السياسية:

يسعى رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، إلى وضع الهند ضمن القوى العظمى في العالم، من خلال الاستفادة من حرب روسيا في أوكرانيا دون قطع العلاقات مع الغرب، فكيف يدفع المسلمون هناك ثمناً باهظاً؟

ورصد تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية “ملامح الهند الجديدة”، من خلال إلقاء الضوء على ما حدث خلال قمة منظمة “شنغهاي” للتعاون في أوزبكستان، حين قال ناريندرا مودي للرئيس الروسي أمام الكاميرات: “الديمقراطية والدبلوماسية والحوار”، وليس الحرب، هي الحل. وأعلن الزعيمان أنهما سيستفيضان في الحديث عن كيفية إحلال السلام في أوكرانيا.

كان هذا التصرف الذي يشي بثقة صاحبه بنفسه أحدث تجليات صعود الهند تحت قيادة مودي. فقد أصبحت الهند، تلك القوة الطموحة والحازمة، دولة لا غنى عنها في البحث عن سبل للتعامل مع كثير من الأمور التي لا مناص من التعامل معها في العالم، سواء كانت مساعي التفاوض الدبلوماسية في النزاعات أم قضايا التغير المناخي أو مسائل التقدم التكنولوجي، أو الجهود المبذولة لتنويع سلاسل التوريد في سياق مواجهة الصين.

الديمقراطية الأكبر في العالم.. ولكن!
يستند مودي في مواقفه وفي علاقته ببقية الدول إلى كون الهند أكبر ديمقراطية في العالم، إلا أن دبلوماسيين وخبراء وناشطين يقولون إن حكومة مودي منكبَّة على مشروع لإعادة صياغة الديمقراطية في الهند على هيئة تخالف جميع نماذجها التي سادت البلاد على مدار 75 عاماً من استقلالها، فهي ديمقراطية تتضمن قمع المعارضة، وإضعاف المؤسسات المدنية، وتحويل الأقليات إلى مواطنين من الدرجة الثانية.

وإذا كان زعماء الهند السابقون استغلوا التناحر الديني واستخدموا مؤسسات الدولة سلاحاً في وجه معارضيهم وأداة للبقاء في السلطة، فإن مشروع مودي أشد إحكاماً من ذلك: فهو يعمل على تجميع منهجي لأدوات السلطة بين يديه، ولا يستخدم لذلك وسائل الاستيلاء التقليدية على السلطة، وإنما يعمد إلى وسائل أحكم وأدوم يبتغي بها وسم البلاد بطابع الأيديولوجية الهندوسية وفرضِه على الديمقراطية العلمانية المنصوص عليها في دستور الهند.

في سبيل تلك الغاية، أخضع مودي لإرادته المحاكم ووسائل الإعلام والسلطة التشريعية ومنظمات المجتمع المدني، أي مؤسسات “التحكيم والفصل بين السلطات” التي كانت تحرس ديمقراطية الهند في منطقة تعج بحكومات الانقلاب العسكري، وأنظمة الاستبداد الراسخة.

وفي أثناء قيامه بذلك، فإن الحاجة الماسة إلى بلاده في كثير من قضايا العالم الكبرى، والمصاعب التي تواجه الديمقراطية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، جعلت رد حلفائه الغربيين على ما يفعله بالبلاد رداً ضعيفاً هين الشأن.

إذ إنه منذ وصول مودي إلى السلطة، شنّت جماعاتٌ هندوسية يمينية هجمات على أقليات بدعوى أنها تحاول منع التحول الديني، وأقرت عدة ولايات هندية، وتعمل أخرى على دراسة، قوانين مناهضة لحق حرية الاعتقاد الذي يحميه الدستور.

وفي 2019، وافقت الحكومة على قانون يخص الجنسية قال معارضون له إنه تقويض لدستور الهند العلماني بإقصاء المسلمين المهاجرين من دول مجاورة. والقانون من شأنه منح الجنسية الهندية للبوذيين والمسيحيين والهندوس والجاينيين والبارسيين والسيخ الذين فروا من أفغانستان وبنغلاديش وباكستان قبل 2015.

ورغم القائمة الطويلة والمستمرة من الإجراءات التي تنتهك حقوق الإنسان وتهدد النظام الديمقراطي الراسخ في الهند منذ عقود طويلة، تمتع مودي بعلاقات قوية مع واشنطن، سواء خلال رئاسة دونالد ترامب أو خلال إدارة بايدن الحالية. وكانت المرة الوحيدة التي تحدث فيها وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، عن هذا التوجه وقال إن الولايات المتحدة ترصد تزايداً في انتهاكات من بعض المسؤولين بالهند لحقوق الإنسان، خلال أبريل/نيسان الماضي، فيما بدت كرسالة لنيودلهي رداً على شراء النفط والغاز من روسيا.

ما تأثير ذلك على الهند والعالم؟
السؤال الآن لكل من الهند والعالم: هل يمكن للهند أن تظل محركاً للنمو الاقتصادي وشريكاً مستداماً في الخارج، مع كل ما تعمد إليه من اضطهاد للأقليات، لا سيما مسلموها البالغ عددهم 200 مليون نسمة، وما يفضي إليه ذلك من تأجيج للتطرف واضطراب دائم في أحوال البلاد من الداخل؟

تجلَّت تناقضات صعود الهند في لقاء مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى أواخر يونيو/حزيران، فقد وقف مودي إلى جانب زعماء الدول الكبرى في ألمانيا، وقد عمل فريق علاقاته العامة على توثيق مظاهر علاقته الحميمية بنظرائه: مزاح وضحكات مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، وتشابك الأيدي مع رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، وهكذا.

غير أنه في الوقت الذي كان فيه مودي يشارك مضيفيه التوقيع على بيان يحث على الدفاع عن الديمقراطية، والحفاظ على المثل العليا لها مثل “حرية التعبير” و”استقلال المجتمع المدني”، كانت حكومته تواصل حملة قمعها للمعارضة على أرض الوطن.

اعتقلت سلطات الهند ناشطاً استنكر سوابق رئيس الوزراء في انتهاك حقوق الإنسان، وصحفياً استقصائياً سلط الضوء على تصريحات مسيئة للإسلام صدرت عن متحدثة باسم الحزب الحاكم. وقبل ذلك ببضعة أيام، زحف مسؤولون حكوميون وقوات أمن بالجرافات لهدم منازل مسلمين ضمن ما يُعرف بحملة “العدالة الفورية”، وعمدت الحملة هذه المرة إلى هدم منازل النشطاء المتهمين بقيادة متظاهرات يشوبها العنف أحياناً احتجاجاً على التصريحات الاستفزازية من مسؤولين بارزين.

يجتهد مودي في الوقت الحالي لانتهاز أسباب القوة التي تتيحها له الهند، ويزيد عليها ضعف النظام العالمي بسبب جائحة كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا وأزمة الصين وتايوان، كل هذه الأسباب والعوامل جعلت مستشاري مودي يرون أن هذه اللحظة المناسبة لتنصيب الهند، وفق تصوراتهم وشروطهم، من بين الدول الكبرى.

والواقع أن الهند قوة اقتصادية صاعدة، تجاوزت لتوها بريطانيا، وبات اقتصادها في الترتيب الخامس بين دول العالم. وهي لديها أسباب التمكين المعينة على الازدهار، من علاقات تجارية آخذة في التحسن، وعدد كبير من المواطنين الشباب، وأدوات توسيع البنية التحتية التكنولوجية، ومن ثم فهي بديل جدير بالنظر، لدى بعض الدول الكبرى، عن الصين ودورها في المستقبل.

لهذه الأسباب وغيرها، يتجاسر مودي في سياساته الدبلوماسية على الجمع بين تناقضات واضحة للعيان: فالهند تُجري تدريبات عسكرية مع كل من روسيا والولايات المتحدة، وتزيد من شراء النفط الروسي على الرغم من الضغوط والعقوبات الأمريكية والأوروبية.

ومع كل ذلك، يبدو أن حلفاء الهند في الغرب ليس لديهم الرغبة في مناهضة حكومة مودي، حتى وإن ابتعدت علناً عن بعض قيمهم الديمقراطية المزعومة. وقال خبراء ودبلوماسيون إن انشغال الغرب بشؤون التجارة وعوامل الجغرافيا السياسية جعل قضايا حقوق الإنسان أمراً أقل شأناً من غيره في سلم ترتيب القضايا المهمة.

مودي.. قصة الصعود المثيرة للجدل
أشار دبلوماسيون ومسؤولون وخبراء إلى أن صعود الهند يختلف عن نظرائه اختلافاً ملموساً في كونه يجمع سمتين فريدتين: انفتاح طبيعي في مسار البلاد الاقتصادي والسياسي على نحو عجزت عنه كثير من البلدان التي كانت واقعة تحت الاستعمار، وصعود زعيم إلى ذروة سلطته بعد أن أمضى نصف قرن يؤسِّس لرؤيته ويحكم خطوات الإعداد لها من البداية إلى النهاية.

يبلغ مودي من العمر 72 عاماً، وقد أمضى حياته فرداً عاملاً في خنادق حركة يمينية تصف تأسيس الهند تحت صيغة الجمهورية العلمانية بأنه ظلم فادح، لأنه استوعب رغبات الأقليات، مثل المسلمين والمسيحيين، على حساب المطالب المشروعة للأغلبية الهندوسية.

جاء التماسك السياسي لنظام مودي وإحكامه السيطرة في أعلى السلطة، إلى جانب مشروعات الرفاهية واسعة التأثير لتأمين قاعدة الانتخاب القوية، فأعطى الجناح اليميني في الهند أنجع وصفة توصل إليها حتى الآن لإحداث التغييرات الثقافية والمؤسسية، التي لطالما صارع التيار اليميني لكسب التأييد لها بين عموم الناس في الشوارع.

يقول مراقبون لشؤون الهند إن وكالات التحقيق والقضاء المركزية في البلاد أصبحت أدوات لترهيب الأصوات المعارضة. ويواجه الصحفيون والمناصرون للحقوق المدنية مضايقات متكررة، وإشغال بتحقيقات قضائية مطولة أو يُلقى بهم في السجن بلوائح تعسفية ومبالغ كفالة يتعذر دفعها. أما المؤسسات المستقلة، مثل المحاكم واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان والهيئة الانتخابية، وقعت تحت هيمنة السلطة التنفيذية أو ضعف تأثيرها، تحت وطأة نظام يكافئ الممتثلين لأوامره ويعاقب المعارضين.

يقول جوزي جوزيف، الصحفي والكاتب الهندي الذي وثَّق في كتابه “الانقلاب الصامت The Silent Coup” تاريخ انتهاكات مؤسسات السلطة لحقوق الإنسان في الهند، إن مودي ليس أول زعيم يستولي على مؤسسات البلاد ويطلق لها العنان في قمع المعارضين السياسيين، فقد أوشكت ديمقراطية البلاد على الانهيار في سبعينيات القرن الماضي، عندما أعلنت رئيسة الوزراء أنديرا غاندي حالة الطوارئ وسجنت المعارضين وفرضت الرقابة على وسائل الإعلام للبقاء في السلطة.

يرى جوزيف أن مودي كان أنجح من غاندي في بلوغ أهدافه، واستعان لذلك بحملة دعاية لا مثيل لها في تاريخ البلاد، شملت وسائل الإعلام المرئية والصحف المتحالفة معه وأدوات وسائل التواصل الاجتماعي التي تصل إلى كل هاتف، وبلغ مدى تلك الحملة الهنود في داخل البلاد وخارجها.

وقال جوزيف إن مودي والمسؤولين في حزبه بهاراتيا جاناتا “جمعوا بذكاء شديد بين مؤهلات الديمقراطية الهندية التقليدية، وأدوات الضبط السلطوية”.

أما جوبال كريشنا أغاروال، العضو في حزب بهاراتيا جاناتا، والمتحدث باسم الحكومة، فيقول إن الانتقادات الموجهة للحكومة الهندية في مجال حقوق الإنسان مبعثها الأغراض السياسية، وتطلقها “تحالفات عالمية” لم يعرِّفها، لكنه قال إنها لا تطيق صعود الهند وتقدمها.

وقال أغاروال: “إن ازدهارنا على المستوى الدولي يرجع إلى أن الهند، تحت قيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، أصبحت لا تبحث إلا عن مصلحة الهند، وتحرص على الاستقلال في قراراتها. ونحن نستفيد من مكامن القوة في الهند، مثل عدد الشباب الكبير والموارد الضخمة وقوة التصنيع أو التقدم التكنولوجي، وإمكانيات الموارد البشرية”.

ومع ذلك يقول مراقبون لشؤون الهند ومناصرون لحقوق الإنسان إن محاكم البلاد غالباً ما باتت أداة تستخدم لإضفاء الصبغة القانونية على انتهاكات السلطة التنفيذية، حتى إن المحاكم العليا أصبح يتعذر عليها مواكبة التعديلات القانونية والتعسف في استخدام اللوائح، وتتهم أحياناً بمساعدة السلطة التنفيذية بتجاهلها انتهاكات الدستور. وهناك ما يقرب من 6 ملايين قضية معلقة في المحاكم العليا بالهند، وأكثر من 70 ألف قضية في المحكمة الدستورية.

غالباً ما يستنكر المسؤولون في حكومة مودي ما تذهب إليه البيانات الدولية المعنية بتصنيف البلدان وفقاً لمؤشرات الصحة والصحافة والحرية الدينية، ويرفضون تراجع الهند فيها بزعم أنها تخضع لأجندات استعمارية أو جهل أجنبي بشأن السمات الحضارية للهند.

* المصدر : صحيفة The New York Times ـ ترجمة : عربي بوست
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع