التسليم دين نتعبّد الله به
الأستاذ / محمد الفرح
عضو المكتب السياسي لأنصار الله
طالعتنا بعض مواقع التواصل بمقال لاحد الصيادلة يدعى علي الصنعاني، يشكك من خلاله في مبدأ التسليم للقيادة.
وللأسف لم يكن موفقا في ذلك ولم يكن حديثه جديداً فهو مقتبس مما كتبه سابقاً رجل الإستخبارات الأجنبية، الذي هو أحوج إلى التسليم واتباع هدى الله من غيره، ﴿ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى.. ﴾.
ورغم أنى لا أهتم لقراءة كتاباته المغلفة بالنصح، إلا أن اللافت اليوم هو القفز من التحليل السياسي إلى الخوض في أهم مبادئ الإسلام بفهم قاصر والتشكيك في مقتضياته العملية، وهو في غنى عن ذلك لو لم يكن له مغزى آخر وكل شيء وارد في هذا الصراع الشامل الذي نخوضه منذ مطلع الألفية الثالثة، وانطلاق المشروع القرآني، وبعيداً عن شخصنة الأمور كان لابد من الرد والتوضيح له ولكل مهتم بمعرفة مبدأ التسليم وموقعه في الدين والحاجة الملحة لذلك في واقع الأمة بوجه عام.
مفهوم التسليم
أولاً: التسليم لله
التسليم لله هو من المبادئ الرئيسة في القرآن الكريم، التي تجسد عملياً مقتضى العبودية لله تعالى، التي تعني الانقطاع إلى الله، والالتزام بأوامره والقبول بتشريعه والسير على هداه، بشكل حرفي سواء توافق مع هوى النفس وكبريائها أو خالف أمزجة الناس وطموحاتهم ورغباتهم.
والتسليم يعني أن تكون مؤمناً بأن الله حكيم في أقواله وأفعاله، سواء علمت بالحكمة منها أم لم تعلم بذلك، وأن لا يحصل منك خاطرة تساؤل أو ريب أمام فعل من أفعال الله، وتنزه الله عن ذلك، فلست أفضل من الملائكة عندما قالوا: ﴿ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾.
والتسليم لله يتنافى مع الكبر والغرق في الذات والمسلّمون لله هم أكثر الناس تمسكاً بهدى الله وتقبلاً له وتفاعلا معه دون أن يبدو أي اعتراض أو ملاحظات وتعديلات على توجيهات وسنن الله ومضامين هداه.
وقد جعل الله التسليم معياراً لمدى استقامة البشر في الحياة فلا يتم للإنسان أن يكون عبداً لله سائراً على صراطه المستقيم دون أن يقر بربوبية الله ويسلّم فيما هدى إليه. ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ (فصلت: من الآية30) والتسليم مبدأ ألزم الله عباده جميعا بأن يسلموا له دون استثناء وفي مقدمتهم الملائكة والأنبياء وأعلام الهدى والعلماء والصالحين.
والتسليم هو الضمانة من الانحراف والأمان من الزيغ أمام سنة الابتلاء والاختبار الحتمية في الحياة، ومنذ بداية الخلق كان التسليم هو المحك الذي يبين الصادق من الكاذب والخبيث من الطيب، ويظهر ما في أعماق النفوس ويجلي العبد على حقيقته، فقد سقط إبليس حينما لم يوافق التوجيه الإلهي هوى النفس، وأنف أن يذعن لتوجيهات الله، وتحوّل عبد الله بن أبي إلى منافق وخصم لدود للرسول لأن الدين لم يتكيف مع مزاجه ولم يلبي رغباته التي كان يؤمل أن يصل إليها.
وبعد أن سرد القرآن الكريم قصة آدم وإبليس والملائكة، وذكر المخالفات والاعتراضات التي حصلت، قدّم سنة إلهية ثابتة ومستمرة إلى آخر أيام الدنيا خلاصتها أن الإنسان إذا لم ينطلق في هذه الحياة على أساس هدى الله فسيكون مصيره الضلال والشقاء، مهما بدى ذكياً، ومهما كان لديه من قدرات ومعارف، ومهما قدم من بدائل يرى فيها الحكمة والمصلحة ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ (طه124).
بمعنى لا مكان للمزاج والهوى والترجيحات والتصنيفات والاعتراضات فيما قدمه الله، وليس الإنسان مخولا أن يأخذ من الدين ما يريد، ويترك ما يريد، أو يمشي وفق ما يرغب خلافا لما هدى إليه الله، في مختلف شؤون الحياة ومجالاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية …الخ، وأي بدائل تصطدم بهدى الله، لم يعد مسمى إسلام ينطبق عليها، ولم يعد السير عليها يسمى إسلاما، وهي مرفوضة وغير مقبولة، ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ (آل عمران : الآية 85)
ثانياً: التسليم للأنبياء والقائمين بالقسط
تحدث الله في القرآن الكريم بأنه -جل شأنه- هو وحده المعني بهداية عباده ورعايتهم، وتقديم ما يضمن لهم السعادة والنصر وما يبعدهم عن الضلال والاستعباد، وعلى امتداد التاريخ لم يهمل الله البشر، ولم يترك فراغاً في واقعهم، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾(النحل: من الآية36) وتكفل بذلك هو حتى لا تبقى القضية متروكة لاستغلال الانتهازيين والطامعين وبما يقفل الباب أمام كيانات الطاغوت والمضلين.
يقول الله جل شأنه ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾[الليل : 12] وقال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ [يونس: 35]. وقال تعالى ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾ [النحل: 9] فهو رب الناس وملكهم ومن يمتلك أن يحدد قناة الوصل التي يوصل بها هداه إلى البشر حتى لا ينحرفون إلى السبل الجائرة.
وليس من صلاحية البشر اختيار البدائل سواء في المنهج أو في القيادة والخروج عنها هو عمل يتنافى مع الإيمان بملك الله قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص: 68]
و سنته في هداية البشر تقوم على إرسال الرسل والأنبياء وإنزال الكتب ابتداء وما يلحق بذلك ممن يصطفيهم الله ويؤهلهم للقيام بالقسط، وإنقاذ الناس وقيادتهم على أساس هداه من الورثة الحقيقيين للكتاب فالهداية لا تنقطع بموت الأنبياء ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾(فاطر: من الآية32) وقرن الحديث عنهم مع الأنبياء عندما جعل حكم القتل للقائمين بالقسط كحكم من يقتل الأنبياء: فقال جل شأنه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ (آل عمران:21ـ22)
وقد فرض الله طاعتهم بشكل مطلق وألزمنا بالتسليم لهم تسليما حرفيا، حتى يستطيعوا القيام بمهامهم العملية والتبليغية والتربوية وقيادة الأمة وتحويل المشروع الإلهي إلى حالة قائمة على الأرض، فجعل طاعة الرسول من طاعة الله قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ (النساء: من الآية 80).
جعل الله اتباع الرسول وطاعته والتسليم له علامة الحب لله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاْتَّبِعُوْنِيْ يحببكم الله﴾ وألزم المؤمنين أن لا يعتمدوا على أي رؤية من لديهم بعدما قضى الله ورسوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (الأحزاب : من الآية 36).
ومن يختارهم الله ويصطفيهم هم أكثر الناس قدرة على التوضيح والتبيين وتقديم الدين وصنع القناعات، وهم أكثر الناس طاعة لله وانقياداً له وإذعانا لأمره والتزاما بهداه، وليس من صلاحياتهم أن يقدموا شيئاً من أنفسهم ولو كلمة واحدة وإنما يسيرون بالناس وفق هداه دون زيادة أو نقصان ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأحقاف: 9]
وهم ابعد الناس عن الاجتهادات والترجيحات ويأمرون بالاستقامة قبل غيرهم ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [هود: 112] ومن يختارهم الله ليسوا طغاة ولا جبابرة ولا متسلطين، حتى يطمئن الناس إلى أن التسليم المطلق لهم لا ينتج أي ضرر عليهم، وليس من ورائه سوى الخير والفلاح.
وينبني على طاعتهم واتباعهم والتسليم لهم التخلص من الأفكار والتصورات والعقائد الظلامية التي تحكم ولاءات الإنسان ومواقفه وتوجه سلوكه في الحياة، فيما الانفصال عنهم يسميه الله استكبارا ويترتب عليه الضلال والشقاء وإمكانية تقبل الخداع والإفتراءات والاستغلال وأن يستعبده الآخرون.
وبعد هذا التوضيح فإن من المهم الإشارة إلى بعض ما ورد في مقال المدعو علي الصنعاني وبشكل مختصر.
أولاً: اشترط في التسليم أن يكون قائما على شرح وتبيين وتوضيح، ولا أعتقد أن هنالك إشكالية بهذا الشأن، فالقرآن بيناً وميسراً للذكر والتأمل، والمشروع القرآني واضح ولا غموض فيما تضمنه من مفاهيم ومضامين …الخ، وربما لم يحصل في أي عصر من العصور تبييناً وتوضيحاً وتفصيلاً بالقدر الذي عليه المشروع القرآني، والسيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي في كل مناسبة وباستمرار يبين ويوضح ويشرح الحقائق للناس.
والدين بطبيعته هو بالشكل الذي يكون واضحا لا لبس فيه، لدرجة يصل تأثير بيانه إلى اقتحام النفوس قسراً، ولا يبقى لأحد عذرا من الاهتداء به سوى الجحود والنكران، ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ (النمل14). وقد تحدث القرآن عن قوة بيانه وتأثيره حتى على عتاولة الطغاة، فقال تعالى على لسان نبي الله موسى لفرعون: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً﴾(الإسراء102).
أما إذا كان الكاتب يقصد بالتبيين في ما يتعلق بالقرارات الإدارية والتوجيهات المتعلقة بأمور الدولة، فهذا موضوع يعود إلى قوانين ولوائح تحدد مستوى الشفافية ولها ظروفها واعتباراتها ولا علاقة لذلك بالتسليم المطلق، وإن كان القصد توضيح الشبه والأمور التي تلتبس على الناس، فبالإمكان أن يعود إلى ما قاله السيد القائد في دروس عهد الأشتر حول قول الإمام علي عليه السلام: (أطلق عن الناس عقدة كل حقد واقطع عنك سبب كل وتر).
الشيء الآخر أن الدين لم يقم على أساس الفهم الشخصي للحكمة والغاية التفصيلية والجدوى من وراء كل قضية فيه، وليس مبنياً على معرفة ما يترتب عليه من إيجابيات ونتائج في الحياة، لأن الناس مداركهم قاصرة ويتفاوتون في الفهم، ما يعني أن الدين سيكون للعباقرة والأذكياء فقط، وسيكون مشروعاً نخبوياً، و الله هو وحده عالم الغيب والأعلم بالغايات والنتائج التفصيلية والمطلوب هو الإيمان بما أتى من عنده بأنه عظيم وأن آثاره عظيمة، ولذلك فإن القرآن لم يقدم شروحاً تفصيلية لكل قضية لأن ذلك ليس شرطاً في أن تؤمن وتسلم، وهذا واضح في القرآن الذي جعله الله شاملا للحياة إلى يوم القيامة في كتاب واحد.
وبالتالي غير صحيح أن نعلق إيماننا وتفاعلنا مع قضايا الدين، بالإحاطة بأبعاد الدين وبما يتقبله العقل فقط، فالحركة العملية وأحداث الحياة هي من تساعد الإنسان على فهم الدين وفهم عظمته والحكمة من توجيهاته، وليس الفهم مقتصرا على التلقين النظري.
والدين هو للعالمين إلى آخر أيام الدنيا وكثير من الآيات القرآنية ظهرت أهميتها في هذا العصر أكثر مما كانت في صدر الإسلام، وكثير من المفاهيم المغلوطة التي حسبت على الدين ظهر خطرها في هذا العصر عندما أصبحت شبهة ومدخلاً للتشكيك في الإسلام، وهذا يعطينا اليقين والقناعة بأهمية التسليم والإيمان حتى لو لم نعرف كل أبعاده وغاياته.
لذا فإن الدين يقوم على الاتباع حتى الأنبياء هم متبعون وليسوا مرجحين ومجتهدين، والمسلمون بشكل عام وجههم القرآن ان يسلموا للرسول فيما وجه وأن يعطوا كل قضية ما تستحقه من الاهتمام، وأن أي تفريط له آثار قد تطال الأجيال من بعدهم وقد تمتد آثاره إلى آخر الأيام، انطلاقا من إيمانهم بأن الله هو العليم وحده بالنتائج التفصيلية وما تؤول إليه أمور الدين.
ثانيا: ما أورد بشأن قصة نبي الله موسى مع العبد الصالح، فقد قدمها بشكل معكوس وأخرج القصة عن سياقها الحقيقي ولا أعلم إلى ماذا استند في ذلك التفسير.
فالقصة من أساسها أتت في سياق تربوي وتعليمي وهداية لنبيه موسى، ليرسخ لديه بشكل عملي التسليم المطلق، ويقرر في نفسه أن الإنسان مهما كان مستوى كماله فإنه عاجز عن معرفة أعماق وأبعاد تدبيره وحكمته، وبالتالي إذا كان قاصراً عن فهم تصرفات مخلوق من مخلوقات الله فكيف سيحيط بتدبير الله الواسع، وقد أوردت نصاً يوضح رؤية الشهيد القائد لهذه القصة، بالذات عندما أشار الصنعاني إلى ما قاله السيد في محاضراته دون تحديد النص.
يقول الشهيد القائد- رضوان الله عليه-: ” التسليم بمعنى: أن الإنسان يكون معترفاً بأن الله هو إلهه، وربه، ويعرف الله، يعرف نفسه أنه عبد لله مأمور، يجب عليه أن يهتدي بهدى الله، وأن يلتزم بهدى الله، أنه عبد لله بكل ما تعنيه الكلمة، يسلِّم، لا يأتي من جانبه أي خاطرة تساؤل أمام فعل من أفعال الله سبحانه وتعالى، لأن الإنسان قاصر، قاصر في مداركه، لا يستطيع أن يدرك بعض تصرفات البشر أنفسهم، ناهيك عن تدبير الله، وأفعال الله سبحانه وتعالى”.
كما ذكرنا بأنه بالنسبة لنبي الله موسى نفسه في موضوع الخضر، ألم يبد له أفعال استغربها؟ وهو إذاً أمام إنسان، أمام إنسان كمثله، أو قل مخلوق كمثله، سواء كان إنساناً أو شيئاً آخر، مخلوق كمثله، لم يستطع هذا النبي العظيم الذي قال الله فيه: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ (طـه:41)
أن يدرك تماماً الغاية من تصرفات هذا الرجل الذي أوحي إليه أن يذهب إليه ليتعلم منه، فكيف يحاول الإنسان أن يعرف، أو يقطع، أو يتصرف وكأنه قد أحيط بالله علماً، يحيط بكل تدبير الله، فيأتي من جانبه استفسارات، يأتي من جانبه استفهام على هذا النحو الذي فيه نوع من التساؤل الذي يبدو وكأنه يعرف كل غايات تدبير الله، وأفعاله سبحانه وتعالى! هذا هو التسليم، التسليم قضية أساسية.”
ثالثاً: ختم مقاله بتكذيب كل من يقول بالتسليم المطلق، وأصدر حكمه عليه بأنه يحمل ثقافة القطيع، وبغض النظر عن أننا لا نفرض قناعتنا على أحد، ولا نحكم على من يخالفنا بالفسق والكفر، وفي نفس الوقت لا نقبل من أحد أن يصادر قناعاتنا ومعتقداتنا بدعوى أنها ثقافة حيوانية.
نحن نؤمن بأن التسليم لله والتسليم لرسوله وأعلام الهدى هو التجسيد الفعلي للعبودية الصادقة لله، ونعتز وبهذا ونرى في هذا المبدأ كل معاني الإنسانية والسمو الحقيقي، ونحن نتعبد الله بطاعة سيدي ومولاي عبد الملك بدر الدين الحوثي وندين لله بتولينا له وندعو الله في خلواتنا أن يثبتنا على هذا المبدأ العظيم حتى نلقى الله صامدين ومستقيمين على موقف الحق.
ونحن تحركنا في هذا الخط بإيمان وقناعة ويقين راسخ لم يتزلزل رغم ما حصل ورغم الحملات الدعائية التي يعلمها القاصي والداني، لأننا لمسنا نتائج هذا المبدأ بصيرة وزكاء وبركة وهداية، وبهذا الهدى أعزنا الله وأكرمنا وهزم بنا كل الطغاة والمستكبرين.
ونحن نعي من واقع التجربة أهمية التسليم والطاعة للقيادة، ويكفينا ما فعله المترددين والمرتابين على طول التاريخ الإسلامي، وما صنعه أصحاب الآراء والأقوال المضطربة الذين لم يبنوا شيئاً ولم يخلفوا سوى الهزائم والمآسي، ويمكننا القول أن معظم مآسي ماضي الأمة وحاضرها هو نتاج لأخطاء وتصنيفات وانحرافات سابقة ومفاهيم مغلوطة وقناعات شاذة، أخرجت الكثير عن خط التسليم لله وأعلام الهداية من عباده، ولنا درس كبير في غزوة أحد وكيف كانت نتائجها بسبب الترجيحات والاعتراضات والاجتهادات.
وفي كثير من المواطن التي كانوا يعترضون فيها على الرسول ويرون أنه تصرف غير حكيم، كانت النتائج تثبت أنه مصيب وأن عمله هو الحكمة، كما حدث في صلح الحديبية، وما حصل عند تقسيم الغنائم في حنين، عندما اعترض بعض الأنصار على قسمة الرسول وخاطبوه بأن يعدل.
وما حدث في معركة صفين فيه الدرس والعبرة، عندما كان جزء من جيش الإمام علي يحمل ثقافة الاعتراضات والعقلانية، وعدم التسليم المطلق لقرين القرآن، كيف كانت النتيجة، ألم يخدع الخوارج ويفتحوا المجال للمضلين؟، ألم يُفشلوا الإمام علي في اللحظات التي كان سيقضي على معاوية وباطله إلى آخر أيام الدنيا؟، ثم كيف كان مصيرهم الشخصي ألم يقتلوا وهم في خط الضلال والإنحراف؟، أليس هنالك إجماع تام لدى فرق الأمة أن الخوارج هم كلاب أهل جهنم؟.
أضف لذلك أن البديهة والفطرة تقضي بالاتباع والتسليم والطاعة للقيادة، فكيف تستطيع أن تبني أمة صامدة وثابتة وموحدة وقوية وغير قابلة للاختراق، وهم غير مطيعين لمن يقودهم وكيف تستطيع أن تقود جيشاً وكل جندي يريد أن يرجح وينظر في كل أمر يصدره القائد.
أليس من أسس الدين أن يبني أمة موحدة وقوية، وأن تكون هدايتها وتوجيهاتها عبر قائد بشري يختاره الله ويمنحه كل ما تتطلبه مهمته من القدرات والمؤهلات، كسنة إلهية اقتضتها حكمة الله الملك والهادي لعباده، قال تعالى: ﴿قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً﴾(الإسراء95)
ثم لماذا القوانين والمحاكم العسكرية الصارمة لمن يعصي القائد في الأنظمة الشمولية وفي الأنظمة الديمقراطية، لأنهم يعلمون أن البديل هي الفوضى والمزاجية، والانفلات وعدم التقيد بأي توجيهات أو ضوابط، ويدركون أن الأمور الإدارية والعسكرية لن تستقيم مطلقاً ولن يجتمع اثنان على رأي وستتعدد الأولويات، وهم يدركون خطورة هذه القضية في الصراع مع العدو، لأن مخابرات العدو ببساطة ستشق صفهم بأبسط كلمة، وتخلق حالة الاضطراب والتردد والاختلاف بين أوساطهم.
ولذلك حتى لو تركوا هامشا لحرية التعبير، لكنهم يحرمون المخالفة للدساتير والقوانين وهذا شيء يتعارف عليه البشر جميعا.
وأخيراً لو كانت الأمور ستستقيم بدون الطاعة للقيادة لما كنا بحاجة إلى دين وإلى أوامر صارمة وتوجيهات جدية من الله بالالتزام والإتباع والطاعة لمصادر الهداية من عباده ، ومن يختارهم قادة للبشرية.