينًا إماراتيًّا من محاكمات أخرى رفضت السلطات الإماراتية الإفراج عنهم بعد قضاء محكوميتهم، وفي نهاية المطاف أُطلق سراح 7 منهم بينما لا يزال 17 غيرهم في السجن، “لتجرؤهم على التحدث علنًا ضد السلطات الإماراتية، وممارستهم لحقهم في حرية التعبير وتكوين الجمعيات أو الانضمام إليها”، ومن بين 15 متهمًا في قضية “الإمارات 94” انتهت مدة محكوميتهم، أفرجت الإمارات عن واحد منهم فقط.

ولم تكتفِ السلطات بعدم الاستجابة لدعوات إغلاق “أجنحة المناصحة” أو المراكز في السجون، بل تتعمّد أجهزتها الأمنية ارتكاب الانتهاكات داخل السجون الرسمية، ما دفع المعتقلين في القضية إلى الدخول في إضراب عن الطعام لعدة أسابيع.

لكن السلطات لا تستجيب لأي دعوات لوقف هذه الانتهاكات التي امتزج فيها الاستفزاز والتفتيش المهين والمنع من النوم والحبس الانفرادي، إضافة إلى المنع من الزيارة أو الاتصال بالأهل.

تناقضات الإمارات
بالنسبة إلى الإمارات، فإن هذه القضية غير مسبوقة من حيث خطورة التهم وظهور المتهمين، لكنها أيضًا جزء من اتجاه أوسع في المنطقة.

إذ تحركت ممالك الخليج التي تهرَّبت من الدعوات إلى الديمقراطية التي ألهمت الربيع العربي بقوة، للقضاء على تلميحات النشاط السياسي.

لطالما استخدمت الأنظمة الملكية العربية في منطقة الخليج دولارات النفط لاسترضاء الدعوات للتغيير السياسي، واستخدم قادتها الثروة والانفتاح الاقتصادي والعمالة الأجنبية ليصبحوا مركزًا إقليميًّا، وهي تعتمد في كل مرة على التهديد بالسجن لإسكات المعارضة، وفي المملكة العربية السعودية قُمعت احتجاجات الأقلية الشيعية وحاكمت نشطاء حقوقيين بارزين وعلماء دين.

ثمة فجوة كبيرة بين الصورة الدولية التي تروّجها الإمارات عن نفسها باعتبارها وجهة سياحية مزدهرة، والانتهاكات العديدة التي ترتكَب خلف أبواب موصدة.

ربما تكون الحالة في الإمارات -وهي اتحاد يضم 7 عائلات حاكمة قفزت إلى الازدهار بفضل الثروة النفطية الهائلة وسياسات الأعمال- هي الأكثر شمولًا، إذ تحاول الحكومة إلغاء دعوات التغيير، لكنها تبقى حليفة للولايات المتحدة، وهي أكبر مستورد للبضائع الأمريكية، وتستضيف الموانئ فيها العديد من سفن البحرية الأمريكية، وهي أيضًا مهمة كمورِّد للنفط وثقل إقليمي موازن لإيران.

لكن الانفتاح السياسي لم يلحق بالجانب الاقتصادي، حيث الأحزاب السياسية محظورة، ومعظم المواطنين لا يمكنهم التصويت، ويعيّن الشيوخ الحاكمين نصف أعضاء البرلمان، النصف الآخر ينتخَب من قبل هيئة يختارها هؤلاء الشيوخ.

لم تمنع جوانب القصور السياسي هذه اعتبار الإمارات شريكًا غربيًّا رئيسيًّا، ففي ديسمبر/ كانون الأول 2012 وقّعت الإمارات على 60 طائرة من طراز “يوروفايتر تايفون” (Eurofighter Typhoon) من شركة “بي أيه إي سيستمز” البريطانية، بعد زيارة قام بها رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق ديفيد كاميرون.

كما وقّعت 17 عقدًا دفاعيًّا لطائرات بدون طيار أمريكية الصنع بقيمة 1.42 مليار دولار، وكانت أيضًا أكبر وجهة لتصدير الأسلحة الفرنسية، ما جعل هذه الدول صامتة إلى حدّ كبير تجاه حكومات دول الخليج غير الديمقراطية، رغم دعوتها إلى إصلاحات في أماكن أخرى.

يخشى بعض الإماراتيين من أن تهدد جماعات مثل “الإصلاح” الاستقرار الذي جعل بلدهم، البالغ عدد سكانه قرابة 10 ملايين، ثريًّا وآمنًا ومسالمًا، لكن الاندفاع نحو التحديث أثار جدلًا حول الهوية، إذ تساءل كثيرون عمّا يعنيه أن تكون إماراتيًّا في بلد يبلغ من العمر 50 عامًا فقط، ويفوق عدد الأجانب عدد السكان المحليين بنسبة أربعة إلى واحد.

ففي دبي، أكبر مدينة في البلاد، يندر السكان المحليون، وتنتشر المشروبات الكحولية على نطاق واسع، فضلًا عن مظاهر ليبرالية غريبة على مجتمع الإمارات المحافظ. وجهة النظر المنافسة التي نادى بها “الإصلاح” سائدة في الإمارات الشمالية الأقل ثراءً.

إذ تسود الأعراف الاجتماعية التقليدية، وهذا يعني أن ثمة فجوة كبيرة بين الصورة الدولية التي تروجها الإمارات عن نفسها باعتبارها وجهة سياحية مزدهرة، والانتهاكات العديدة التي تُرتكب خلف أبواب موصدة.

* المصدر: موقع اماراتي ليكس
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من المصدر