عمرو علان*

 

لم يكن اقتحام وزير الأمن القومي للكيان الصهيوني إيتمار بن غفير باحات المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال صباح يوم الثلاثاء 3 يناير من هذا العام أمراً عابراً، أو لا يجوز أن يكون كذلك، فإضافة إلى كون بن غفير يشغل منصباً من الدرجة الأولى في حكومة الاحتلال، فإنَّه من زعامات المستوطنين الأكثر تطرفاً، بحسب اعتراف الاحتلال ذاته، وهو ممن يدعون صراحةً إلى إقامة الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى، وتهويد القدس، وضم أراضي الضفَّة وترحيل سكانها.

لذلك، يصعب وضع هذا الاقتحام في خانة الأعمال الاستعراضية والاستفزازية فحسب، بل لعل الأقرب إلى المنطق هو أن يوضع ضمن مساع جدية يبذلها المستوطنون والاحتلال من أجل تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، تمهيداً لهدمه لاحقاً، ولا سيما أن جل أعضاء حكومة الاحتلال الحالية يُعَدون من المستوطنين الأشد تطرفاً والأكثر رعونةً في المجتمع الصهيوني، على شاكلة بن غفير.

ويبدو من تصريحات قوى المقاومة الفلسطينية والإقليمية، التي صدرت إثر الاقتحام الأخير، أنها تسعى إلى التهديد بانفجار المنطقة برمتها في حال استمر الاحتلال بانتهاك حرمة المسجد الأقصى، أملاً في أن يلجم الأميركي حكومة الكيان المؤقت.

وكان أبرز ما أُعلن في هذا السياق تصريح الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، إذ حذر من أن التعرض للمسجد الأقصى “قد يفجِّر المنطقة بكاملها”، وأضاف: “نقول لكل الدول في العالم، ولرعاة هذا الكيان الغاصب، إذا كنتم لا تريدون حرباً ثانيةً في المنطقة أمام ما يجري في الحرب الروسية الأوكرانية، فعليكم أن تكبحوا جماح هؤلاء المجانين المتطرفين”.

ولعل فصائل المقاومة بنت رؤيتها هذه على أمرين:

الأمر الأول قراءة تقول بوجود مصلحة أميركية بالحفاظ على الهدوء في المنطقة في الوقت الراهن، نظراً إلى انشغالها بملفات دولية أخرى كبرى، أهمها الحرب على روسيا في أوكرانيا.

تعد هذه القراءة دقيقةً إلى حد بعيد، أقله حتى اللحظة. مثلاً، يُستشَف من تعقيب البيت الأبيض على الأحداث عدم حماسة الأميركي لرؤية تصعيد جديد في المنطقة، فقد قال البيت الأبيض: “أي إجراء أحاديِّ الجانب يقوض الوضع القائم في الأماكن المقدسة في القدس غير مقبول”.

ويظهر ذلك أيضاً في تصريح وزارة الخارجية الأميركية التي عبَّرت عن قلقها من التداعيات المحتملة لما حدث، إذ يُستبعَد أن تكون هذه المواقف الأميركية الرافضة نابعةً من الخشية على الحقوق الإسلامية والعربية في الأماكن المقدسة في فلسطين!

أما الأمر الثاني، فهو قياس فصائل المقاومة الوضع في القدس انطلاقاً من قضية ترسيم الحدود البحرية اللبنانية مع الكيان المؤقت، إذ مارس الأميركي في تلك القضية ضغوطاً على الأخير ليقبل بمطالب الدولة اللبنانية، تفادياً لاشتعال جبهة جنوب لبنان، للأسباب عينها التي تدفعه اليوم إلى محاولة الحفاظ على الهدوء في المنطقة.

لكنَّ التهديد بانفجار الجبهات في قضية ترسيم الحدود البحرية كان مصحوباً بإشارات ميدانية تدل عليه، وهذا ما لا يبدو أنَّه متوفرٌ – حتى اللحظة – في مسألة الاعتداءات على المسجد الأقصى.

وحتى إن توفرت هذه الإشارات الميدانية، يجب ملاحظة أمور عدة، منها أن قضية القدس والهيكل المزعوم تعد أكثر مركزيةً في العقل الصهيوني من قضايا ترسيم الحدود، إضافة إلى كون المعادلات التي تحكم تعامل العدو مع الداخل الفلسطيني عموماً تختلف عن تلك التي تحكم تعامله مع ساحات أخرى.

لذلك، على الأغلب أن تستمر في الأشهر القادمة مساعي المستوطنين والاحتلال لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، لا سيما مع وجود حكومة “مجانين” تقود الكيان المؤقت، والأرجح ألَّا يكبح بنيامين نتنياهو تلك المساعي، رغم إدراكه موازين القوى الحاكمة؛ ذاك الإدراك الذي دفعه إلى التراجع عن تنفيذ وعوده بالانسحاب من اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان.

لهذا، يمكن القول إنَّ احتمالات التصعيد خلال المرحلة القادمة تعد مرتفعةً في فلسطين، وربما في المنطقة عموماً، فاستفزازات المستوطنين ستستدعي بالضرورة ردود أفعال من الفلسطينيين وفصائلهم المقاوِمة، سواء في الضفة أو ربما في غزة، ما ينذر بانزلاق الأوضاع إلى حرب جديدة، بصرف النظر عن رغبة قوى المقاومة أو الكيان المؤقت في حدوثها.

وبناء عليه، يبرز تساؤل عما إذا ما كانت قوى المقاومة قد أعدت إستراتيجية موحدة ومحددة للتعامل مع المرحلة المقبلة، يكون هدفها حماية المسجد الأقصى من خطر التقسيم الزماني والمكاني، وعمادها مفهوم “وحدة الجبهات” التي دعا إليها قائد أركان كتائب القسام، أبو خالد محمد الضيف، أو بعبارة أخرى “محور القدس” الذي كان قد نادى به أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله.

وتعد صياغة إستراتيجية كهذه أمراً ممكناً، في ظل وجود أوراق قوة عديدة لدى قوى المقاومة يمكن البناء عليها، ومنها:

– موازين القوى الحاكمة مع العدو التي باتت تسمح بتحقيق الأهداف المرسومة، أو بالحد الأدنى تشكيل ردع فاعل في وجه الاحتلال إذا ما وظِّفت تلك التوازنات بصورة حاسمة.

– توفر ذريعة قانونية قوية ضد تغيير الوضع القائم في القدس يمكن تسويقها دولياً، إذ وجدنا استنكاراً دولياً وإقليمياً واسعاً لاقتحام بن غفير الأخير المسجد الأقصى، حتى من الدول الداعمة للكيان المؤقت دولياً، وأيضاً الدول العربية التي أسرفت في التطبيع حديثاً معه، والتي لم تستطع غض البصر عن اقتحام الأقصى، ووجدت نفسها مضطرةً إلى استنكار ذاك الفعل على أقل تقدير، لما يحمله من حساسية كبيرة لدى شعوب العالم العربي والإسلامي قاطبةً.

لعلّ الوقت بات مناسباً كي تضع قوى المقاومة تصوراً محدداً لاقتحامات المسجد الأقصى يرفع مرتبة هذا العدوان من كونه عملاً أمنياً إلى كونه عملاً عسكرياً يقتضي التعامل معه آنياً على غرار الأعمال العسكرية.

في العموم، لا يدعو الأمر إلى الإفراط في التشاؤم، كما جرى مع بعض أوساط بيئة المقاومة بعد الاقتحامات الأخيرة للمسجد الأقصى، فتعاظم قدرات قوى المقاومة، وفي المقابل تراجع الكيان المؤقت على الصعيدين العملاني والداخلي، كفيلٌ بتحويل هذا التحدي الجديد لقوى المقاومة إلى فرصة، سواء مع وجود إستراتيجية محددة أو مع عدم وجودها.

كل ما في الأمر أن بناء تصور واضح للمرحلة المقبلة يقصِّر المسافات نحو تحقيق الأهداف، ويقلل الكلفة التي لا مناص من دفعها، ليس في الماديات فحسب، بل أيضاً في المعنويات التي تعد عنصراً رئيساً من رأسمال قوى المقاومة، ففي نهاية المطاف “الروح هي التي تقاتل”.

  • كاتب وباحث فلسطيني
  • المصدر: الميادين نت
  • المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع