إليكم أعظم سرّ من أسرار حزب الله
د.حسن محمد إبراهيم *
ومع حلول أيام الحسين(ع) وعاشوراء، رفع حزب الله هذا العام شعار “أربعون عاماً ونبقى مع الحسين” ليعطي تفسيراً شاملاً شمولاً عقائدياً وفكرياً وعاطفياً وروحياً واستخلاص عِبَر عن كل ما مضى وكل ما سيأتي من أعوام، هو سرّ يمكن أن يكون علنياً صريحاً واضحاً لا لُبسَ فيه ولا خفايا في ظاهره، يجد الباحث فيه ضالّته عندما يدرك معنى “الحسين”(ع)، بينما يتيه في خبايا معانيه كل من هو جاحد بالحسين(ع).
ومن أجل الوصول إلى معرفة حزب الله وحقيقة ما يكتنزه من قوة علنية في نفس الوقت خافية على الأعداء، سيتطرق المقال للتحليل المقتضب لمعنى هذه الشعارات العاشورائية، والأهم من ذلك كله شرح مقولة السيد حسن نصر الله “لن تعرفونا ولن تفهمونا ولن تكونوا مثلنا” لأن حزب الله انطلق من ثوابت علاقته مع الحسين(ع) ومع عاشوراء.
1. علاقة حزب الله بالحسين(ع)
في إطار التوثيق المعرفي للعلاقة العميقة بين الطرفين، حزب الله والحسين(ع)، لا بدّ من تفسير بعض معاني عاشوراء، تلك المعاني التي اختصرها الإمام الحسين(ع) في مسيرته من المدينة إلى مكة إلى كربلاء، التي استغرقت بضعة أشهر رسمت معالم السير والسلوك لبناء الدين والدولة والأمة والمجتمع والإنسان، ولم يكن محصوراً بفئة محددة من أتباعه وشيعته، وإذا علونا أكثر لم يكن يقتصر على شيعة أبيه، وإن علَوْنا أكثر فأكثر لن ينحصر في أمة جدّه محمد(ص)، لأن جده المصطفى(ص) وصفه بمصباح الهدى وسفينة النجاة، وربط قيام الدين والدولة والأمة والإنسان بالحسين، وأكّد أن محمداً(ص) من حسين(ع) وحسيناً(ع) من محمد(ص)، فالربط وثيق لا يمكن تجزئته، فهو صادر عن العلي الأعلى جلّ وعلا، وهو المبعوث إلى البشرية كل البشرية.
ففي الحديث عن ثورة الحسين(ع) والدعوة إلى الاعتبار منها، دعوة للنظر والبحث واستخلاص العبر والحكم والمعايير الإنسانية والمعابر الأخروية من باب الدنيا.
لذلك تحمل عاشوراء مزيجاً كاملا متكاملاً من العقل والروح والقلب والعاطفة والتفكّر والتعبّد، تلتحم الواحدة بالأخرى كل التحام، بحيث إن عمِلنا على فصل أي عنوان منها عن الآخر لا يشكّل ذلك ضرراً بالمسيرة الحسينية ولا المفاهيم التي أرادتها، إنما يقع الضرر على أنفسنا نحن لأننا عجزنا عن أن نفهم المقاصد الحسينية، فمن يفترض بنا أن نأخذ الجانب العقلي والاعتبار القيادي دون ربطه بمعاني العاطفة والدموع فإنه يأخذنا إلى الضياع عن الحقيقة المرجوّة مِن كامل السيرة والمسيرة الحسينية، أو مَن جاء بالبكاء والعاطفة والقلب دون العقل فإنه يسير بنا نحو الإحباط والخوف، أو حتى من يأخذ الجانب العقلي والعاطفي فقط دون الاعتبار الاجتماعي والاقتصادي والديني والعقائدي فإنه يأخذ جزءاً لا يفي غرض القيامة والثورة والدولة والأمة والإنسان، لذلك فإن عاشوراء وشعاراتها تتطلب الحكمة والوعي واستخلاص العِبَر والتمسّك بمدلولاتها على اختلاف مقاصدها، بالإضافة إلى الدمعة والحزن والعاطفة، فهذه جميعها كلٌّ متكاملٌ مع الكل.
2. مبتنيات نهضة حزب الله
من هنا كانت انطلاقة حزب الله، وربط مسيرته ربطاً لا يمكن تفكيكه أو تجزئته بمفاهيم عاشوراء ومفاهيم الحسين(ع)، وهي متشعّبة ومشبّعة في الفكر والعقيدة والعمل والارتباط الروحي الذي يطغى على كل مسارات حزب الله وقيادته وأفراده.
لقد خاض حزب الله كل تجاربه منطلقاً من محتوى عاشوراء، في مختلف مضامينها:
ـ العقيدة والتوحيد.
ـ لا شيء يعادل رضى الله، بحيثية قول الإمام الحسين(ع): “هوّن ما نزل بي أنه بعين الله”، فكانت كل التضحيات الجسام تهون عندما تكون بعين الله، ولا يكون النظر إلا برضى الله.
ـ الفكر والمبتنى العقلي للأمور.
ـ الثورة على الظلم.
ـ البنيان الاجتماعي من المودة والرحمة والعِفّة والغيرة والحفاظ على العِرض.
ـ المعنويات العليا وإباء الضيم وحفظ الكرامة.
ـ الرؤية الاقتصادية من حيث الترشيد في الإنفاق، لا سيّما أيام الحصار الاقتصادي.
ـ الرؤية السياسية الواضحة والثابتة، ولا مراوغة أو مناورة على حساب الأصالة والمبادئ.
ـ التضحية من أجل المعتقد.
ـ السلوك الجهادي.
ـ أهمية المنبر الإعلامي.
ـ عدم الركون إلى المعادلات الدنيوية وحدها، بل يمكن الارتكاز إلى المعادلات الإلهية التي لا تراها إلا العين الباصرة بعين الله، لا سيّما في الميدان العسكري والجهادي، خاصة إذا ما كان العمل في هذا الميدان نابعا عن التسليم لمشيئة الله وقائما بأداء التكليف، فلا ينتظر بعدها الحسابات الدنيوية المحسوسة بمعادلات الرياضيات والفيزياء والكيمياء.
لذلك يعتقد حزب الله أن الحسين(ع) أحيا الإسلام، وهو ما تناولته أحاديث الأئمة المعصومين(ع) وأكّدت عليه، فحدّد الدين كمعتقد والعلاقة البينية من خلال أنظمة وقواعد سلوكية، والعلاقة بين العبد وربه. لقد أراد بناء الدولة، الدولة العادلة والقوية والمقتدرة، على قاعدة “إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا ظالماً، ولا مفسداً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي رسول الله(ص)، وأبي أمير المؤمنين(ع)، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين”.
لقد وعى حزب الله في جينات وجوده حقيقة الإسلام، بإقامة حكم الله في الأرض، وهذا ما لا يرضى به الكافرون والظالمون والفاسقون والمنافقون، لأنه يشكل أصل الصراع بين الحق والباطل، وترجمته ثورة الحسين(ع) العاشورائية، وهو ما يعمل عليه حزب الله، بعدما أعلن الإمام الخميني المقدس وجوب تأسيس هذا الحزب لحظة الاجتياح الإسرائيلي للمقاومة والجهاد، فارتكز بمفاهيمه إلى المفهوم الحسيني، وكان رفض الاحتلال امتداداً لرفض بيعة الحسين ليزيد وتعبيراً عن التنفيذ الفعلي لمضمون بيعة الغدير التي أقرّ بها كل المسلمين، مع ما يمكن قياسه بالحشود العسكرية الكبرى لقوى الظلم والهيمنة والاستبداد لمعسكر يزيد و”إسرائيل” في جانب، مقابل قلة الناصر والعدد وضعف المقدرات العسكرية الدنيوية للإمام الحسين(ع) وحزب الله في الجانب الآخر.
وعندما يكرّر السيد حسن نصر الله شعارات النصرة للحسين(ع) بالقول والفعل والدم والدمعة والفكر والذكر، فهو يؤكد مرة تلو أخرى ثبات العقيدة والمكنون العميق لمفاهيم ثورة الحسين(ع) التي يتبناها ويعمل بمفاهيمها ليل نهار، ويرتبط ذلك بالعمل بما يريده الله دون النظر إلى النتائج والمحصلات الختامية لأنها مرهونة بإرادة الله تعالى، في حين أنه يقوم بواجبه الديني الذي لا ينفصل عن الواجب الإنساني والاجتماعي والبنيوي لأي حركة وفعل يستوجبان ارتباطاً بالإنسان والدين والدنيا والآخرة معاً.
3. مفردات عاشوراء في سلوك حزب الله
يعتمد حزب الله مفردات عاشوراء وأدبياتها في خطاباته وأدبياته في مختلف النواحي التطبيقية الحياتية اليومية، فبرزت عدة معايير ثابتة، تتكرر بشكل دائم ومستمر وتبرز أحياناً في كل يوم وفي كل موقف وفي كل مرحلة، ومنها:
ـ المواقف السياسية والقيادية الصلبة.
ـ الجود بالأنفس.
ـ الصبر والبصيرة.
ـ الاعتقاد الدائم بأن عناصر حزب الله يشكلون الامتداد الطبيعي لأنصار الحسين(ع) في كربلاء.
ـ العمل الدائم على بناء الدولة العادلة القوية المقتدرة، وتطويع المسارات العملانية لاعتبارات الظروف الميدانية.
ـ بناء الفكر والعقل والروح والعقيدة.
ويزيد حزب الله على تلك المفردات مفاهيمَ خاصة بالتوطئة والتهيئة للمخلّص القادم من ثورة عاشوراء وإقامة الدولة العادلة من خلال تهيئة الأجيال وبناء الفكر التمهيدي لتوطئة المخلّص.
وفي جانب أساس من جوانب مسيرة حزب الله، اشتهر الشعار البنيوي العام، والذي يشكل مرتكز كل الشعارات، وكان الإمام الخميني المقدس أطلقه، ويعبّر صريح التعبير بأن “كل ما عندنا هو من كربلاء الحسين(ع)”، فعمل حزب الله على ترجمة هذا الشعار السرّ الأعمق إلى مسارات عملية تتوّج كل مساراته، حتى أعاد السيد نصر الله نفس المضمون بعد مضي أربعين عاماً من النجاح والنصر والتضحيات والثبات بأن “إحياء عاشوراء مدّ مسيرتنا دائما بالقوة والعنفوان والحماسة والصبر الثبات” وأكّد ثبات المقاومة العسكرية بإسنادها إلى هذا الفكر الحسيني والتجربة الحسينية، فأعلن أنه “عندما تتحدث عن مسيرة المقاومة خلال أربعين عاماً فهو من عاشوراء الإمام الحسين(ع)”.
أحسن حزب الله تنفيذ شعار تعلّقه بالحسين(ع)، فتغلغل حب الحسين(ع) في النفوس، منذ الطفولة من خلال المجالس، وبات الأطفال يعشقون الحسين(ع) قبل أن تدركه عقولهم، واستوطن القلوب والأرواح تمهيداً لتبصرة العقول. هذا الحب للحسين(ع) لم يكن كأي حبّ آخر، بل هو ناتج عن روحية عشقت الله في الحسين(ع)، وذابت في الحسين(ع) لأنه طريقها إلى الله.
ولقد استولى الحسين(ع) على حياة الأفراد والقيادات والعناصر والناس، فبات اللسان والقلب والروح يلهجون بذكره وشعاراته وأقواله ومواقفه، حتى باتت جزءاً من حياتهم اليومية، وهو ما شهدناه في أعتى المواقف الصعبة، لحظة المعارك القاسية وعلو الشهداء الذين كانت آخر مفرداتهم وكلماتهم عبارات حسينية أحاطت مختلف جوانب حياتهم كلها، فكان الشهداء يرتقون بالحسين(ع)، وأخوة الشهداء يتأسّون بالحسين(ع)، حتى باتت حياتهم كلها حياة الحسين(ع).
4.التأسّي بالحسين(ع)
لقد بيّن البكاء على الحسين(ع) عظمته في القلوب، فصار يهون معه كل مصاب جلل، ويصغر كل بلاء في عيون البكّائين تأسّياً بالحسين(ع)، ولذلك من الصعوبة بمكان تفسير هذه الطروحات بطريقة رياضية أو فيزيائية أو كيميائية، إنما تجتمع التفاسير كلها في خانة واحدة هي عشق الحسين(ع)، حيث لا يعرف معنى هذا الحب إلا من عرف “عابسًا” حينما قال “حب الحسين أجنّني”. وقد أطلق السيد حسن نصر الله شعاراً ظلّ متميّزاً طيلة فترة الحرب ضد الدواعش، شعارًا لا تألفه القلوب العادية التي لا علاقة لها بالحسين(ع)، حينما قال “بكربلا الكل استشهد”، فكان كناية عن السير والسلوك العاشورائي مهما كانت النتائج، لأنه يمثّل الحقَّ كلَّه حينما برز إلى الكفرِ كلِّه، لحماية الدين والأرض وأهل الأرض من فساد الذين انتهجوا النهج اليزيدي ومن يدعمه من شياطين الأرض وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل والدول الأوربية وأغلب الدول العربية وبعض الدول التي تدعي الإسلام زوراً، لذلك اصطفوا في جبهة الكفر كله لتدمير الدين المحمدي الأصيل.
من هنا يعتقد حزب الله، في عمق فكره العقدي ونهجه الإسلامي، أن الولايات المتحدة الأميركية تجسّد شخصية معاوية بفكره وجبروته وخداعه ومكره واستبداده من أجل القضاء على الإسلام، وأن الكيان الصهيوني هو مستنسخ عن النهج اليزيدي، سواء بتشكيلهما الجبهة الخارجية العسكرية والاقتصادية والفكرية، أو من خلال اختلاق بؤر تدّعي الإسلام لتشويه صورته وتدميره من الداخل، كما هو حاصل بجبهة النفاق العربي التي تتزعمها السعودية وفكرها الوهابي ومخالبها الداعشية.
إن من يعتقد أن حرب الولايات المتحدة على حزب الله هي في صورة سياسية أو جغرافية محددة الإطار هو واهم، بل هي امتداد لمعركة الأحزاب التي تمثل الكفرَ كلّه في مواجهة الإيمان كلّه. وهنا لا يمكن التشكيك بأن حزب الله يمثل الإيمان كله في مواجهة طواغيت الأرض، وهذا ما تبرزه عداوات العالم له ومكائده، ليس أقلّها وصفه بالإرهاب أو إدراجه على لوائح العقوبات والتصفيات الجسدية والفكرية ومنع إقامة الشعائر الإسلامية التي يرتكز عليها حزب الله.
لذلك بعد أن برز إيمان حزب الله كلُّه بات حكماً في معركة امتدادية لعاشوراء، وهي المعركة التي يفتخر باستكمالها وامتدادها رغم البعد الزمني والحيّز الجغرافي. وهنا تتثبّت المقولة أن المعركة واحدة منذ كربلاء وما بعد كربلاء وما بعد ما بعد كربلاء وصولاً إلى كل التاريخ والجغرافيا لأنها معركة الحق ضد الباطل.
ولم تكن الهجمة الأخيرة على نشيد “سلام يا مهدي”، الذي انطلق بعفوية محضة، مجرد كلمات أو مواقف سطحية، إنما جاءت في لبّ الصراع الفكري والعَقَدي العميق، لأن هذا النشيد أثار الذعر في قلوبهم وأربك مخيّلتهم، لما يمكن أن يعطي استنهاضاً على درب الحسين(ع)، فشنوا هجوماً فكرياً واسعاً عليه تبعه اصطفاف إعلامي عالمي تؤازره مختلف المواقع الطبقية والدينية والجغرافيّة، فكان الصراع مع الطفولة البريئة المتمسّكة بإمامها وقائدها لمحاولة ثنيها عن ثوابتها، لكنها لم تُفلح بل زادت في النشيد انتشاراً وتأييداً ارتبطا بأصل الفكر الحسيني العاشورائي.
الحسين(ع) أعظم سرّ لحزب الله
في الختام، فإن مسيرة حزب الله كلها دروس من كربلاء التي انطلقت من حادثة مدتها الزمنية بضعة أشهر على الأكثر، وامتداد جغرافي محدود، لحظة خروجه من المدينة مروراً بمختلف المناطق التي عرج عليها، إلا أنها وصلت إلى كل الزمان وكل المكان وكل النفوس وكل الأرواح وكل العقول وكل الفكر وكل العقيدة حتى بلغت كل الدين.
وفي محصلة المقال، لن يفهم الأعداء، من كل الأطياف والطبقات والثقافات، وكل الجغرافيا وكل الزمان، وكل امتداد الإنسان، سرَّ حزب الله، حتى يفهموا الحسين(ع) ومعنى الحسين(ع)، ويعيشوا حقيقة الحسين(ع) ومقاصده وأهدافه، وعندما يعيش هؤلاء الحسين(ع) ويتخلَّون عن فلسفاتهم التدميرية، ويدخلون دين الحسين(ع)، عندها سيعرفون سرّ حزب الله الأعظم، وسينضوون حكماً في طليعة مجاهدي حزب الله.
* المصدر :موقع العهد الإخباري