أحمد فؤاد

حانت لحظة الحقيقة في الشرق الأوسط، اليوم وليس غدًا، سقطت أوهام المثقفين/ المدجنين دعاة الاستسلام والتراجع، وذهب سراب التعايش والتأقلم مع ظروف جحيم الحصار الأميركي المفروض إلى صحاري التيه والضياع، وهلت مع رياح الشتاء الباردة لفحة نارية تستبق الإعصار القادم، دقت الطبول وصفت الحشود، ولم يعد باقيًا على ساعة المواجهة سوى عداد الوقت التنازلي المتسارع.

بدأت الولايات المتحدة هجمتها الشاملة على المنطقة العربية، تختلف أسلحتها المرفوعة علينا، لكن في النهاية كلها موجهة للقلب، وجميعها تستهدف المقاومة العربية الإسلامية، لقطع آخر طريق أمام آمال الفعل العربي في وجه هيمنتها، وفي سبيل نفي التهديدات الوجودية أمام كيانها اللقيط، وتعيد تشكيل وصياغة المنطقة من حكام ساقطين لدول فاشلة، يسهل استتباعها وتفويض قيادتها لـ”تل أبيب”، في مرحلة تالية.

خلال الأيام التي تلت استلام الحكومة الإجرامية الجديدة في كيان العدو، كان الهدف الأول هو كسر المقاومة الفلسطينية نفسيًا، عبر تنظيم عمليات “ضخمة” لاقتحام المسجد الأقصى المبارك، وبذل الدول العربية ــ مصر الرسمية خصوصًا ــ أشد الضغوط على حماس والفصائل في غزة لعدم الرد على العدوان السافر، ثم جاءت الضربة الكبرى بالمجزرة المروعة في مخيم جنين الصامد، وهي لم تكن بالضبط عملية أمنية أو مجرد اقتحام يتكرر، بل كان استنساخًا من مجازر حرب 1948، عمليات قتل بغرض القتل، وفقط.

سمّه عدوانًا جنونيًا أو رغبة محمومة من نتنياهو في تثبيت قاعدة اشتباك جديدة، تغطي عورة عجز كيانه وخوائه الشديد، لكنها كانت التعبير الأوفى عن عقلية الصهيوني، هم يفهمون أن صراعنا معهم هو صراع من أجل البقاء، ويخططون ويتصرفون وينفذون بناء على هذا الفهم، لتصفية كل بؤرة رعب لهم داخل الأراضي الفلسطينية أولًا، ومن بعدها يتحركون لخطوة أكبر وأضخم، نحو رعبهم الحقيقي والدائم المستمر، حزب الله.

ساعة المواجهة.. وبيت العنكبوت أوهن

اليوم مع تصاعد الضغوط الاقتصادية على لبنان، دخلت فلسطين إلى الخط الساخن للعمل المباشر، بمحاولة جديدة من الصهاينة لمحو بؤر المقاومة فيها، واحدة بعد أخرى، وبخطوات ثقيلة تستهدف السحق وإقناع الفلسطيني العادي أن المقاومة هي خيار انتحار جماعي له ولأهله ولناسه، وأن الأسلم هو الاستسلام أمام الجبروت الصهيوني القادر.

وكما أبدع الشعب الفلسطيني في تقديم أغلى ما عنده كقرابين للفداء، وسلم زهرة شبابه على مذبح التضحيات الوطنية الكبار، راضيًا محتسبًا، يدفع عن الأمة كلها ضريبة الدم والجهاد، مستلهمًا قوة النموذج الإيماني الذي قدمه حزب الله، واستطاع به أن يذهب وساوس الشيطان عن الكيان المختل، وأن يثبت مرة بعد مرة قدرة اليد العربية على الصمود، وعلى انتزاع حقها المسلوب، وأن يكتب الذل على راية الصهاينة في كل مواجهة وعند كل انحناءة على الطريق.

لكن الشعب الفلسطيني اليوم ــ الجمعة 28 كانون الثاني/ يناير 2023 ــ قد اختار تقديم معنى جديد وكلي للأسطورة، ممثلًا في نموذج خيري علقم، اسمًا على مسمى، خيرًا لدينه وأرضه ووطنه، علقمًا مرًا في حلوق أعدائه، وتمكن البطل من تكبيد الصهاينة 10 قتلى، بحسب آخر الإحصاءات، في أكبر نزيف تشهده دولة الاحتلال منذ سنوات طويلة، وبما يعادل تقريبًا شهداء اليوم السابق في مخيم البطولة “جنين”.

ولمن تستهويه الأرقام، فإن بطلًا واحدًا من أرض فلسطين، استطاع التخطيط والتنفيذ، وحاز مسدسًا فقط، قد تمكن من معادلة قتلى الصهاينة طوال 3 أعوام كاملة، 2019 و2020 و2021، وطبقًا للبيانات الصهيونية فإن قتلاهم لم يرتفعوا عن 5 و3 و4 على الترتيب، بينما شهد العام الماضي تطورًا عظيمًا بسقوط 31 قتيلًا في عمليات مشابهة، امتدت بطول أرض فلسطين وعرضها، من “تل أبيب” إلى بئر السبع والخضيرة والقدس.

باختصار، فإن النضال الفلسطيني الدائم المستمر والدؤوب، قد نجح في تحويل قطعان المستوطنين وأفراد جيش العدو إلى أهداف محتملة في كل مكان بفلسطين، وصار السؤال بعد أي عملية صهيونية جديدة هو متى وأين وكيف يكون الرد الفلسطيني؟ وهو عشوائي بطبعه، وما أجملها من عشوائية تربك وتزلزل الاحتلال.

ولن يكون من قبيل المبالغة، والأمر كذلك، أن نعيد ما قاله سماحة السيد حسن نصر الله من أن هذا الجيل سيشهد الصلاة في الأقصى، أمامنا طريق طويل من التضحيات والدم والعرق، إلى حين لحظة الانتصار، وهي لحظة قادمة بالتأكيد، ما دمنا قد عقدنا العزم على أن المقاومة هي الخيار التاريخي لأوطاننا.

منذ سنوات طويلة أطل علينا سماحة السيد حسن نصر الله، سيد الوعد  الصادق بوعده الأجمل، بجملته التي يستعيدها الذهن كلما رأى عظمة فعل المقاومة بنفس القدر من الفرح والعزة والثقة الخالصة الذي سمعناها به في المرة الأولى، “أوهن من بيت العنكبوت”، هذه الجملة شاهقة البنية الإيمانية قد انتقلت مع التجربة، وبقوة النموذج والدعم، من لبنان إلى فلسطين، وكأنها الدستور الجديد لعمل المقاومة الفلسطينية، التي تبهر الجميع بقدراتها وأبطالها وثباتها الراسخ في الميدان.

وحين ظهر سماحة السيد في آخر خطاباته، يطالبنا بالصبر والأمل، ويرفض الإرادة الأميركية بنشر خطاب اليأس والهزيمة، فإن فلسطين تكتب اليوم أنها أول من لبت وأول من صبرت وأول من ضحت، وأول من استجابت لعهد جديد، لا يضع تحرير فلسطين فقط كبوصلة وهدف، لكنه يسعى بكل ما أوتي إلى تدشين فاتحة عهد جديد للإرادة العربية وللإنسان العربي.

  • المصدر: موقع العهد الاخباري
  • المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع