تحية لمحمود العارضة ورفاقه
بثينة شعبان*
ما أعظم روحك التي تتحدّى الزنازين والجدران الصّماء وقضبان النوافذ وقسوة السّجان، لتعانق روح الله الذي قدّس النفس البشرية وعدّها خليفته في الأرض! ما أعظم إرادتك وأنت ترى ببصيرتك قبل بصرك نفقاً تحفره مع زملائك بملعقة، مسطّرين صبراً يضاهي صبر أيوب! وما أروع خشوعك وأنت في ظلّ هذه الحال الصعبة ترنو بعينيك إلى الأقصى خوفاً عليه من جرائم المستوطنين، ويهفو قلبك إلى جنين وأشجار الصبّار وحضن الأم ورائحة الدار ووشوشات الأهل والأقربين المفعمة حناناً ومحبّة!
وأنا أقرأ رسالتك الموجّهة إلى الشعب الفلسطيني البطل وإلى الأمة العربية، أعلم لماذا يخشاك الاحتلال، لأنك تمثل ضمير ووجدان كلّ عربي شريف مؤمن بكرامته ومستقبل أمته، وأعلم أيضاً أنّ العدوّ الغاصب يغتال ويسجن المؤهلين لأن يكونوا قادة حقيقيين لهذه الأمة، وينقذوها من براثن الاختلافات والفتنة والتشرذم.
أقرأك وأنت متجذّر في أرضك وفكر أمتك وهويتك، فيما تتسع رؤيتك الثاقبة لتشخيص الداء ووصف الدواء في آن، ما يجعل من أفكارك وسرديتك منهج عمل جديراً بالتحليل والتفصيل والتدريس والمتابعة. وقد لخّصت بذلك جوهر استراتيجية العدوّ الغاصب وأنجع الطرق لتقويضها والانتصار عليها.
لقد صدقت حين قلت إن بقاء هذه الشجرة الخبيثة “إسرائيل مرهون بحبل مشدود من الفرقة وتشتت الأمة وهرولة مطبّعيها وسماسرة الأوطان، بمن فيهم البعض من أصحاب الحقّ”، وها نحن نرى أنّ أهم آلية يتبعها العدوّ في قهر شعوبنا واغتصاب أرضنا ومقدّراتنا هي بثّ الفرقة والنزاعات بين أبناء الوطن الواحد وأصحاب القضية الواحدة، فهو ليس قوياً بما يملك، إنما يستمدّ قوته من فرقتنا وتردّدنا وانسياق البعض وراء التضليل الذي يمارسه أو الفتات الذي يقدّمه.
لقد كانت هذه هي استراتيجيتهم منذ البداية. وقد حدّثوها من خلال تجربتهم بشراء الذمم وتضليل الرؤى وخلط المفاهيم والأفكار، بحيث تصبح الخيانة وجهة نظر، ويصبح العدوّ الذي يستهدف وجودنا برمّته مؤهلاً لأن يكون جاراً أو شريكاً، فيما يغرس الشكّ في ضعاف النفوس بحليفهم التاريخيّ والاستراتيجيّ.
كم أنت شجاع ومقدام ونافذ البصيرة حين تدعو إلى “إجراء مراجعة شاملة وجردة حساب للسنوات الضائعة من عمر شعبنا بسبب مسيرة التسوية السياسية التي عمدت باتفاق أوسلو الذي شرّع وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين”! هذه المراجعة والجردة ضرورية، ليس لشعبنا الفلسطيني فحسب، وإنما لشعبنا العربيّ أيضاً في كل أقطاره، لأنّ الغمغمة السياسية والتاريخية شريكة في إنتاج كوارث هذه الأمة، والافتقار إلى الشجاعة والصراحة والصدق في عيش تاريخنا وكتابته وروايته هو أحد أسباب استمرار الأعداء بالاستهانة بنا والاستقواء علينا والتجرّؤ على ممتلكاتنا وهويتنا.
لا شكّ في أنّ الأعداء خلقوا سماسرة بين ظهرانينا يبيعون أرضهم وحقهم ومستقبل أبنائهم بمكتسبات مادية لن تعني شيئاً، ولكنهم ليسوا وحدهم المشكلة؛ فهؤلاء قلّة قليلة في أيّ بلد ومكان، مهما كثر عددهم، فهم لا يشكّلون إلا القلّة الضئيلة.
المشكلة تكمن في الشريحة الأوسع الرمادية والساكتة عن الحقّ، والتي لا تمتلك الجرأة لتسمّي الأشياء بمسمّياتها، خوفاً على منصب أو مكتسب أو خوفاً من ردود الأفعال. ولهذا، فإنّ دعوتك “للتحلّي بالشجاعة والجرأة حتى نضع حداً لهذا الاستنزاف للمشروع الوطنيّ برمّته” هي دعوة مهمة وصائبة، ويجب التوقّف عندها وتحليلها وترجمتها إلى خطوات عمل.
كم أنت محقّ حين تقول إننا “بحاجة إلى ثورة وانقلاب في المفاهيم والتصورات”! هذا يعني غربلة كلّ ما يصدر عن هذا العدوّ وأعوانه من إعلام تضليلي مغرض يصوّر العدوّ على أنه المنقذ، ويتهم الأصدقاء التاريخيين بأنهم مشكلة العيش المشترك في المنطقة.
كم نحن بحاجة إلى إعادة الحسم في استخدام مفاهيمنا وسردياتنا ومفرداتنا، بحيث تنشأ الأجيال الشابة بتصورات قاطعة عن حقوقها ومقوّمات كرامتها وعوامل كبريائها وازدهارها! فهل يُعقل أن نختلف على تعريف كيان يستبيح الدماء والأرض والمقدّسات ليلاً نهاراً، وحيثما يحلو له على هذه الأرض الطاهرة المقدّسة! هل يمكن أن نختلف على من يستبيح حرمة المسجد الأقصى والأرض التي بارك الله حوله، والتي تضمّ بلداننا الطاهرة الطيبة؟ هل يمكن أن نختلف في عدوّ اخترع معادلة فرض مئات السنين من السجن على المقاومين الأبطال، رغم أن حياة الإنسان محدودة، وعمد إلى سياسة قتل المناضلين والشرفاء وإعدامهم في عالم يبلع لسانه كلّما تعلّق الأمر بحقّ العرب في أرضهم وديارهم المحتلة؟
لا شكّ في أنّ هذا العدوّ يعتبر كلّ العرب كتلة سرطانية، سواء كانوا في فلسطين أو الجولان أو أيّ بقعة أخرى، وهو يعمل إما على اجتثاثهم وإما على ترويضهم مفهوماتياً ومصلحياً كي يكونوا خاضعين له ولإرادته المعادية. فكما ادّعى الإنسان الأبيض حين وصل إلى أستراليا عام 1788 أنها أرض من دون شعب، وعمد إلى قتل السكان الأصليين واجتثاثهم، عمد العدوّ الإسرائيلي عام 1948 إلى الادّعاء أن فلسطين أرض من دون شعب.
وقد كان استهداف الأطفال والشباب في كلتا الحالتين هدفاً دائماً ومباشراً للمستوطنين، فضلاً عن سلخ السكان الأصليين عن ثقافتهم ومعتقداتهم ولغتهم وحضارتهم. وما تركيز العدوّ الإسرائيلي على تغيير المناهج المدرسية، سواء في فلسطين أو في الدول المطبّعة، إلا وسيلة لتغيير الأرضية المعرفية والوطنية للأجيال القادمة والاستسلام لعدوّ يتحكّم في مصيرنا.
إنّ التمعّن في تاريخ الأبورجينز؛ الشعب الأصليّ في أستراليا ونيوزيلندا، وما تعرّض له على يد الإنسان الأبيض المستوطن، وكذلك تجربة السكان الأصليين في الولايات المتحدة، ينبئ بما يتعرّض له الشعب الفلسطيني اليوم، لأنّ الأسلوب ذاته والممارسات ذاتها تتكرّر على يد العدوّ الغاصب في فلسطين، آملاً أن تكون هناك بقية ضئيلة لا تشكّل خطراً عليه وعلى مشروعه.
إنّ الجواب عن كلّ الإشكاليات التي تعانيها الساحة العربية يتمثّل في إيمانكم أنتم الأسرى المكبّلون جسدياً بالأصفاد، والأحرار جداً في أرواحكم وضمائركم وعزائمكم، فلا مهادنة مع عدوّ يشنّ علينا جميعاً حرب اجتثاث، إما جسدياً وإما فكرياً ومفهوماتياً وثقافياً.
لقد برهنتم أيها الأسرى الأبطال أنكم البوصلة الصائبة لحرية الأمة الحقيقية، وأنّ تضحياتكم نابعة من بصيرة نافذة، وإيمان بالوطن لا يتزعزع، وإرادة لا تلين. وأقلّ ما يمكننا فعله هو أن نوصل أصواتكم وأفكاركم وتجاربكم إلى العالم برمّته، وأن نتخذ منكم أيقونة للمواطنة الصادقة المخلصة، وأن نكون معكم في كلّ الساحات، كي تؤتي معاناتكم أكلها انتصاراً وألقاً لفلسطين والأمة العربية جمعاء.
*المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع