شارل أبي نادر *

صحيح أن أوكرانيا بلد زراعي وصناعي بامتياز، وهذا من أسباب تعثر الاقتصاد العالمي أخيراً على خلفية الحرب الدائرة على أراضيها، وصحيح أنها دولة مؤثّرة في مثلث حيوي يربط بين شرقي أوروبا وروسيا والبحر الأسود وتركيا، ولكنها ليست رابطاً أساسياً ولا معبراً وحيداً وإجبارياً بين أكثر من قارة، فالتواصل الجغرافي الرئيس بين آسيا وأوروبا يمر عبر تركيا، والتواصل الجغرافي بين أفريقيا وآسيا يتحقّق عبر الشرق الأوسط وبعيداً جداً من الأراضي والسواحل الأوكرانية.

كما أنها لم تكن يوماً مؤثّرة بأي شكل من الأشكال في الصراع العربي الإسلامي مع إسرائيل، على الرغم من مستوى الوجود اليهودي غير اليسير فيها، ولكن لماذا يمكن لكثير من المتابعين ملاحظة ما يشبه الارتباط بين سريان الحرب في أوكرانيا حالياً من جهة، وعرقلة أو تأخير الحل لأغلب الملفات الحساسة في العالم؟

في الظاهر، قد لا يبدو هذا التشخيص صحيحاً أو دقيقاً (الارتباط بين ملفات حساسة عالمياً والحرب في أوكرانيا)، ولكن في متابعة مركّزة بعض الشيء، ربما يمكن إيجاد هذا الرابط وبوضوح، وذلك على النحو التالي:

روسيا هي اليوم اللاعب الأساسي الذي يقود عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا (بحسب ما يصرح الروس دائماً)، وبالنسبة إلى الغرب وقسم غير يسير من الدول أيضاً، هي التي أعلنت وقادت وتتابع الحرب على أوكرانيا، وبمعزل عن التسمية الدقيقة أو التوصيف الأفضل، فإن الحرب في أوكرانيا وقعت على خلفية استراتيجية غربية، قامت على أساسها بمحاصرة روسيا وتضييق الخناق عليها وكسر نفوذها في شرقي أوروبا وامتداداً في العالم، وهذا الأمر كان واضحاً في متابعة الحراك الغربي الذي سبق مباشرة الحرب، من مناورات عدائية أو من تصريحات استفزازية ضد موسكو، التي قامت على أساسها باستدراج الأخيرة وجرها إلى المستنقع المدروس، وبعد أن امتنع الغرب عن تقديم ضمانات أمنية هي بديهية ومنطقية ومفترضة لروسيا، حصل ما حصل، ولكن..

بدلاً من محاصرة روسيا عبر أوكرانيا، استطاع الروس وعبر مبادرة جريئة، إحباط المخطّط الغربي، وهم اليوم، على طريق محاصرة الناتو وأغلب دوله في أوروبا الشرقية، عبر أوكرانيا، وعبر توسيع النفوذ والسيطرة البحرية على بحري آزوف والأسود، لتكون هذه الحرب، وبعد بضعة أشهر من المعارك بين الروس والغرب عبر الوحدات الأوكرانية، فرصة تاريخية للروس للتمدد والسيطرة أكثر فأكثر، جنوباً وغرباً.

من هنا، وبعد اقتناع الغرب باستحالة هزيمة الروس في أوكرانيا، تبدّلت استراتيجيته على نحو شبه كامل، من مواجهة الروس في أوكرانيا وكسرهم، إلى استراتيجية أخرى تقوم على محاولة إضعاف موقعهم الدولي، من خلال تعقيد وعرقلة كل الملفات التي يؤدي حلها إلى تقوية وتثبيت نفوذهم ونفوذ حلفائهم في العالم.

ملف تايوان

سوف تماطل واشنطن قدر الإمكان في هذا الملف لإبعاده أو لتأخير حسمه، وذلك من خلال التمسك بمناورة الغموض الاستراتيجي، القائمة على تناقض واضح: اعتراف بـ”صين واحدة” من جهة، ومن جهة أخرى، تمارس مع تايوان علاقات كاملة من دولة إلى دولة مستقلة، من تبادل زيارات للمسؤولين الرسميين، إلى إبرام صفقات أسلحة متطورة بعد تشريع الكونغرس لها بحسب الأصول، إلى تصريحات رسمية علنية تتردد على لسان أغلب مسؤولي البيت الأبيض على نحو شبه يومي، عن التزام واشنطن حماية تايوان، وممّن؟ من الخطر الآتي إليها من الفضاء الخارجي؟ أو من الصين التي تسعى بكل تركيزها لإنهاء تمرد الجزيرة وانفصالها؟

أيضاً، وفي سياق الارتباط بملف الحرب في أوكرانيا، فإن سبب عرقلة واشنطن ملف تايوان، هو خوفها أو خشيتها من البعد الاستراتيجي الضخم، الذي سوف تكسبه الصين ومعها طبعاً روسيا وإيران، من الانتصار الصيني عبر تثبيت موقعها وموقفها ونفوذها في محيط ومنطقة بحرية وجزيرة ومضيق، من أكثر المضايق حساسية وأهمية في العالم، ولتبقي واشنطن بذلك ملف تايوان معلقاً بهدف إبقاء النزاع مفتوحاً مع الصين، لكي لا تذهب الأخيرة بعيداً في دعم عملية موسكو في أوكرانيا، تحسباً لتحوّل الضغوط الأميركية نحوها، وهذا عملياً يمكن استنتاجه ولو لم تصرح به الصين، التي تتجنّب اتخاذ موقف داعم لموسكو في هذا الملف، وعلى المستوى المفترض أن تأخذه تبعاً للعلاقة القوية بينها وبين موسكو .

ملف الاتفاق النووي مع إيران

أصبح واضحاً أن الأميركيين لا يريدون طي هذا الملف الآن، والقبول بما كانوا قد أوحوا أو أعلنوا استعدادهم للقبول به، وذلك على الرغم من الأجواء الإيجابية التي يثيرونها حالياً، والتي سيكون في النهاية مصيرها العرقلة كالعادة، والسبب أنهم اليوم غير مستعدين لتحمّل نفوذ متعاظم لمثلث من الدول القوية المتحالفة (روسيا والصين وايران)، فإضافة إلى البعد العسكري لهذا التحالف، ومع أهميته، سيكون سريان الاتفاق النووي مع إيران كما هو ملائماً للأخيرة (حيث لن تقبل إلا أن يكون ملائماً لها)، وفرصة اقتصادية كاسحة للبلدان الثلاثة، لرفع مستوى منافسة اقتصاد الغرب المتهالك اليوم إلى درجة غير بعيدة من التسبّب بانهياره .

ملف سوريا

أيضاً، وإذا كانت واشنطن قد اقتنعت سابقاً بوجوب تسهيل حل الأزمة السورية، وبدت سابقاً وفي لحظة معينة، تحاول الانسحاب رويداً رويداً من الشرق السوري، فهي اليوم حكماً، ترفض حل هذه الأزمة، التي سوف يكون لموسكو الدور الأكبر في حلها، وما سوف تربحه الأخيرة في ذلك، من نفوذ، ومن موقع قوي على المياه الدافئة وفي دول المنطقة وخصوصاً في الخليج، سيكون الأمر كارثياً على واشنطن، إذا أضيف إلى ما ستربحه موسكو من انتصارها المؤكد حتما في أوكرانيا.

وتركيا كما يبدو، تؤدي دور الوكيل نيابةً عن الأميركي، في عرقلة حل الملف السوري، والتوتر الذي رفعت أنقرة مستواه أخيراً في شمالي وشمال شرقي سوريا، بعد ما تسرّب عن إمكانية تواصل بين الرئيسين السوري والتركي برعاية روسية، وما الاستهداف المباشر لمواقع الجيش العربي السوري، إلا دليل على سلوك واشنطن وبتنفيذ تركي نحو تعقيد المشهد في سوريا بأكبر قدر ممكن.

ملف الترسيم البحري بين لبنان و”إسرائيل”

صحيح أن واشنطن تبدو في الظاهر تسعى بقوة لإنهاء هذا الملف، بهدف توفير جزء بديل من الغاز الروسي، ولكن، يبدو أيضاً أن إنهاء هذا الملف وبطريقة يستفيد منها لبنان بعد أن يتوقّف مسار انهياره الاقتصادي، سوف يريح إيران وروسيا في الوقت نفسه، ويقفل نقطة ضغط تؤثّر سلباً في الدولتين (روسيا وإيران)، وهذا الأمر لا تريده واشنطن، إذ تجد أن خسارتها نقاط ضغط على روسيا، ولو غير مباشرة في لبنان وغيره ستعزّز فرص تقدّم موسكو أكثر فأكثر في أوكرانيا، ميدانياً وسياسياً واقتصادياً.

وهكذا يمكن استنتاج هذا الرابط غير اليسير بين تقدّم الروس الثابت نحو أهدافهم في أوكرانيا، ودور الأميركيين الفاعل والأساسي في عرقلة كثير من الملفات الحساسة في العالم، بعدما اكتشفوا أثرها الفاعل لمصلحة روسيا فيما لو سلكت طريقها نحو الحل.

* المصدر :الميادين نت