هل أصبحت الحرب بين القوى النووية أقرب من أي وقت مضى؟
السياسية:
قدَّمت نظرية العلاقات الدولية لسنوات مبررات للتفاؤل، بأنَّ القوى الكبرى يمكن أن تتمتع بعلاقات تعاونية في الغالب، وحل خلافاتها دون الدخول في صراع مسلح، فلماذا اختفت نبرة التفاؤل وأصبحت الحرب أقرب مما نتصور؟
نظريات العلاقات الدولية الواقعية تركز بشكل أساسي على القوة، وأصرَّت تلك النظريات طوال سنوات على أنَّ العالم ثنائي القطبين إبَّان الحرب الباردة وعالم القطب الواحد الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، كانا نظامين بسيطين نسبياً، وليسا عرضة لحروب سوء التقدير. وأكَّدت أيضاً أنَّ الأسلحة النووية رفعت تكلفة الصراع، وجعلت الحرب بين القوى الكبرى أمراً لا يمكن تصوره.
لكن تحليلاً نشرته مجلة Foreign Policy الأمريكية، أعده ماتيو كروينينغ: نائب مدير مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن، التابع للمجلس الأطلسي، رصد الوضع الحالي في العالم، من حرب روسيا في أوكرانيا وأزمة تايوان، إلى مفاوضات برنامج إيران النووي، خلص إلى نتائج مقلقة.
العولمة والمعاهدات الدولية
جادل المُنظِّرون الليبراليون بأنَّ ثلاثية من المتغيرات السببية (المؤسسات، والاعتماد المتبادل، والديمقراطية) قد سهَّلت التعاون وقللت من الصراع. ووفرت المجموعة المُكثَّفة من المؤسسات والاتفاقيات الدولية (الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، ومعاهدة حظر الانتشار النووي وغيرها) التي أُنشِئَت بعد الحرب العالمية الثانية -وتوسَّعت وجرى الاعتماد عليها منذ نهاية الحرب الباردة- منتديات للقوى الكبرى كي تحل خلافاتها سلمياً.
علاوة على ذلك، جعلت العولمة الاقتصادية الصراع المسلح باهظ التكلفة. وأخيراً، وفقاً لهذه النظرية، فإنَّ الديمقراطيات أقل احتمالاً للصراع وأكثر احتمالاً للتعاون، وأنَّ موجات التحول الديمقراطي الكبرى حول العالم على مدار السبعين عاماً الماضية جعلت العالم مكاناً أكثر سلماً.
وفي الوقت نفسه، أوضح الباحثون البنيويون كيف غيَّرت الأفكار والقواعد والهُويات الجديدة السياسة الدولية بشكل أكثر إيجابية. ففي الماضي، كانت القرصنة والرق والتعذيب والحروب العدوانية ممارسات شائعة، لكنَّ تعزيز معايير حقوق الإنسان ومحظورات استخدام أسلحة الدمار الشامل على مر السنوات وضعت حواجز حماية من الصراع الدولي.
لكن للأسف، يبدو أنَّ كل قوى التهدئة هذه تقريباً تنهار أمام أعيننا. فوفقاً لنظرية العلاقات الدولية، تشير القوى الرئيسية المحركة للسياسة الدولية إلى أنَّ الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا على الأرجح لن تكون سلمية.
مجلس الأمن الدولي
دعونا نبدأ بسياسة القوة، إنَّنا بصدد الدخول إلى عالم أكثر تعددية قطبية، من المؤكد أنَّ الولايات المتحدة لا تزال قوة عالمية رائدة وفق كل المقاييس الموضوعية تقريباً، لكنَّ الصين صعدت لتحتل مرتبة ثانية قوية في القوتين العسكرية والاقتصادية. وتُعَد أوروبا قوى عظمى اقتصادية وتنظيمية بحد ذاتها. وتملك روسيا أكبر مخزون من الأسلحة النووية في العالم، وتختار القوى الرئيسية في العالم النامي -مثل الهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا- مسار عدم الانحياز.
يجادل الواقعيون بأنَّ أنظمة التعددية القطبية غير مستقرة، وعرضة لحروب سوء التقدير الكبرى، والحرب العالمية الأولى مثال تقليدي على ذلك.
ويعود جزء من سبب عدم استقرار أنظمة التعددية القطبية إلى أنَّ كل بلد لا بد أن يشعر بالقلق حيال خصوم محتملين متعددين. في الواقع تشعر وزارة الدفاع الأمريكية حالياً بالقلق، بشأن إمكانية نشوب صراعين متزامنين مع روسيا في أوروبا والصين في منطقة المحيطين الهندي والهادي.
حروب سوء تقدير قوة الخصوم
بالإضافة إلى ذلك، أعلن الرئيس جو بايدن أنَّ استخدام القوى العسكرية يبقى مطروحاً على الطاولة كخيار أخير، للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني. فسيناريو حرب على ثلاث جبهات ليس مستبعداً إذاً.
تنتج حروب سوء التقدير عادةً حين تُقلِّل الدول من شأن خصومها، فتُشكِّك الدول في قوة أو حزم خصومها على القتال، لذا تُقدِم على اختبارهم. أحياناً يكون العدو مجرد مُتظاهِر بالقوة فتنجح المحاولة، لكن إن كان العدو عازماً على الدفاع عن مصالحه يمكن أن تنتج حرب كبرى.
وقد أساء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الأرجح التقدير عند شن الهجوم على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه “عملية عسكرية خاصة”، بينما يصفه الغرب بأنه “غزو، فافترض أنَّ الحرب ستكون سهلة، وحذَّر بعض الباحثين الواقعيين لبعض الوقت من أنَّ هجوما روسياً على أوكرانياً كان آتياً، ولا تزال هناك إمكانية أن تمتد الحرب في أوكرانيا لتتجاوز الجهة الأخرى من حدود حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو ما سيُحوِّل الصراع إلى صدام مباشر بين الولايات المتحدة وروسيا.
بالإضافة إلى ذلك، هنالك خطر يكمن في أنَّ الرئيس الصيني شي جين بينغ قد يسيء التقدير بشأن تايوان. ولا تسهم سياسة “الغموض الاستراتيجي” الأمريكية المربكة بشأن ما إن كانت ستدافع عن الجزيرة أم لا إلا في زيادة عدم الاستقرار. وقال بايدن إنَّه سيدافع عن تايوان، لكنَّ بيته الأبيض نفسه ناقضه ووصف كلامه بأنه “زلة لسان”.
علاوة على ذلك، بعدما هدَّد العديد من الرؤساء الأمريكيين بأنَّ “كل الخيارات مطروحة على الطاولة” بشأن البرنامج النووي الإيراني دون تدعيم ذلك، ربما تفترض طهران أنَّ بإمكانها الإسراع نحو القنبلة دون رد أمريكي. وفي حال أخطأت طهران في التشكيك بحزم بايدن قد تنشب الحرب.
يركز الواقعيون أيضاً على التحولات في توازن القوة، ويشعرون بالقلق من صعود الصين والتراجع النسبي للولايات المتحدة. وتقول نظرية انتقال القوة إنَّ سقوط قوة كبرى مهيمنة ونهوض منافس صاعد غالباً ما يؤدي إلى الحرب.
يجعل النظامان المختلان وظيفياً في بكين وموسكو من المستبعد أن ينتزعا القيادة العالمية من الولايات المتحدة قريباً، لكنَّ نظرة أقرب على السجل التاريخي يُظهِر أنَّ المنافسين أحياناً يشنّون حروباً عدوانية حين تُحبَط طموحاتهم التوسعية. فكما فعلت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى واليابان في الحرب العالمية الثانية، قد تهاجم روسيا لوقف مسار هبوطها، وقد تكون الصين أيضاً ضعيفة وخطيرة.
قد يجادل البعض بأنَّ الردع النووي سيظل ناجحاً، لكنَّ التكنولوجيا العسكرية تتغيَّر. فالعالم يشهد “ثورة صناعية رابعة”، إذ تَعِد التقنيات الجديدة -مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، والاتصالات، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والروبوتات، والصواريخ الفرط صوتية، والطاقة المُوجَّهة وغيرها- بتحوُّلٍ في الاقتصاد العالمي والمجتمعات وساحة المعركة.
ويعتقد الكثير من خبراء الدفاع أنَّنا على حافة ثورة جديدة في الشؤون العسكرية. فمن الممكن أن تتمكَّن هذه التقنيات الجديدة، شأنها شأن الدبابات والطائرات قبيل الحرب العالمية الثانية، من منح أفضلية للجيوش المُهاجِمة، ما يجعل الحرب أكثر احتمالاً. ويمكن لمنظومات الأسلحة الحديثة هذه، على أقل تقدير، أن تربك تقديرات توازن القوة، وهو ما يُسهم في خطر سوء التقدير سالف الذكر.
وتتولى الصين، على سبيل المثال، الريادة في العديد من هذه التقنيات، بما في ذلك الصواريخ الفرط صوتية، وبعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية. ويمكن أن تغري هذه الأفضليات -أو حتى التصوُّر الخاطئ في بكين بشأن وجود هذه الأفضليات- الصين لغزو تايوان.
العالم يتغير وهنا مكمن الخطورة
وحتى الليبرالية، وهي نظرية أكثر تفاؤلاً بصفة عامة، تقدم ما يبعث على التشاؤم. من المؤكد أنَّ الليبراليين محقون بأنَّ المؤسسات والاعتماد الاقتصادي المتبادل والديمقراطية سهَّلت التعاون داخل العالم الليبرالي. فالولايات المتحدة وحلفاؤها الديمقراطيون في أمريكا الشمالية وأوروبا وشرق آسيا أكثر اتحاداً من أي وقتٍ مضى، لكنَّ نفس هذه العوامل تذكي على نحو متزايد الصراع على الخطوط الفاصلة بين النظامين العالميين الليبرالي وغير الليبرالي.
ففي الحرب الباردة الجديدة، أصبحت المؤسسات الدولية ببساطة ساحات جديدة للتنافس. إذ تتسلل روسيا والصين إلى هذه المؤسسات وتقلبها ضد أهدافها المرجوة. فمن ذا الذي ينسى ترؤس روسيا لاجتماع مجلس الأمن الدولي فيما كانت جيوشها تهاجم أوكرانيا، في فبراير/شباط الماضي؟ وبالمثل استغلت الصين نفوذها في منظمة الصحة العالمية لإحباط إجراء تحقيق فعَّال في أصول فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19).
يجادل الليبراليون أيضاً بأنَّ الاعتماد الاقتصادي المتبادل يقلل من الصراع، لكن لطالما كان بهذه النظرية مشكلة الدجاجة والبيضة، فهل تؤدي التجارة إلى علاقات جيدة، أم هل تؤدي العلاقات الجيدة إلى التجارة؟
يُقِرُّ العالم الحر بأنَّه مُعتمِد اقتصادياً بصورة مفرطة على أعدائه في موسكو وبكين، وهو يفك الارتباط بأسرع ما يمكن. إذ انسحبت الشركات الغربية من روسيا بين عشيةٍ وضحاها، وتُقيِّد التشريعات الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان التجارة والاستثمار في الصين.
لكنَّ الصين أيضاً تفك الارتباط بالعالم الحر، إذ يحظر الرئيس تشي شركات التكنولوجيا الصينية من طرح أسهمها في وول ستريت على سبيل المثال، لأنَّه لا يريد مشاركة معلومات الملكية مع القوى الغربية. إنَّ الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين العالمين الليبرالي وغير الليبرالي، والذي مثَّل ثقلاً موازناً ضد الصراع، يتآكل الآن.
تقول نظرية السلام الديمقراطي إنَّ الديمقراطيات تتعاون مع الديمقراطيات الأخرى، لكنَّ الخط المحوري الفاصل في النظام الدولي اليوم، كما يوضح بايدن، هو “المعركة بين الديمقراطية والاستبداد”.
من المؤكد أنَّ الولايات المتحدة تحتفظ بعلاقات ودية مع بعض الدول غير الديمقراطية، لكنَّ النظام العالمي ينقسم بصورة متزايدة، بحيث تكون الولايات المتحدة وحلفاؤها الديمقراطيون الداعمون للوضع الراهن في الناتو واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا في جانب، والدول الرافضة للوضع الراهن المتمثلة في الصين وروسيا وإيران في الجانب الآخر.
أخيراً، لطالما شابت الآراء البنيوية بشأن التأثيرات المُهدِّئة للقواعد الدولية الشكوك بشأن ما إن كانت هذه القواعد عالمية فعلاً. ومع قيام الصين بإبادة جماعية في إقليم شينجيانغ، وإصدار روسيا تهديدات نووية مروعة، وإخصاء أسرى الحرب في أوكرانيا، باتت لدينا الآن إجابة مريعة.
علاوة على ذلك، قد يشير البنيويون إلى أنَّ الانقسام بين الديمقراطية والاستبداد في السياسة الدولية ليس مجرد مسألة حكم بل أنماط حياة، وكثيراً ما تكون خطابات وكتابات شي وبوتين عبارة عن تشدُّقات بشأن إخفاقات الديمقراطية. وسواء أعجبنا الأمر أم لا، لقد عدنا إلى منافسة من القرن العشرين حول ما إن كان بمقدور الحكومات الديمقراطية أم الاستبدادية تلبية تطلُّعات شعوبها بصورة أفضل، وهو ما يضيف عنصراً أيديولوجياً أكثر خطورة إلى هذه المنافسة.
لحسن الحظ، هنالك بعض الأنباء السعيدة، إذ يمكن إيجاد أفضل فهم للسياسة الدولية من خلال مزيج من النظريات. فتُفضِّل معظم البشرية النظام الدولي الليبرالي، وهذا النظام لم يكن ممكناً إلا من خلال القوة العسكرية الواقعية للولايات المتحدة وحلفائها. علاوة على ذلك، يشير 2500 عاماً من النظرية والتاريخ إلى أنَّ الديمقراطيات أكثر احتمالاً للانتصار في منافسات القوة الصلبة هذه، وأنَّ القوى المستبدة تخمد بصورة كارثية في النهاية.
لكن لسوء الحظ، لا تظهر اللحظات التوضيحية التي تُحوِّل التاريخ في صورة قوس باتجاه العدالة إلا بعد حروب القوى الكبرى.
المصدر: مجلة Foreign Policy الأمريكية
المادة الصحفية ترجمت ونقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولا تعبر عن راي الموقع