السياسية:

اتخذت أزمة شرق السودان منعرجاً دبلوماسياً محرجاً خلال الأسبوع الماضي، إذ أمرت سلطات البلاد عشرات من زعامات الشرق بالعودة بعد أن قطعوا الحدود لإريتريا، لتلبية دعوة لمائدة حوار حول الأزمة رتب لها الرئيس الإريتري أسياس أفورقي.

ولا يزال الأمر محيراً، فالخارجية السودانية تقول إنها لم تأذن بقيام المناسبة، في حين يزعم سفير إريتريا لدى السودان أنه استأذنها، وكان عند الحدود ليستقبل هذه الزعامات حين فوجئ بأمر عودتهم من دولته. واكتفى السفير بدعوة من قطع الحدود منهم قبل أمر الرجوع إلى وجبة غداء في بلدة اللفة الحدودية بإرتيريا.

بالطبع، أثارت الواقعة الحمية الوطنية في دوائر كثيرة استنكرت تدخل إريتريا في هذا الشأن الداخلي، ونعت على الحكومة السودانية خروج أزمة الشرق من يدها لتكون نهباً لغير السودانيين.

ويعود هذا الحرج الدبلوماسي على الحدود مع إرتيريا إلى اتفاق السلام الذي عقد بين حكومة السودان والحركات المسلحة في مدينة جوبا بجنوب السودان في أغسطس (آب) 2020، إذ جاء الاتفاق بمفهوم “المسار” بدعاً. فببدعة المسار لم يقتصر السلام في الثروة والسلطة على المسلحين، كما يفهم من مفاوضات تريد إنهاء نزاع مسلح، لكن شملت حلفاءً للمسلحين من المقاومة المدنية لنظام الرئيس البشير المخلوع من مناطق سودانية لم يعرف عنها حمل السلاح ضده، فوقع لهؤلاء الحلفاء المدنيين حظ معلوم من قسمة الثروة والسلطة فيما عرف بـ”المسار” في اتفاق جوبا للسلام.

وكان لشرق السودان مساره ضمن مسارات أخرى لوسط السودان وشماله من أقاليم ليست في عداد المسلحين. ولم تقبل جماعات مؤثرة في شرق السودان مسارها المزعوم، وخرجت لمعارضته في يومه الأول، وبقوة. فجاء المسار إلى الشرق منطوياً على خلاف تاريخي بين شعبي الهدندوة والبني عامر، ودخل ميدان سياسة الشرق، ولم يكد يجف مداد خصومة الجماعتين حول من يكون على ولاية كسلا الشرقية. وكانت الهدندوة أبطلت بقوة وبالقوة ولاية صالح عمار، من بني عامر، الذي عينته الحكومة الانتقالية على كسلا، ثم جاء مسار الشرق إلى الهدندوة على يد جبهة التحرير والعدالة، حليف مسلحي دارفور، المحسوبة على البني عامر ليزيد الطين بلة.

ما أوجه اعتراض جماعة الهدندوة وحلفائها في الشرق على مساره؟

اعترضت هذه الجماعات، من حيث المبدأ، على توقيع اتفاق للشرق مع أطراف منه ليست مفوضة منهم، فلم تحظ هذه الأطراف بالتمثيل في مؤتمر جوبا إلا كحليف مسلح من إقليم دارفور لا اختصاص له بالشرق، ولا علم له بمشكلاته، فحازت هذه الأطراف الحليفة حق الحديث عن الشرق من دونهم لتجتمع بهم، بحسب ما جاء في الاتفاق، في مؤتمر لاحق تشاورهم حول منافع المسار للشرق. وبدا للمعترضين، كما لا يخفى، أن المسار أنزلهم منازل المواطنة من الدرجة الثانية يشارون، وقد يخالفون، وهذا باب في الإهانة كبير. وضاعف من غصة المسار على من اعترضوا عليه أن من وقع عليه باسم الشرق هو الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة المحسوب على شعب البني عامر، كما تقدم.

من جهة أخرى، حملت نصوص في الاتفاق تصور البني عامر لرفع التهميش عن الشرق، فأدخل الاتفاق فقرة عن صندوق الشرق (2007) أراد به البني عامر رد مظلمة لهم منه. فكان الصندوق، الذي مولته الكويت قد قام في أثر اتفاق الشرق الذي كانت إريتريا من ورائه. واستأثر الهدندوة بالصندوق في زعم البني عامر، وجاءتهم الفرصة بالمسار لتكون لهم كلمة فيه، فجاء في الفقرة عنه “وجوب هيكلة الصندوق، وتمثيل الموقعين على مسار الشرق في مجلس إدارته، ولهم حق اختيار مديره”.

لا أعرف فتنة ضربت السودان منذ الثورة مثل فتنة مسار الشرق في اتفاق للسلم كان المنظور منه أن ينزل برداً وسلاماً على السودان. فلم يقتصر شره على الخصماء، بل امتد بالعدوى إلى غيره. فأودت مقاومته بالحكومة الانتقالية للثورة في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، بل اصطرع حوله حتى من عارضوه، فتفرقت جماعاتهم أيدي سبأ منذ يوليو (تموز) الماضي.

كانت مناسبة إعلان مسار الشرق في مدينة بورتسودان، حاضرة الشرق، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 ضربة البداية في حلقات العنف التي استثارها. فالتحم مناصروه ومعارضوه في الندوة التي رتبها حزب الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة، الموقع عن الشرق على اتفاق جوبا للسلام، لتدشين المسار لأهل الإقليم. فذهب الصراع بحياة اثنين وضحايا آخرين، ثم تصاعد الاحتجاج ضد المسار من فوق منبر المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة بزعامة محمد الأمين ترك، ناظر شعب الهدندوة.

ولما لم تلغ الحكومة الانتقالية المسار، نادى المجلس الأعلى جمهوره للاعتصام وسد المداخل لميناء بورتسودان في أكتوبر 2021. وكان الاعتصام القشة التي قصمت ظهر الحكومة الانتقالية بانقلاب الجيش عليها في 25 أكتوبر، لكن التطور المؤسف حقاً هو انقسام المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، الذي قاد الحملة ضد مسار الشرق، ففي ملابسات يتكهن الناس بها تكهناً لم يعد محمد الأمين ترك، ناظر الهدندوة ورئيس المجلس الأعلى، راغباً في مواصلة تكتيك “التتريس” ليفرض على الحكومة إلغاء المسار، كما يتهمه سيد علي أبو آمنة، الزعيم بالمجلس، بأنه طلق القضية بعد استمالته لجانب الفريق حمدان دقلو، نائب رئيس مجلس السيادة، والرئيس المكلف إدارة أزمة شرق السودان. فتضاربت تصريحات من الطرفين يشدد فيها أبو آمنة على سلاح التتريس، بل ويمارسه، بينما أنكره ترك بالكلية. ورهن الناظر ترك الحل بلجنة “حميدتي” التي لم تزد على تعليق العمل بالمسار لأسبوعين حتى تتراضى الأطراف.

ولا يبدو أن ثمة حلاً يلوح في أفق اللجنة، فـ”حميدتي” هو مهندس اتفاق سلام جوبا بمساراته، ولا يريد أن يمس بالتعديل، أو الإلغاء، أو بمفردة منه، خشية إغضاب الحركات المسلحة التي تعاقد معها في جوبا. فهي لن تأمن على التزام الحكومة باتفاق السلام معها إن مس مفردة منه ضر. وما يحملها على هذه الاستماتة عند حرف الاتفاق هو تصاعد المطالبات أخيراً في دوائر سياسة بالخرطوم بإلغاء الاتفاق جملة واحدة. فإلغاء مسار الشرق مما سيطمع هذه الدوائر في إلغاء اتفاق السلام كله.

ومن جهة أخرى، وقع الانقسام في المجلس الأعلى لنظارات البجا” منذ أواخر يونيو (حزيران) الماضي. فأزعجت الناظر ترك تصريحات من جماعة أبو آمنة عن مواصلة التتريس حتى إلغاء المسار. فقرر تجميد جميع أمانات وصلاحيات المجلس الأعلى إلى حين عقد مؤتمره العام. وزاد بتسليم أختام المجلس وورقه المرؤوس لأمانات حكومات الشرق حفاظاً على أمنها.

ووصف التصريحات، التي تصدر من خصومه، بأنها “مشينة ومعيبة” ولا تعبر عن المجلس. واعتزل أبو آمنة الناظر ترك وسمى جماعته “الهيئة القومية العليا للمجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة”. وصار أمينها السياسي وناطقها الرسمي. وقال عن تجميد المجلس إنه “مدفوع الأجر” وطالب بحل لجنة “حميدتي” التي لم تجد فتيلاً في قوله.

للطاقة السلبية لمسار الشرق أصل في فكرنا السياسي وممارسته، فيتسم فكرنا وممارسته بثنائية السلام والديمقراطية، فعقيدة المسلحين في الهامش تاريخياً أنهم متى جنحوا للسلم ولقوا منافع منه لإقليمهم، فلا شغل لهم بالديمقراطية واستتبابها في كامل البلد. واشتهروا بتوقيع اتفاقات مع نظم ديكتاتورية عسكرية مثل اتفاق أديس أبابا (1972) مع الرئيس نميري، واتفاق السلام الشامل (2005) مع الرئيس البشير. وانقلب الرجلان على عهدهما مع المسلحين بصورة أو أخرى، وفي وقتهما الخاص المناسب، ليشتكي المسلحون المسالمون من “نقض العهود” أبداً.

ورأينا التاريخ يعيد نفسه مع مسلحي اتفاق جوبا الحالي، فلم يظفروا من الاتفاق بالسلام فحسب، بل عملوا أيضاً على مكافأة حلفائهم من المدنيين بمسارات مثل مسار الشرق تحت مظلة السلام. ورأينا هنا خروق مسار الشرق الكأداء للديمقراطية. ففرض اتفاق السلام، كما رأينا، حليف المسلحين وصياً على إقليمه بصورة اعتباطية أوغرت صدور غيره، كما رأينا المسار يهدم منظمات مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا بالخلاف حول ما صح عمله لإلغاء المسار، واستغربت أن هذا الخراب الذي جاء في أثر مسار الشرق لم يحرك ساكن المسلحين الذين اخترعوه لإطلاق مبادرة من أي نوع للتوسط لرأب الصدع الذي أحدثه في الشرق والوطن عامة. فهم مع السلام، أما الديمقراطية فلها رب يحميها.

بقلم: عبد الله علي إبراهيم أكاديمي وصحافي
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية وتعبر عن رأي الكاتب