السياسية : رفيف إسليم*

ككومةٍ من القطن الأبيض، تستلقي رهف سلمان، الطفلة ذات الـ11 عاماً، على أحد أسرّة المستشفى في غزة، بعد أن غُطِّيَ معظم جسدها بالشاش الأبيض، إثر فقدانها ثلاثةً من أطرافها الأربعة خلال العدوان الأخير على القطاع. لم تنج سوى يدها اليسرى، التي رفعتها لتشير إلى أنها ما تزال على قيد الحياة، مترقبةً بعينيها ما يدور حولها، متطلِّعةً إلى مستقبلها الذي بات مجهولاً.

وصلت رهف إلى المستشفى جثّةً هامدةً، بحسب ما تحدّثت والدتها إلى “الميادين الثقافية“، حتى أنَّ أحد الأطباء قام بوضعها بجانب الشهداء الخمسة الذين ارتقوا في الليلة ذاتها، خلال المجزرة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في مخيم جباليا، شمالي قطاع غزة. لكنّها عاندت الموت، ورفعت يدها لتخبر الفريق الطبّي أنّها ما زالت حيّة، ليهبّ هؤلاء إلى مساعدتها.

لم تكن عائلة رهف خلال الساعات الأولى تعلم الوضع الصحي لطفلتها، فقد اعتقدت الأم، كما أفصحت لنا، بأنها تتجول في زقاق المخيم كعادتها، وستعود عمّا قريب. ثم أوصت شقيقها بالبحث عنها، فيما هرعت هي لتفقّد طفلها محمد، الذي أصيب بعدّة كسور في الحوض نتيجة الاستهداف ذاته. ولفتت إلى أنّها تلقّت بالدموع، بعد ساعات عدّة، خبر إصابة ابنتها، وظلّت تذرف الدموع حتى استفاقت رهف.

تقول الأم إنّها حين رأت طفلتها لم تتعرّف عليها، فالجلد كان قد أزيل عن جسدها إلى حدٍّ ما بسبب الحروق، التي نتجت من اصطدام شظايا الصاروخ بجسدها الصغير، لكنّها اضطرّت لالتزام الصمت وتدارك الأمر، التزاماً بتعليمات الأطباء الذين أوصوها بعدم إخبار الطفلة عمّا حدث لها، والانتظار حتى تتمّ تهيئتها نفسياً لاستقبال الخبر.

 

وتكمل الأم حديثها لـ “الميادين الثقافية“، بالقول إنّ رهف تداركت الأمر بنفسها، فلطالما شرحت لها خلال الاعتداءات السابقة عمّا يحدث للأطفال في القطاع المحاصر، من قتلٍ وبتر أعضاءٍ وصعوبةٍ في تلقّي العلاج، لتتفاجأ بالتمهيد الذي قدّمته رهف لها: “ماما أيدي ما بقدر أحركها… سبقتني ع الجنة”. وفي هذا المجاز اختصارٌ لمعرفتها ببتر يديها. ثم بعد ذلك بعدّة ساعات، أيقنت رهف أنَّ قدماها أيضاً قد بترتا.

تروي الأم أنّ رهف عند بدء الغارة ذهبت كي تطلب من أخاها العودة إلى المنزل، فحرارة شهر آب/أغسطس الحارقة، وانقطاع الكهرباء بشكلٍ مستمرٍّ تجعل بيوت المخيم تنفث ناراً من داخلها، فيهرب الأطفال كعادتهم إلى الأزقة الباردة، لكنَّ صاروخ الاحتلال كان أسرع منها، فباغتها، ولم تعلم أنّ أخاها أصيب مثلها سوى عند إحضاره إلى غرفتها في المستشفى لاستكمال علاجه.

كان من الصعب على محمد، شقيق رهف المصاب، تدارك الأمر؛ فنوبة البكاء الشديدة التي اجتاحته عند رؤيتها كانت كفيلةً للتعبير عن صدمته وحبّه لها، لتحاول هي بدورها تهدئته، فبحسب ما أخبرتنا الأم، فإنَّ محمد ورهف شقيقان متعلّقان ببعضهما البعض، لا يقوم أحدهما بعملٍ من دون مساندة الآخر، وسيكونان سوياً كذلك في رحلة علاجهما المقرر استكمالها في تركيا.

لاحقاً، لن تستطيع رهف العودة إلى روتينها اليومي في ترتيب غرفتها، وقضاء حاجيات المنزل لوالدتها، كما لن يعود بإمكانها أن ترسم وتساعد الجيران، وفق ما أخبرتنا أمّها، ففراشة المنزل أصبحت طريحة الفراش، وما ينتظرها غير معلوم، وأضافت الأم أنّ حلم رهف بأن تصبح طبيبةً ربّما بات مستحيلاً، وهي المهنة التي اختارتها لمساعدة الناس، فكيف ستساعدهم وهي المحتاجة إلى من يساعدها؟

على نقيض أمها، تملك رهف نظرة ملؤها التفاؤل، فهي تتطلّع، بعد السفر وتركيب الأطراف الصناعية، للعودة إلى الحركة بحرية، كما أخبرت “الميادين الثقافية“، والأهمّ أن تعود إلى دراستها، خاصَّةً أنَّ السؤال الأول الذي طرحته بعد علمها ببتر يدها كان: “كيف سأكتب بيدي اليمنى”؟ مشيرةً إلى أنّها بعزيمتها القوية ستكمل تعليمها، وتحقق حلمها يوماً ما. فهي تحلم بأن تكون كل شيء، ومصممة بأن تصبح محامية وطبيبة وممرضة وصحفية ورسامة.

وقالت: “هذه إرادة ربنا. سأحقق حلمي وسأظل صامدة. سأتعلم، وأقوم بأشياء كثيرة في الحياة. مش إذا ايدي سبقتني إلى الجنة لن يعود هناك حياة. لا، عادي. أنا صأصبح رسّامة، ثم طبيبة، ثم معلمة، ثم صحفية ومحامية. أريد أن أتعلم أكثر من شغلة، ومش شغلة وحدة”.

بالعودة إلى بداية القصة، تقول رهف إنَّها بعد أن ابتعدت عن المنزل أمتار عدّة، رأت ضوءاً كثيفاً يقترب منها، ثم غابت عن الوعي لتجد نفسها على سرير المستشفى. تتساءل: “ما الذنب الذي اقترفه الأطفال خلال لعبهم في الأزقّة ليضربهم الاحتلال بالصواريخ؟ وأيُّ خطرٍ يمكن أن يشكّلوه، وأكبرهم لا يتجاوز عمره 12 عاماً؟”. وتُتبِع سؤالها بتنهيدة حسرة.

تشعر رهف بألمٍ لا يفارقها في عينها، يحرمها الرؤية على المدى البعيد، كما أنّ الضوء القوي يزعجها، مما جعل الأطباء يوصون بخفض الإنارة في غرفتها، وحجب ضوء الشمس كذلك إلى أن تتحسن. كما أنّ الأجزاء المتبقية من جسدها تضررت أيضاً بفعل الحروق، مما جعل الألم يرافقها على مدار الساعة، لا يغيب عنها سوى بالمسكّنات.

تفتقد رهف إلى إكمال الرسمة التي تركتها قبل الإصابة، لكنّها لا تستطيع. وتجتاحها أيضاً رغبة عارمة بتمشيط شعرها، كما كانت تفعل صباح كل يوم. أما أكثر ما تصبو إليه، كما أفادت “الميادين الثقافية“، فهو نزهة على شاطئ بحر غزة، والسباحة برفقة عائلتها، كما قررت أن تفعل فور انتهاء العدوان على غزة، في يوم تملؤه الفرحة التي سرقها الاحتلال منها، وأجبرها مع أسرتها على التزام المستشفى ليلاً ونهاراً.

* المصدر :الميادين نت