هل انتصرت سردية موسكو في حرب الدعاية والمعلومات؟
أحمد عبد الحكيم *
بموازاة الحرب الدائرة على الخريطة الأوكرانية بين موسكو من جهة وكييف المدعومة من الغرب من الجهة المقابلة، تدور حرب أخرى قوامها المعلومات والدعاية، شكلت ولا تزال على مدار أشهر العمليات العسكرية التي بدأت في 24 فبراير (شباط) الماضي، جزءاً محورياً من مشهد الصراع المحتدم بين الطرفين.
وكأي صراع شهده العالم في تاريخه الحديث، يبقى تلاعب المسؤولين ومواليهم بالحقائق والمعلومات، جزءاً ضرورياً من أجل نشر سرديتهم وروايتهم الرسمية على نحو يتسق مع مصالحهم للتأثير على الناس وأفكارهم، ومن ثم توجهاتهم، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.
وبعد أكثر من سبعة أشهر من عمر الحرب الروسية – الأوكرانية، تتباين التقييمات في شأن تقدم أحد الأطراف على الآخر في حربه الإعلامية، لا سيما في وقت تقول فيه وحدة المعلومات الاقتصادية في لندن إنه وعلى رغم تشدد الموقف الغربي تجاه موسكو بسبب حربها، فإن “ثلثي سكان العالم لا يزال يعيش في بلدان يتخذ مسؤولوها موقفاً محايداً في شأن الحرب أو تدعم روسيا، ولا يرى الحرب التي يراها الغرب”، مما يرجح طوال الوقت أهمية مفردات “حرب الدعاية والإعلام” وتعزيز السردية الرسمية للأطراف.
هل تقدمت روسيا في حرب المعلومات؟
على مدار أشهر الحرب والأشهر التي سبقت انطلاقها، كان لافتاً، وفق ما تقول صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، اعتماد السلطات الروسية مجموعة متنوعة من الأدوات التي شملت وسائل الإعلام الرسمية والتقارير الإعلامية والخرائط وصور الأقمار الصناعية، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها أدوات رئيسة في “حرب المعلومات”، لنشر سردية متماسكة لتطورات الأحداث تخدم مصالحها.
وعلى رغم تحرك الغرب ضمن حملة العقوبات القصوى التي استهدفت موسكو للتضيق على وسائل الإعلام الروسية لما اعتبروه استمراراً لنشرها “دعاية وأكاذيب” لتضليل الحقائق. تمكنت روسيا التي خصصت وزارة المالية بها في الفترة من يناير (كانون الثاني) حتى مارس (آذار) من العام الحالي نحو 296 مليون دولار لوسائل الإعلام الحكومية، من تجاوز القيود الغربية على استمرار نشر سرديتها، سواء عبر الفضاء الإلكتروني، ومواقع التواصل الاجتماعي.
وتقول الأستاذة في مدرسة الصحافة والإعلام بجامعة تكساس في الولايات المتحدة جوزفين لوكيتو “هناك بيئة احترافية تقف وراء الإنتاج الإعلامي الروسي”، مضيفة وفق ما نقل عنها التلفزيون الألماني، أن “كثيراً من حملات التضليل الإعلامي المؤيدة لروسيا تعود إلى وكالة أبحاث الإنترنت (أي آر أي) الروسية التي تنشط منذ عام 2012. وقد اشتهرت الوكالة بمحاولاتها التأثير على حملات الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، كما أنها نشرت كثيراً من الأخبار الكاذبة عن أوكرانيا منذ عام 2014”.
وتتابع لوكيتو “تستهدف روسيا من إنتاجها الإعلامي على المدى الطويل زرع عدم الثقة في النظام الإعلامي”، مشيرة إلى أنه إلى جانب ذلك “تستغل صدقية وسائل الإعلام الإخبارية لأغراضها الخاصة، وهذه ظاهرة جديدة إلى حد ما في التضليل الإعلامي، حيث يتم من خلالها نشر أخبار يزعم أنها جادة وصحيحة تحت راية مزورة”.
ويشير مراقبون غربيون إلى أن “غالباً ما تكون جهات حكومية أو مقربة من الدولة وراء الإنتاج المعقد للمعلومات المضللة التي تنشر عن روسيا”، معتبرين أن وسائل إعلام روسيا مثل قنوات “آر تي” و”سبوتنيك”، وغيرهما “تطمس الخطوط الفاصلة بين التقارير الإخبارية والدعاية والقوة الناعمة، وقد أصبحت موضوعاً لكثير من الجدل، لا سيما في الدول التي تسعى فيها روسيا إلى تعميق نفوذها”.
وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، فإنه فيما يتعلق بالرسالة الموجهة للجمهور العالمي، ارتكبت الولايات المتحدة والدول الغربية خطأً تكتيكياً في تصوير الحرب على أنها “الغرب ضد روسيا”، أو حتى على أنها ديمقراطية مقابل أوتوقراطية، مضيفة أنه “في حين تلقى هذه الفكرة صدى وفاعلية في أوروبا وأميركا، لكنها ليست كذلك في الدول غير المنحازة”، في المقابل، كانت الرواية الروسية أكثر تماكساً في تصدير سردية “خطر وجود نازيين جدد وقوميين متطرفين، ومجموعات راديكالية في أعلى السلطة الأوكرانية، تهدد أمن روسيا ووجودها، الأمر الذي فرض على موسكو ضرورة إطلاق العملية العسكرية الخاصة للدفاع عن أمنها القومي”، هذا فضلاً عن الترويج لأن “روسيا تفضل عالماً متعدد الأقطاب كبديل عن عالم تهيمن عليه المصالح الغربية، وهو ما يتوافق في عديد من مناطق العالم التي تفضل بشدة عالماً ذا أقطاب متعددة”.
وذكرت “نيويورك تايمز” كذلك أنه نتيجة عدم القدرة على السيطرة على نشر الدعاية الروسية حدث تباين كبير على المستوى الجغرافي والثقافي في حرب المعلومات حول أوكرانيا، الأمر الذي ساعد في تقويض الجهود التي تقودها الولايات المتحدة وأوروبا لممارسة ضغط دولي واسع على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنهاء حربه.
وكان لافتاً ما كتبه جيريمي فليمنغ، رئيس مركز الاتصالات الحكومية، وهو جهاز استخبارات بريطاني، في صحيفة “الإيكونوميست” البريطانية، في منتصف أغسطس (آب) الماضي، أنه في الوقت الذي يستخدم فيه الروس والأوكران قدراتهم الإلكترونية والإعلامية خلال الحرب، فإن موسكو أحرزت تقدماً في مجال “حرب المعلومات المضللة” على رغم بعض التراجعات التي منيت بها قواتها في أرض المعركة.
وأوضح فليمنغ أنه مع استمرار المعارك، دون تسجيل تفوق حاسم لأي طرف حتى الساعة ميدانياً، وعدم تمكن بوتين بشكل كامل من حسم “حرب المعلومات” على الأراضي الأوكرانية وفي الغرب، إلا أن “المعلومات المضللة” الروسية أحدثت تأثيراً قوياً ولا تزال في أماكن عدة حول العالم، وهو ما لا ينبغي التهوين منه. وذكر فليمنغ “تستخدم روسيا الأدوات الإلكترونية الهجومية بشكل غير مسؤول وعشوائي، ونشر معلومات مضللة عبر الإنترنت جزء رئيس من استراتيجيتها”.
كييف تبحث عن دعم “معلوماتي”
في المقابل أقر وزير الثقافة وسياسة المعلومات الأوكراني أولكسندر تكاشينكو، الخميس 29 سبتمبر (أيلول)، في صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية بحاجة بلاده إلى دعم الغرب لكسب “حرب المعلومات في مواجهة روسيا”.
وعلى رغم بعض التقدم الذي أحرزته القوات الأوكرانية ميدانياً في مواجهة القوات الروسية في الأسابيع الأخيرة، مما استدعى “تعبئة جزئية” للقوات الروسية، أوضح تكاشينكو في مقاله أنه “لكي تتغلب أوكرانيا على الروس، يجب أن تنتصر على الجبهة الإعلامية”، قائلاً “لقد كان للأحداث في بلدنا، وسيظل لها تأثير على العالم بأسره، لأن جميع البلدان تشارك في حرب بدأتها روسيا في فضاء المعلومات العالمي”، مضيفاً أن الدعاية الروسية تظل سلاحاً فعالاً، بخاصة خارج أوكرانيا. وتنفق موسكو أموالاً طائلة على الدعاية تفوق كل البلدان الغربية.
ويقر الوزير بأن أوكرانيا لديها موارد محدودة لمواجهة التضليل والدعاية الروسية، على رغم أن مشروع فريدوم التلفزيوني الأوكراني قد حقق نجاحاً ملحوظاً في تقديم الحالة الحقيقية في أوكرانيا للجمهور الناطق باللغة الروسية.
وحذر تكاشينكو من أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا مستمرة منذ سبعة أشهر، وأنه مع مرور الوقت يتغير الرأي العام في الاتحاد الأوروبي إلى حد ما مع اقتراب فصل الشتاء وارتفاع أسعار الطاقة، معتبراً أن “الغرض من الهجمات الإعلامية الروسية هو إجبار أوكرانيا على قبول السلام بشروط غير مواتية عن طريق زرع عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في جميع أنحاء أوروبا”.
وبحسب تكاشينكو، فإن هناك حاجة إلى بناء “استراتيجية غربية مشتركة لمكافحة الدعاية، وتغيير الأساليب الحالية لمواجهة التضليل الروسي ودعم وسائل الإعلام الأوكرانية المستقلة”.
وعلى رغم منع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بث قنوات تلفزيونية روسية (روسيا اليوم وروسيا 24 وتي في سنتر إنترناشيونال وتلفزيون سبوتنيك وقناة آر تي آر بلانيتا)، فإن بعضها يواصل ممارسة تأثيره عبر المنصات الرقمية، وكذلك تنشط وسائل الإعلام الروسية وتعمل بشكل فعال على نحو خاص في مناطق أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا التي يتنامى فيها بشكل كبير دور وسائل التواصل الاجتماعي وباتت مصدراً رئيساً لاستقاء الأخبار.
ونقل تقرير للتلفزيون الألماني عن كبير الباحثين بمركز “سي أن أي” الأميركي للبحث والتطوير ديمتري غورنبرغ قوله إنه “على رغم أن روايات السياسة الخارجية الروسية مصممة لتحريف الواقع، فإن أحد الخيوط المشتركة التي تربط هذه الروايات معاً هو أن جميعها تحتوي على جزء من الحقيقة في جوهرها”. ووفق تحليل أجرته منظمة “آفاز” للحكم الرشيد فقد شهدت المنشورات الروسية بلغات مختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي ارتفاعاً كبيراً في الأسابيع التي أعقبت بدء الحرب، الأمر الذي عزز نشر السردية الروسية.
يذكر أنه منذ انطلاق الحرب الروسية – الأوكرانية تبادل الطرفان عديداً من الاتهامات بشن حملات إلكترونية ونشر معلومات مضللة حول الصراع.
* المصدر : موقع اندبندنت عربية
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع