السياسية :

بقلم: محمد حسين

ترجمة: نجاة نور، الإدارة العامة للترجمة والتحرير الأجنبي “سبأ”

لطالما كان حلم كل دولة ووكالة مخابرات وإمبراطورية ونظام شمولي تقريباً الإشراف على أعمال جميع رعاياهم، واكتشاف أي تلميح للمعارضة، والسيطرة على تحركاتهم، والتأثير على تفكيرهم، وحتى النظر في أفكارهم وعقولهم.

لم يتحقق هذا الحلم على الإطلاق، بغض النظر عن جهودهم وتصميمهم، ليس بسبب أي مخاوف أو مبادئ أخلاقية تعيقهم، ولكن ببساطة لأنهم يفتقرون إلى الأدوات اللازمة للقيام بذلك، لكن في هذا العقد حتى عام 2030، تغيرت الأمور.

عندما تم تقديم رؤية مشروع ” نيوم” تلك المدينة الثورية الخضراء والصديقة للبيئة والمتقدمة تقنياً والتي تبلغ مساحتها 75 ميلاً في الصحراء العربية إلى العالم في يونيو، قوبلت بمجموعة متنوعة من التفاعلات.

صُدم الكثير من تشابهها مع بيئة حضرية مستقبلية شوهدت في كتاب أو فيلم خيال علمي، بينما أشاد آخرون ببراعتها واتساع رؤيتها، لا سيما فيما يتعلق بالاستخدام الكامل المخطط لها للطاقة الخضراء والمتجددة.

ومع ذلك، هناك آخرون يرون الأمر بشكل مختلف وانتقدوا الإمكانات التي يمكن أن تمتلكها مثل هذه المدينة لتوسيع نطاق السيطرة الاستبدادية، سواء كان ذلك في ظل الدول أو شركات التكنولوجية.

بصفتها “مدينة ذكية ” لن يعتمد مشروع “نيوم” الأوسع نطاقاً على الطاقة المتجددة وسيارات الطائرات بدون طيار فحسب، بل سيكونان أيضاً أحد الأنظمة الرئيسية التي تعتمد على بيانات السكان، والأنظمة التي ستعرف كل خطوة على أساسها، على بيانات تحديد الموقع الجغرافي.

حتى تصميم المدينة نفسها – على الرغم من السطح العاكس اللامع للجدران الخارجية والحدائق الداخلية – تم تشبيهه بسجن فاخر، حيث تستغرق الرحلة من طرف المدينة إلى الطرف الآخر 20 دقيقة، ومع كل وسائل الراحة، سيتمكن المقيم فيها التنقل بين مواقع الاحتياجات اليومية، من أماكن عمل ومدارس وحدائق ومنازل في غضون خمس دقائق سيراً على الأقدام من السكن المعيشي.

الهدف المزعوم لمثل هذه الرؤية هو توفير المساحة والاستفادة منها عملياً، لكن النقاد يخشون من أنها قد تعيق حرية الحركة بشكل مباشر.

السؤال، إذن، هو ما إذا كان هذا الحد من الفضاء والمسافة سيكون طوعياً أم مفروضاً، هل سيخضع السكان لحظر تجول على المسافة التي يمكنهم قطعها، كما حدث في العديد من البلدان خلال جائح كوفيد 19؟

أم أن ذلك يعود إلى الاختيار الشخصي وحكم الأفراد؟ قد يتم حظر الملكية الشخصية للمركبة، حيث لن تكون هناك حاجة إلى وسيلة النقل الخاصة بالفرد في بيئة صديقة للمشاة، سيكون الجميع على قدم المساواة.

يوجد حالياً مشاريع رئيسية أخرى للمدن أو المناطق الذكية يتم إنشاؤها في جميع أنحاء العالم، من “Telosa” في الولايات المتحدة إلى مدينة “Tristate” في شمال غرب أوروبا، وكلها تحتوي على عدد من نفس الخصائص الموجودة في المملكة العربية السعودية.

تشمل المدن الأخرى المدن الكبرى الموجودة بالفعل ولكن يتم دمج التكنولوجيا الذكية حالياً في بنيتها التحتية.

ظهرت أيضاً تقارير عن تطوير هذه المدن – على سبيل المثال تقرير ملبورن التجريبي – والذي يعمل كإطار عمل يتم على أساسه تخطيط وبناء المواقع المستقبلية.

على الرغم من ذلك، خارج المدن الذكية، هناك مجموعة متنوعة من التطورات الأخرى التي تروج لها المنظمات الدولية والتي ستساهم بالكامل في تغيير الطريقة التي يعيش بها الناس في معظم البلدان، وإنفاق الأموال، والقيام بأنشطتهم اليومية والسفر.

لتوضيح هذه التطورات بإيجاز ولتجنب تقديم تفاصيل صريحة لكل خطوة، يمكن تلخيص هذه التطورات في مفهوم “الهوية الرقمية”.

تهدف الهوية الرقمية، بشكل أساسي، إلى رقمنة الهوية، إلى تجميع جميع مستندات الفرد – من الولادة حتى الموت، مع كل خطوة في الحياة وكل إنجاز بينهما – في محفظة واحدة عبر الإنترنت.

في شكل تطبيق على الهاتف الذكي، أو من خلال شريحة مزروعة في جسم الشخص أو يده، سيمكن المعرف الرقمي مستخدمه من شراء الأشياء، والسفر عبر نقاط مراقبة الحدود دولياً، وعرض سجلاتهم ومتطلباتهم الطبية مثل اللقاحات – كل ذلك بطرق تجعل مثل هذه العمليات أسهل وأسرع وأكثر كفاءة.

إذا كان هذا يبدو مناسباً حتى الآن، فربما يكون وسيحدث بمجرد نشره بالكامل عبر المجتمعات والبنى التحتية الوطنية والدولية.

فوق كل شيء، ستسهل بلا شك على الحكومات والجهات الفاعلة الحكومية تتبع ومراقبة مواطنيها، وهذا أمر مؤكد.

يمكن رؤية مثال بالفعل في عدد قليل من البلدان التي تبنت مبكراً لأنظمة مماثلة، مثل الإمارات العربية المتحدة، حيث يُطلب من المواطنين والمقيمين حمل بطاقات هوية يمكن تتبعها من خلال شرائحهم.

كما تم تقديم الرقائق الدقيقة وعرضها لإدخالها في أيدي الناس، وهي تقنية من المتوقع أن تحل محل الهواتف المحمولة بحلول عام 2050 وتسجيل كل تحركاتنا.

كتب كلاوس شواب، مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي في كتابه لعام 2017 “الثورة الصناعية الرابعة”، أنه تماماً مثل المنتجات أو العبوات التي يمكن تتبعها من خلال سلسلة التوريد بشريحة أو نظام تتبع، وكذلك البشر.

وكتب “في المستقبل القريب، سيتم تطبيق أنظمة مراقبة مماثلة على حركة الأشخاص وتعقبهم”.

هذا جزء من الجانب المظلم لمثل هذه الراحة، والتضحية بالخصوصية وتقرير المصير من أجل مزيد من الكفاءة والمركزية.

يرى البعض أن هذه تضحية ضرورية من أجل الصالح العام والأمن العام.

بعد أن حكمت سلطات المملكة الشهر الماضي على الأم السعودية وطالبة الدكتوراه سلمى الشهاب بالسجن 34 عاماً، تم الكشف عن احتمال وجود تطبيق أمني أو واشي يسمى” (كلنا أمن)” وراء اعتقالها الأولي، لأنه مكّن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الآخرين من إبلاغها للحكومة بشأن منشوراتها التي تبدو منتقدة على تويتر.

إذا كانت هذه الأنواع من التطبيقات مرعبة من حيث قدرتها على تشجيع أحدهم على التجسس والإبلاغ عن زملائه المواطنين، ففي بعض المحاولات شبه الستالينية لقلب الناس ضد بعضهم البعض، تخيل آثار نظام الهوية الرقمية المزروع تحت جلد المرء وإلزامه لاستخدامها في كل جانب من جوانب الحياة.

كما ذكر المفكر والكاتب الإسرائيلي الشهير يوفال نوح هراري في مقابلة مع برنامج 60 دقيقة على قناة سي بي إس، سيصبح من الممكن في المستقبل القريب “اختراق” إنسان مثل الجهاز أو نظام التشغيل.

من خلال ذلك، سيكون من الممكن “التعرف على الشخص [المخترق] بشكل أفضل مما يعرفه. وبناءً على ذلك، للتلاعب بك بشكل متزايد” أوضح أن ذلك سيعتمد على “بيانات حول ما يحدث داخل جسدي.

ما رأيناه حتى الآن، إن الشركات والحكومات تجمع البيانات حول المكان الذي نذهب إليه، ومن نلتقي، والأفلام التي نشاهدها والمرحلة التالية هي استمرار المراقبة تحت جلدنا”.

كما حذر هراري في اجتماع دافوس في المنتدى الاقتصادي العالمي منذ ما يقرب من ثلاث سنوات من أن “البشر يجب أن يعتادوا على فكرة أننا لم نعد أرواحاً غامضة – فنحن الآن اجسام يمكن اختراقها”.

في حين أن هذا القرصنة يمكن أن تتم لأغراض مفيدة مثل رعاية صحية أفضل، فقد أقر بأنه “إذا وقعت هذه القوة في أيدي ستالين في القرن الحادي والعشرين، فإن النتيجة ستكون أسوأ نظام شمولي في تاريخ البشرية ولدينا بالفعل عدد من المتقدمين لوظيفة ستالين في القرن الحادي والعشرين”.

أوجز المؤلف صورة كوريا الشمالية في 20 عاماً عندما “يتعين على الجميع ارتداء سوار بيومتري يراقب باستمرار ضغط الدم ومعدل ضربات القلب ونشاط عقلك 24 ساعة في اليوم.

يمكنك الاستماع إلى خطاب على الراديو بواسطة القائد العظيم وهم يعرفون ما تشعر به بالفعل. يمكنك أن تصفق يديك وتبتسم، ولكن إذا كنت غاضباً، فهم يعرفون، فستكون في المقصمة غداً”.

وبغض النظر عن مثل هذه التوقعات المظلمة حول العواقب المستقبلية لهذا التبني التكنولوجي، هناك العديد من القضايا الرئيسية الأخرى التي قدمها إدخال المعرفات الرقمية.

بعد الخصوصية، فإن أبرز مشكلة يمكننا رؤيتها اليوم هي استبعاد فئات معينة من الأشخاص من قواعد البيانات الوطنية والنظام كلياً.

هذا هو الحال في الهند وباكستان، حيث يتم استبعاد الملايين من أنظمة الهوية الرقمية، مما يعني أنه ليس لديهم إمكانية الوصول إلى الخدمات والحقوق وحتى الفرص التعليمية التي يتم منحها لمن لديهم هوية رقمية.

بشكل عام، فإن اعتماد مثل هذه الأنظمة من قبل الحكومات ووكالات الاستخبارات – وإن كان من المحتمل أن يكون أمراً حتمياً بمرور الوقت – يقدم الأدوات المثالية للاستبداد الرقمي وسيطرة الدولة على نطاق أوسع مما كان يتصور سابقاً.

قد يكون الحلم الشمولي قابلاً للتحقيق الآن، ومع قيام دول مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بتحريك رؤيتها الخاصة لهذه البرامج، لا يقتصر الأمر على الخليج أو إسرائيل.

* المصدر :  صحيفة ” ميدل ايست مينتور “Middle East Monitor- البريطانية

* المادة الصحفية تم ترجمتها حرفياً من المصدر و بالضرورة لا تعبر عن رأي الموقع