السياسية:

“البشر سيتحولون إلى زومبي، جراء جائحة يسببها فطر غامض، هذا ليس مجرد سيناريو لفيلم أمريكي مؤلفه واسع الخيال؛ لأن فطراً بالفعل يقوم بشيء مماثل، حيث يسيطر على النمل ويحوله لما يعرف باسم “النمل الزومبي”، فهل يمكن أن يفعل ذلك مع البشر؟

وبينما يحذر العلماء بأن الخطر القادم على البشر قد يكون من الفطريات، أكثر من الفيروسات، فإن السيناريو الأكثر إثارة للصدمة يظل هو الجدل المثار حول إمكانية سيطرة الفطريات على الدماغ البشري وسيطرته على جسد الإنسان وتحويله إلى زومبي، وهي فكرة تبدو خيالية تماماً، ولكنها تحدث بالفعل من قبل نوع من الفطريات مع النمل، وهو الأمر الذي تطرق إليه مسلسل أمريكي بدأ عرضه مؤخراً وأثار جدلاً كبيراً.

فلقد بدأ الشهر الماضي عرض مسلسل The Last of Us الأمريكي، وحظي بإشادة كبيرة من النقاد والمعجبين على السواء.

وهو يفترض أن لا الفيروسات أو البكتيريا هي التهديد الأكبر الذي يحيق بالعالم، وإنما الفطريات، وتحديداً فطر كورديسيبس وحيد الجانب، المعروف باسم “فطر النمل الزومبي”.

كاتب الفيلم يقول إن الفطريات تستطيع أن تتحكم في أدمغة البشر
وتقوم فكرة الفيلم أن هذا الفطر قد تطور بفعل التغير المناخي وأصبح قادراً على التكيف مع الحياة في درجات الحرارة المرتفعة، وبالتالي وجد في البشر مضيفاً بديلاً، حسبما ورد في تقرير.

ويتوقع فيلم The Last of Us حدوث جائحة عالمية ناجمة عن عدوى جماعية من هذا الفطر، الذي يخترق أجساد البشر ويحولهم إلى مخلوقات تشبه الزومبي وينهار المجتمع.

ودافع كاتب ومنتج المسلسل كريغ مازن عن الفرضية التي يقوم عليها المسلسل بقوله إن كل ما يقترح في الفيلم أن الفطريات ستفعل، ما تفعله بالفعل، وستظل تفعله إلى أبد الآبدين، بما يشمل السيطرة على أدمغة النمل وإجباره على نشر جراثيم قاتلة، وبعض الفطريات الأخرى لها تأثيرات على العقل البشري (مثل الفطر السحري الذي قد يجعل الإنسان يهلوس والمادة الفعالة به تناولها غير قانوني).

“النمل الزومبي”.. قصة الفطر الذي يتحكم بالنمل ويأكله من الداخل
ديفيد هيوز أستاذ علم الحشرات في جامعة ولاية بنسلفانيا الأمريكية درس “فطر النمل الزومبي” الذي يعرف باسم Ophiocordyceps – أو الأوفيو Ophio على سبيل الاختصار – ويعيش في الغابات المطيرة.

يتشبث هذا الفطر بالهيكل الخارجي للنمل ثم يأكل بشرة النملة، ثم يحدث ثقوباً في عضلات النمل، ثم يخترق الأعصاب في عضلاته، ليقطع الاتصال مع الدماغ. حيث يعطل الجهاز العصبي بالأساس. ولكن لا يشل النمل تماماً، بل إنه يفرض سيطرة دقيقة على قدراته.

بنية النمل تمتلك جهازاً دورياً مفتوحاً، ومن ثم لا يكون من الصعب، إذاً، أن ينتعش الفطر ويتكاثر، ويستهلك المزيد والمزيد من العناصر الغذائية للنمل.

وينتعش الفطر ويتكاثر داخل جسد النمل، ويستهلك المزيد والمزيد من العناصر الغذائية للنمل، ثم ينمو الفطر كشبكة منتشرة في جميع أنحاء جسم النملة، وتتكون مستعمرة فطرية لتصل في النهاية إلى الدماغ، ولكنها عند هذا الحد تتوقف. فهو لا يغزو دماغ النمل، بدلاً من ذلك، فإنه ينمو حول الغمد المحيط بالدماغ، بحيث يؤثر بطريقة ما على عقل النملة وعندها تكتمل ظاهرة “النمل الزومبي”.

ويرتبط فطر الأوفيو ارتباطاً وثيقاً بفطر يسمى ergot، والذي قام عالم سويسري ألبرت هوفمان بتصنيعه في عام 1938 في شكل عقار الهلوسة ثنائي إيثيلاميد حمض الليسرجيك، والذي يعرف اختصاراً باسم LSD.

وبعد التحكم الكامل في جسد النملة، فإن الفطر يحرص على الحفاظ على سلوكها الطبيعي لأطول فترة ممكنة، حتى لا ينتبه باقي أفراد مجتمع النمل ويقوم بدفن النملة المصابة، وبالتالي يتمكن الفطر من الاستفادة من جسد النملة ثم الانتقال لخارجها في الوقت المناسب.

أسباب أخرى تدفع العلماء للقلق من الفطريات أولها تزايد مناعتها وغياب لقاحات لها
صحيح أن مسلسل The Last of Us يظل خيالاً علمياً، لكن الأسباب التي تدفعنا للقلق من الفطريات كثيرة. إذ تقتل الأمراض التي تسببها الفطريات حوالي 2 مليون شخص كل عام- أكثر من مرض السل أو الملاريا- والعدد يرتفع كل يوم.

وتعززت مقاومة الفطريات أيضاً للعلاجات القليلة المتاحة، والبدائل التي يعمل عليها العلماء شحيحة. والعالم لم يكن مستعداً لجائحة فيروسية حين حل كوفيد، لكن العلماء على الأقل كانوا يطورون لقاحات لفيروس كورونا. ولكن لا توجد لقاحات بشرية ضد الفطريات.

في أكتوبر/تشرين الأول، نشرت منظمة الصحة العالمية قائمة بأنواع الفطريات الـ19 الأخطر على البشر في أول إجراء عالمي من نوعه. وقال التقرير: “رغم أن الإصابات الفطرية تشكل تهديداً متنامياً على صحة الإنسان، فهي لا تحظى إلا باهتمام وموارد محدودين. كل هذا يجعل من المستحيل تقدير العبء الدقيق لإصابات الفطريات، وبالتالي يصعب اتخاذ تدابير وسياسات منظمة”.

إنها أكثر أشكال الحياة وفرة على الأرض وتسبب مليار إصابة للبشر سنوياً
والفطريات أكثر أشكال الحياة وفرة على هذا الكوكب، حيث ينتشر ما يقدر بنحو 12 مليون نوع منها على مستوى العالم. ومعظمها لم يدخل ضمن تصنيفات معينة. وجزء بسيط فقط من هذه الأنواع يصيب البشر، لكنها تسبب ما يقرب من مليار إصابة كل عام.

يقول مارك رامسدال، الأستاذ المساعد في علم الفطريات في مركز MRC لعلم الفطريات في إكستر: “معظم هذه الإصابات سطحية مثل فطر القدم الرياضية، الذي لا يعيره أحد انتباهاً، ولكن بعض الفطريات تسبب إصابات قاتلة، وخاصة في الفئات العرضة للإصابة بها أكثر من غيرها مثل المسنين والأطفال الصغار، ومن لديهم أجهزة مناعة ضعيفة”.

1.5 مليون سنوياً يموتون بسبب الفطريات
يقول رامسدال إن حوالي 1.5 مليون شخص يموتون سنوياً نتيجة لأمراض الفطريات، وإن كان هذا الرقم أقل من الواقع، لأن الفطريات تصيب من يعانون مشكلات صحية خطيرة على الأغلب. ويقول: “ربما يكون السبب الرئيسي للوفاة هو اللوكيميا أو زرع القلب، أو أي شيء آخر. لكن ما يقتل المريض فعلياً هو الإصابة بالفطريات”.

وتتصدر قائمة منظمة الصحة العالمية ثلاثة أشكال من الفطريات المسببة للأمراض، بالإضافة إلى الرشاشية الدخناء، وهو فطر منتشر يوجد في التربة والنباتات المتحللة ويسبب داء الرشاشيات للناس الذين يعانون ضعفاً في أجهزتهم المناعية، مثل المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية، وأمراض الرئة المزمنة، أو من يخضعون لعمليات زرع الأعضاء.

وبعض الفطريات المدرجة في قائمة منظمة الصحة العالمية قد تؤثر على الأشخاص الأصحاء أيضاً. وإحداها فطر الكروانيديا Coccidioides الذي يعيش في التربة ويوجد في جنوب غرب الولايات المتحدة والمكسيك وأجزاء من أمريكا الجنوبية ويسبب مرضاً شبيهاً بالإنفلونزا يسمى حمى الوادي للأشخاص الذين يستنشقونه. ويصاب حوالي 10% من الأفراد المصابين به بمشكلات خطيرة أو طويلة الأمد في الرئة، وتمتد الإصابة في حوالي 1% من الحالات إلى أجزاء أخرى في الجسم، مثل الدماغ، وقد تكون قاتلة في هذه الحالة. ويصاب ما يقرب من 150 ألف شخص في الولايات المتحدة كل عام بهذا المرض، ويموت حوالي 75 منهم.

ونطاق بعض هذه الإصابات آخذ في الازدياد أيضاً. إذ رُصدت حالات إصابة بحمى الوادي مؤخراً في أقصى الشمال الغربي الأمريكي في ولاية واشنطن. وزاد عدد الإصابات المسجلة بنسبة 400% بين عامي 1998 و2015، ربما بسبب تغير المناخ.

وزادت بعض حالات الأمراض الفطرية الأخرى نتيجة كوفيد، مثل داء الرشاشيات وداء الغشاء المخاطي، أو “متلازمة الفطريات السوداء”، وهي حالة نادرة وخطيرة تسبب موت الأنسجة المصابة وتحولها إلى اللون الأسود. ولأن هذه الأمراض أكثر شيوعاً بين الأشخاص الذين يعانون ضعفاً في المناعة أو الرئتين، يرى الأطباء أنها تفيد من الضرر الجسدي الذي يسببه كوفيد.

وأعراض التهاب الغشاء المخاطي شديدة. والإصابة غالباً ما تبدأ في الجيوب الأنفية، وقد تنتشر إلى الأنسجة والأعضاء المجاورة، مثل العينين والدماغ، وهذا يؤدي إلى اسوداد الجلد، وتورم الوجه، وتشوش الرؤية، وتغير مستوى الوعي أو الغيبوبة. وبعض المرضى به فقدوا بصرهم في كلتا العينين، أو اضطروا إلى إجراء عملية جراحية لإزالة العظام والأنسجة الميتة أو المصابة.

وبالفعل هناك فطر مجهول ظهر فجأة ويؤدي لقتل نحو نصف المصابين
ورغم فظاعة هذه الأمراض الفطرية، فمن نعم الله علينا أن معظمها لا ينتقل من شخص لآخر. وإنما من البيئة، وهذا عادة يحد من انتشارها. فالفطر المسبب لداء الغشاء المخاطي، مثلاً، ينتشر في الهند أكثر من بقية العالم بـ70 إلى 80 مرة.

لكن هذه القاعدة لها استثناءات. وأحد هذه الاستثناءات فطر داء البقع البيضاء، وهو قريب قاتل للفطر الذي يسبب مرض القلاع. وهو مدرج في قائمة منظمة الصحة العالمية لأخطر الفطريات لأنه يتفوق بسرعة على أفضل العلاجات المضادة للفطريات.

ومثل العديد من أنواع الفطر الأخرى، غالباً ما يفترس فطر البقع البيضاء المصابين بخلل في جهاز المناعة؛ ولو دخل دماءهم، أو غزا أعضاء وأنسجة أخرى، فإن فرص بقائهم على قيد الحياة تتراجع لتصل إلى ما يقرب من الـ50%.

وعلى غرار فطر مسلسل The Last of Us، ظهر لنا فطر البقع البيضاء فجأة. فهو لم يكن معروفاً للعلماء حتى عُثر عليه في قناة أذن سيدة يابانية تبلغ من العمر 70 عاماً في طوكيو عام 2009. وفي غضون عامين، سُجلت إصابات به في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط.

إنه كابوس للمستشفيات، وقد يكون سببه التغير المناخي
يقول البروفيسور ماثيو فيشر من مركز MRC لتحليل الأمراض المعدية العالمية في إمبريال كوليدج لندن: “هو الآن موجود على مستوى العالم، وهو كابوس رهيب على المستشفيات لأنه يقاوم الكثير من العقاقير المضادة للفطريات”. وهو مقاوم جزئياً أيضاً للمطهرات والحرارة، وهذا يجعل القضاء عليه غاية في الصعوبة. والعثور عليه قد يؤدي إلى الإغلاق المؤقت لأجنحة كاملة في المستشفيات.

والمصدر الذي أتت منه فطريات البقع البيضاء غير معلوم. يقول فيشر: “نخمن أنه جزء من التنوع البيولوجي في الفطريات، وبعض الأنواع حالفها الحظ”. وربما ساهمت عوامل معينة في انتشاره. فلعل تغير المناخ شجع على تحول هذا الكائن الحي من مضيف مجهول إلينا، ومن الجائز أيضاً، كما حدث في مسلسل The Last of Us، أن درجات الحرارة المرتفعة وفرت الظروف المناسبة لبعض أنواع الفطر لتنمو في درجة حرارة جسم الإنسان.

والاحتمال الآخر أن الإفراط في استخدام العقاقير المضادة للفطريات في الطب أو الزراعة أدى إلى كبت نمو الكائنات الحية المنافسة، وفتح الباب لازدهار السلالات المقاومة للأدوية من فطر البقع البيضاء، والفطريات الضارة الأخرى. وما يزيد المشكلة تعقيداً وجود أربع فئات فقط من الأدوية المضادة للفطريات ومحدودية الموجودة طور الإعداد.

وتطوير عقاقير جديدة ليس بالأمر السهل. يقول رامسدال: “الفطريات في الواقع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحيوانات، وأي عقاقير تتداخل مع نمو الفطريات وتطورها غالباً ما ستكون سامة لنا”.

المشكلة أن نصيب الفطريات يبلغ 1.5% من تمويل أبحاث الأمراض المعدية
ورغم كل هذه المخاوف، لا يتجاوز نصيب الفطريات 1.5% من تمويل أبحاث الأمراض المعدية. ويدعو تقرير منظمة الصحة العالمية إلى زيادة المراقبة وتطوير مضادات الفطريات، وتحسين أدوات التشخيص، لضمان معالجة المرضى على الفور بالأدوية الصحيحة. والتوعية من الأمور البالغة الأهمية، يقول رامسديل: “يتلقى العديد من الأطباء محاضرة واحدة أو محاضرتين فقط عن مسببات الأمراض الفطرية طوال مدة دراستهم في كلية الطب”.

ويقول الدكتور حاتم ساتي، من قسم مقاومة مضادات الميكروبات بمنظمة الصحة العالمية، الذي ساهم في كتابة التقرير: “هذه دعوة لزيادة الوعي، وإجراء الأبحاث لا لتطوير منتجات جديدة فقط، وإنما أيضاً الأسس العلمية لفهم ديناميكيات أمراض الفطريات، ومدى انتشارها وبيئتها، وتوزيعها العالمي”.

كما أنها يمكن أن تسبب أزمة غذائية
لكن التهديد الذي تشكله الفطريات لا يقتصر بالضرورة على الأنواع التي اكتسبت القدرة على إصابتنا. فمن المعروف أن حوالي 6000 نوع من الفطريات تسبب أمراضاً للنباتات التجارية، وكل عام يضيع 40% من محاصيل الأرز في العالم بسبب مرض فطري يسمى مرض انفجار الأرز. يقول رامسدال: “هذه مشكلة كبيرة تمس الأمن الغذائي”.

ولا يتطرق تقرير منظمة الصحة العالمية أيضاً إلى تهديدات الفطريات غير المعروفة، أي تلك التي لم تقفز إلى البشر بعد.

فمنذ تسعينيات القرن الماضي، يراقب علماء البيولوجيا في هلع استسلام أنواع كثيرة من البرمائيات لمرض تسببه فطريات الأصيصينية ونتج عنه تراجع أعداد ما لا يقل عن 500 نوع من البرمائيات، وانقراض 90 نوعاً. وعلى غرار السيناريو المتخيل في The Last of Us، لا يوجد تدبير فعال معروف للسيطرة على هذا المرض.

ومراقبة التهديدات الناشئة ليست بالمهمة السهلة في ظل وجود أنواع كثيرة من الفطريات. يقول رامسدال: “لا يوجد عدد كافٍ من علماء الفطريات في العالم لتتبع كل هذه الأنواع”. ونقطة الانطلاق المناسبة هي تدريب المزيد منهم. ولكن بقدر ما تشكل الفطريات خطراً علينا، فهي تمنحنا فرصاً أيضاً. إذ إن أول مضاد حيوي في العالم، البنسلين، اُكتشف في أحد الفطريات. ومن يدري ما الحيل الكيميائية الأخرى التي يمكن اكتشافها في هذه الفطريات؟ يقول فيشر: “الفطريات، مثل البكتيريا أو الفيروسات، قديمة، وموجودة في كل مكان ومن الخطأ، كل الخطأ، أن نستهين بها”.

المصدر: عربي بوست
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع