محمد جرادات*

لم يطلق رصاصة واحدة. إنه الحشد الشعبي، وبشهادة السيد مقتدى الصدر، وهو يعتذر عن عنف التيار الصدري وعشرات الضحايا في واحدة من الفتن المتجددة في العراق النازف، منذ أن أريد له أن يتحوّل من أسباع جهادية تشكّلت منها الكوفة في صدر الإسلام، وهي تفتح العالم شرقاً وغرباً، ليغدو ميداناً للاحتراب الداخلي.

وقد أوصى السيد كاظم الحائري، وهو يعتزل المرجعية، أبناء الشهيدين الصدرين وكل المؤمنين بدعم الحشد الشعبي كقوة مستقلة، باعتباره اليد الضاربة والقوة القاهرة للمتربصين بأمن البلاد.

لذا، نجده يطلق رصاصه دائماً لحماية العراق من “داعش” ومشروعها الزاحف عبر الرمال المتحركة. وقد أطلق تشكيلات المقاومة لتزرع العبوات في طريق الأميركي منذ أن اغتال قائده أبا مهدي المهندس برفقة الفريق الشهيد قاسم سليماني، في عمليات استنزاف ظلّت تؤرق الأميركي على محدوديّتها، وتدفعه إلى التموضع في بضع معسكرات محسوبة الحركة والأنفاس، وهو اليوم، حتى في ذروة الفتنة، يعلن عبر واحدة من تشكيلاته السرّية تنفيذ هجوم سيبراني على مواقع عدة موانئ إسرائيلية في حيفا ويافا وإيلات، في تأكيد ممهور بالوعي على وجهة واحدة للبوصلة القتالية.

كانت الفتنة تزحف عبر ليل بغداد لتأكل أخضرها ويابسها، فيما كان أبناء الحشد من بغداد يشاركون الزحف عبر صحراء نينوى في التصدي لقطع من “داعش”، فيهلكون الوالي المزعوم فيه وعدداً من أتباعه التكفيريين، في وقت استغل دواعش آخرون خروج مجموعات “سرايا السلام” الصدرية من سامراء إلى بغداد للانقضاض على سامراء، ولكن الحشد تصدى لهم وأجهض محاولتهم، والثقة تملأ صدره بعراق ناهض من نير الاحتلال نحو استعادة دوره العروبيّ والإسلاميّ الرائد.

ربما كانت بضع ساعات يتابع المشاهد خلالها قنوات الإعلام المأجور، وهي تتحدث عن مقتل وإصابة عشرات المتظاهرين برصاص الحشد الشعبي! ليدرك أنّ ثمة حطباً يتم دفعه نحو الحريق؛ حريق بلاد الرافدين. وقد جاهر الإعلام الإسرائيلي بأنه حريق النهاية، حتى إن موقع “Terror Alarm” نشر خريطة للعراق، وقد اشتعلت بعبارة “THE END OF IRAQ”، في وقت أخذ إيدي كوهين يحرّض قائلاً: “يا لبناني تعلّم من العراقي وادخل إلى قصر بعبدا”.

وسبق للحشد الشعبيّ أن تشكّل تبعاً لفتوى المرجعية بالجهاد الكفائي، بعدما سيطر “داعش” على ثلث العراق، وطرق أبواب بغداد، فيما كان المحتل الأميركي يتحدث عن احتمال سقوطها الوشيك، حتى تحرّك الجارّ الإيراني، وعبر الفريق قاسم سليماني، بتوفير كلّ الدعم اللوجستي والتسليحي للفتية الَّذين نهضوا للتصدي لفتنة “داعش”. وقد فتح لها الأميركي والتركي كل طرق التدفق، معلنين استحالة احتوائها قبل 20 سنة قادمة، ولكنَّ الحشد قدّم الآلاف من عمر شباب العراق ليفرض معادلة ميدانية أدّت إلى كسر ظهر “داعش” في 3 سنوات.

سقط الرهان الأميركي على أسطورة “داعش”، رغم سلسلة من عمليات إعادة التدوير المتقنة فنياً وإعلاميّاً، ولكن مراهنته على إدامة استنزاف العراق لم تسقط، فلجأ إلى الفتنة في المربع الداخليّ داخل البيت البغداديّ، تحت شعارات برّاقة ظاهرها الرحمة ومن قبلها العذاب، وقد هيّأ لمخططاته صنائع، ومن خلفها جمهور غاضب من فشل المؤسسة الحاكمة، وهو فشل أرسى له الأميركي كل أسبابه، وعزّز لتعميقه كلّ أشكال الفساد، عبر شراء الذمم وإدامة ارتهان البنية التحتية للشركات الأجنبية، ليجد المواطن نفسه بلا عمل ولا ماء ولا كهرباء، في بلد غنيّ بالنفط والماء والأرض الخصبة بالحياة.

وحين أقرّت التشكيلة السياسية للحكم في العراق، وضع الأميركي فيها أسس لعبة خبيثة، ورفدها بالانقسام المذهبي والعرقي، وعزّزها بالعوامل الخارجية وتأثيراتها عبر أدواته الخليجية، ليبقى العراق يدور في حلقة مفرغة ومتاهة لا يخرج فيها من كارثة حتى تستلمه أخرى تهيّأت تبعاً لمضاعفات سابقتها، ولكنّ مفاجأة الحشد الشعبي عندما تشكّل في ذروة المحنة أحدثت فارقاً ظلّ ينغّص على الخطط الأميركية. لذا، حاول الأميركي جهده لرفع الشرعيّة عنه وقصف معسكراته عشرات المرات “بالخطأ” المزعوم في ذروة الحرب مع “داعش”.

يحاول الأميركي وأدواته في داخل العراق والإقليم إعاقة الحشد ومشروعه النهضوي، بزعم ارتهانه لإيران و”مشروعها الصفوي الفارسي المذهبي” المزعوم، في خلطة اتهامات تعكس جهلاً وتخبطاً في مواجهة الخيط الرفيع الذي يربط الحشد بالجارة إيران، وهو ارتباط عقائدي تاريخي جغرافي مع العراق بكليّته، بما يزعج الغريب القادم عبر الأطلسي على أسنة الرماح وقد تقصّف حديدها، في وقت يتماسك الحشد ضمن محور تمتد عالميته من جبل دماوند في إيران حتى جبل الشيخ في مقابل الاستعلاء الإسرائيلي والصلف الغربي.

أشعل الغوغاء النار في مقرات الأحزاب السياسية العراقية التي تشكّل مظلّة للحشد، ولكن الحشد لم يطلق رصاصة واحدة في أتون الفتنة، ولو دفاعاً عن النفس، في وقت ينشغل بالاتهام الأميركي لتشكيلات المقاومة المنبثقة منه بإطلاق طائرات مسيّرة عبرت الحدود، لتضرب قبل أيام قليلة قواعد الأميركي في سوريا، والتي أزف رحيلها، لتبقى بوصلة الحشد في مسارها الكفائي تلملم جراح العراق نحو غد مقاوم.

* المصدر : الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع