الزلازل وسياسات الحروب: ثنائية “الأنسنة” والقتل
لا قلق من قول مجموعة العلماء التي تدير "ساعة القيامة" إن توقيتها يقترب من نصف الليل الذي يؤدي بعد 90 ثانية إلى "نهاية العالم"
السياسية :
لولا تحدي الإنسان للطبيعة وتطويعها لما بدأت #الحضارة_البشرية، ولولا كوارث الطبيعة لبقي التعاطف الإنساني مع الضحايا قليلاً، لكن قسوة الإنسان أفظع من قسوة الطبيعة التي تبقى أقوى. الأولى دائمة، والثانية موسمية، ففي اللحظات الأولى من الزلزال الرهيب الذي ضرب تركيا وسوريا أدرك الإنسان أنه أعجز من ريشة في مهب عاصفة، لا شيء يستطيع أن يفعله ولو كان يملك كل أسلحة العالم وأمواله وجيوشه، ولا أي تطور في العلم والتكنولوجيا والمراصد يمكن أن يحدد سلفاً متى تحدث الزلازل وتثور #البراكين.
وبطبائع الأمور، يقوى لديه واجب التضامن مع البلدين المنكوبين والاستعداد للمساعدة في إنقاذ الناجين من تحت الأنقاض وتقديم العلاج للجرحى والمأوى للمشردين. بعد ساعات يعود الإنسان إلى طبيعته، لا أحد يوقف الحرب التي يخوضها، كما في أوكرانيا، ولا أولوية لدى كيم جونغ أون سوى أمر جيشه بالاستعداد للحرب. الحاكم الذي يرسل المساعدات لضحايا الزلزال يقتل أكثر منهم بالسلاح على أرض المعارك. السلطات التركية تميز في تقديم المعونة بين الأتراك واللاجئين السوريين إلى تركيا. الدول التي تقاطع النظام السوري تمتنع، مع استثناءات مهمة، عن تقديم المساعدات لسوريا. حزب “العدالة والتنمية” الحاكم يجد في التضامن الدولي الواسع مع تركيا فرصة لتوظيف الكارثة في تحسين الوضع الانتخابي للرئيس رجب طيب أردوغان في الربيع. والجيوش الخمسة التي تتقاسم سوريا تكتفي بتقديم القليل إلى النظام الذي منعت سقوطه، من دون أن تعمل جدياً للوصول إلى تسوية سياسية تعيد سوريا إلى ما كانت عليه، وتسهم في إعادة نصف الشعب النازح وإخراج النصف المقيم من تحت خط الفقر.
ولا تأثير لتحذير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أن العالم يتجه نحو “حرب أوسع”، ولا قلق بالفعل من قول مجموعة العلماء التي تدير “ساعة القيامة” في واشنطن إن توقيت الساعة يقترب من نصف الليل الذي يؤدي بعد 90 ثانية إلى “نهاية العالم”. فالأقوياء يتصورون أن الدنيا خادمة لديهم، و”نقص الكون هو عين كماله، كما أن اعوجاج القوس هو عين صلاحيته، ولو أنه استقام لما رمى”، كما قال الإمام الغزالي. ومقياس الحكم على البلدان ليس فقط التقدم ونوعية العلم والنمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروة بل أيضاً القدرة على “إدارة الأخطار” بعد التحسب والاستعداد لها وتأمين الكفاية في إدارتها، فلا جدوى لأهم المعدات من دون الكفاية في استخدامها. والكوارث، كما يقول المؤرخ نيال فيرغسون “ليست كوارث بمجرد وقوعها، بل بعد التأثيرات التي تنشأ عنها وكيفية إدارتها عندما تضرب المجتمعات وتزعزع أنظمة استقرارها”.
عداد ضحايا المنكوبين والجرحى في تركيا وسوريا مستمر في الارتفاع، كذلك الاندفاع في الحروب والاحتلال واستخدام القوة لفرض الإرادة على المعترضين في الداخل، كما في إيران، والهيمنة على بلدان ضعيفة. فما توقعه الزلازل والبراكين من ضحايا أقل مما توقعه الحروب، من عشرات الملايين في الحربين العالميتين الأولى والثانية إلى الملايين في حروب الإبادة العنصرية والقبلية كما في رواندا. وما يتخوف منه الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك هو “همجية بوجه إنساني”. أليس الإنفاق العسكري الدولي في عام واحد، وقد تجاوز تريليوني دولار، يكفي للقضاء على الفقر والأمية وشفاء المرضى في العالم وإنشاء أرقى المستشفيات والجامعات؟ وماذا عن “الفكر التكفيري” المتشدد الذي يسهم في تجنيد الشباب لتنفيذ عمليات إرهابية في المدن وتفجير النفس بحزام ناسف لقتل المصلين داخل جامع أو كنيسة؟ وأي إله كلف الإرهابيين بالقتل كوسيلة للخلاص والنقاء؟
قدر الطبيعة الزلزالي والبركاني لا يرد، لكن المظالم والحروب والتعصب والفقر والقمع يمكن وقفها، ولها علاجات وحلول حين يقود الفكر الإنساني الحضارة. وما نحتاج إليه، كما كتب محمد أركون، هو “الفلسفة الإنسانية، الأنسنة التي يعود جذرها إلى أبي حيان التوحيدي وابن مسكويه في القرن الرابع الهجري”.
رفيق خوري
المصدر : موقع الاندبندنت
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع