أوروبا الحمقاء: قرار الانتحار الجماعي أميركي
السياسية :
رغم السعي الخطير والتحضير الحثيث من جانب الولايات المتحدة لفتح أماكن توتر وصدام جديدين على المستوى العالمي، تبقى مسألة عدم انهيار الاتحاد الأوروبي ككتلة منفذة للسياسة العدوانية الأميركية على رأس الأولويات، لإطالة الهيمنة الأمريكية الآفلة لأطول فترة ممكنة، مع توزيع الاغراءات على دول أخرى مثل فنلندا والسويد وغيرهما للانضمام إلى حلف “الناتو” الشرير ولإشعار الدول المأمول انضمامها أنها في حصن منيع ولو بقوة الشر، مستندة الى قاعدة أن تعزيز التعاون مع “الناتو” أو الانخراط في بوتقته يمكن أن يحقق ثلاثة أهداف في وقت واحد: تعزيز التحالف مع الولايات المتحدة، وتوسيع مشاركة الدول الأوروبية في آسيا، ورفع قوتها العسكرية لتعزيز “الردع الشامل” تحت رعاية الولايات المتحدة.
والاغراء الأخير يشمل كوريا الجنوبية واليابان، والأهم تايوان. مع الاشارة اللافتة الى أن زيارة الأمين العام لحلف الاطلسي ينس ستولتنبرغ الى بيونغ يانغ وُصفت بأنها مقدمة لحرب باردة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
لم تصمد المعاندة لدى بعض دول الاتحاد الأوروبي برفض تزويد أوكرانيا بصيغة منفردة بدبابات متطورة لوقت طويل، رغم الاعلان من فرنسا والمانيا في بادئ الأمر أن تزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية يعني انخراط “الناتو” مباشرة في الحرب على روسيا، وهي لا تريد ذلك لا سيّما أن الشعوب الأوروبية بغالبيتها علا صوتها وتحرّك شارعها رفضًا لاملاءات أميركا على الأوروبيين وتوريطهم في حرب لا يحتاجونها، في الوقت الذي تواجه فيه هذه الدول أزمات اقتصادية مستفحلة. هذه الأزمات زادها حدة انخفاض استيراد الكثير من المواد الأولية الضرورية للصناعات بسبب العقوبات التي ألزمت واشنطن دول الاتحاد الاوروبي مشاركتها فيها رغمًا عن أنف بعض الدول غير المكابرة في النظر إلى مصلحة شعوبها.
أكثر تجليات الانقسام في أوروبا هو ما عبّر عنه الرئيس الكرواتي زوران ميلانوفيتش باعلان رسمي على الملأ أن “دعاة السلام والمقاتلين من أجل السلام بالأمس في الغرب، يريدون اليوم شرب دماء الآخرين، دون المخاطرة بأنفسهم، وما نقوم به كغرب جماعي هو أمر غير أخلاقي للغاية… إن ما نفعله غير حكيم سياسيًا ويضر بالغرب”، مشيرًا إلى أن التطور الحالي للصراع المسلّح يؤدي إلى تكتيكات الأرض المحروقة، وذلك على خلفية طرح الغربيين تزويد أوكرانيا ــ الدولة الأكثر فسادًا كما أظهرت الاستقالات والاقالات بين كبار المسؤولين ــ بدبابات متطورة مثل ليبوبارد الالمانية أو لوكلير الفرنسية، كما أن السلطتين الأمريكية والبريطانية لم تبلغا شعبيهما بنيتهما إمداد أوكرانيا بالأسلحة، لا بل كانتا تنفيان ذلك بشدة ولا سيما الرئيس الاميركي جو بايدن الذي تراجع وأعلن عن نيته تزويد القيادة الفاشية في أوكرانيا بفوج من دبابات “ابرامز ام1″، ليخضع الاوروبيون المترددون لارادة واشنطن، ولا سيما المانيا التي كان مستشارها اولاف شولتس قد أكد سابقًا أن بلاده لا تقبل الا بدعم جماعي لأوكرانيا.
يحاول بعض صناع الرأي في الصحافة الغربية ــ مع تجنب شيطنتهم أو اتهامهم بالعمالة الى روسيا ــ أن ينصحوا السلطات “الحمقاء” في أوروبا بالعدول عن المسار الذي رسمته لهم واشنطن لأنه مدمر وسيؤدي الى تمزيق أوروبا وهي ستدفع الثمن الأغلى في حال نشوب حرب يمكن ان تكون نووية فعلًا، وأن ما أقدمت عليه واشنطن ليس إلا ضمن عملية التوريط الجماعي في حرب واضحة كشفتها زلة لسان وزيرة الخارجية الالمانية في اجتماع الاتحاد الأوروبي بأن دول “الناتو” دخلت رسميًا الحرب مع روسيا وأنه “لا يجب ان نستعرض القاء اللوم على بعضنا البعض لأننا في حالة حرب مع روسيا ولسنا في حالة حرب مع بعضنا البعض”.
وهذا يؤشر الى حجم التنافض بين الدول الأوروبية. وفي هذا الاطار، تحدثت صحيفة “بلومبيرغ” عن احتمال اندلاع خلافات كبيرة بين دول حلف “الناتو” بسبب عدم تحلي المسؤولين الغربيين بالمسؤولية، معتبرة أن الالتزامات “الدراماتيكية” التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا على نفسها تجاه أوكرانيا، شكلت “حقبة غادرة” في السياسة العالمية الجديدة، ومشيرة إلى ضرورة إدراك الغرب لخطورة الموقف، والكف عن خداع الذات. وأكدت أن “العقوبات الغربية ضد روسيا، لم تدفع موسكو إلى تغيير نهج عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، كما أنها لم تظهر استياء الشعب الروسي من رئيسهم، فلاديمير بوتين”.
من حيث المبدأ والوقائع، فان الولايات المتحدة هي المستفيد الأول لا بل الوحيد من الحرب في أوكرانيا، وقد حقق المجمع العسكري الأميركي أعلى نسبة أرباح منذ العام 1945 وحوّل أوكرانيا إلى الدولة الأكثر مديونية ومستقبل غامض دونه التقسيم. وفي السياق قالت وكالة “بلومبرغ” إن الدول الغربية وصلت إلى نقطة التهور واتخذت خطوة طائشة جديدة، في سعيها لهزيمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والانتصار عليه. وتشير إلى ذلك الالتزامات الجديدة التي تعهدت بها الولايات المتحدة وحلفاؤها في “الناتو” بإرسال الدبابات القتالية إلى أوكرانيا.
وأضافت “بلومبرغ”: “تأخذ مثل هذه الرغبة في هزيمة روسيا منعطفا خطيرا ومتهورا، خاصة إذا تذكرنا الفشل الذريع الذي يصم الآذان الذي أنتهت إليه ألعاب الغرب الجيوسياسية في آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا”. ودعت المقالة إلى إعادة النظر في سياسة الغرب تجاه الأزمة الأوكرانية والاعتراف بخطر التصعيد المحتمل إذا انجرفت قوات حلف الناتو إلى النزاع المباشر.
الأمر نفسه حذر منه الرئيس الكرواتي منبهًا إلى خطورة الانجرار إلى حرب نووية، وقال: “إننا نشهد أحدهم يستفز روسيا بنية التسبب في هذه الحرب، وبعد أن بدأت، فما الخطة؟ لقد مر عام، ونحن نتحدث الآن فقط عن الدبابات. لماذا لم تذهب الدبابات الألمانية والأمريكية هناك منذ اليوم الأول؟ سنرسل جميع الدبابات الألمانية إلى هناك، على الرغم من حقيقة أن أكثر من ألف من تلك التي بقيت من الاتحاد السوفيتي قد تم تدميرها بالفعل، وهو المصير الذي ينتظر هذه الدبابات أيضا”.
وتساءل الرئيس: “ما هو الغرض من هذه الحرب؟ هزيمة قوة نووية عظمى تقاتل على حدودها في بلد آخر غزته؟ هل يمكنك هزيمة مثل هذه الدولة بالوسائل التقليدية؟ ما هو الجواب؟ هل يمكن تقسيمها إلى أجزاء؟ وبعد ذلك، تطلق في حالة يأس 6 آلاف رأس نووي، ويبكي الجميع؟”.
تبدو الدول الأوروبية وكأنها ذاهبة الى انتحار جماعي باطلاق النار على نفسها بعد “انتحار اقتصادي وسياسي خارجي واجتماعي”، حيث التضخم في أعلى مستوياته على الإطلاق، ما لم يستيقظ الحمقى ويوقفون تهورهم بالتصعيد العسكري مقابل دولة نووية.
يونس عودة
المصدر : موقع العهد الاخباري
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع