السياسية:

لا توجد أي ثغرة قانونية حتى الآن يمكن من خلالها محاكمة شركات النفط والغاز الروسية أو حتى الحكومة الروسية أو اتهامها بالإخلال بعقودها مع الشركات الغربية. ويتضح من خلال كل ما حصل في أسواق الطاقة حتى الآن منذ بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا أن لدى الرئيس بوتين فريقاً قانونياً ذكياً ومتمرساً في القانون الدولي والأوروبي والروسي، وأنه يثق به وينفذ ما يقترحونه، كما يتضح أن لديه فريق تسويق قوياً ضليعاً بالتسويق العالمي للنفط والغاز: إذا كانت الشركات العالمية لا تستطيع التسويق سيتم استبدالها بأخرى روسية للقيام بالمهمة نفسها.

أردوغان وبوتين

لنبدأ بآخر خبر: شراء تركيا للغاز الروسي والدفع جزئياً بالروبل بعد لقاء الرئيسين بوتين وأردوغان. بالنظر إلى واردات الغاز التركية في السنوات الماضية نجد أنها متقلبة المصادر بخاصة من أكبر أربعة مصادر، وهذا مرتبط بالأسعار من جهة وبعوامل سياسية من جهة أخرى. إلا أن اعتماد تركيا على روسيا زاد منذ بداية العام، ويبدو أنه سيستمر بالزيادة بعد توقيع الاتفاق بخاصة إذا كان شراء الروبل سيتم بالعملة التركية.

بما أن تركيا ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي فإن قرار الأخير بعدم الدفع بالروبل لا ينطبق عليها. وكونها عضواً في “الناتو” ليست مشكلة من ناحيتين: الأولى أنها تدخلت لإقناع الروس بالسماح بتصدير الحبوب الأوكرانية، وهذا لصالح دول “الناتو”. والأخيرة أن استهلاك تركيا لمزيد من الغاز الروسي يحل مشكلة روسيا من جهة، ويحل مشكلة الاتحاد الأوروبي من أخرى من طريق التخلي عن الغاز الأذربيجاني للاتحاد الأوروبي. وكانت المفوضية الأوروبية قد اقترحت على الاتحاد الأوروبي زيادة الواردات من أذربيجان، تبع ذلك زيارة رئيسة المفوضية إلى الأخيرة في الشهر الماضي.

باختصار، الكل يلعب. روسيا تبيع وتركيا تحصل على الغاز الروسي والاتحاد الأوروبي يحصل على الغاز الأذربيجاني. المهم تفادي أزمة طاقة خانقة في أوروبا وتفادي حصر بوتين في الزاوية كي لا يجعل الأمور أكثر سوءاً.

بوتين والشركات الأجنبية

الخبر الثاني هو توقيع الرئيس بوتين قراراً يمنع الشركات الأجنبية من الدول غير الصديقة من التخلص من أصولها في روسيا إلا بإذن مباشر منه. القرار مهم من نواح عدة:

1- الدول غير الصديقة تضغط على شركاتها للتخارج من روسيا، بخاصة شركات النفط والغاز والخدمات النفطية. القرار الروسي يمنع هذه الشركات من التخلص من أصولها.

2- إذا قررت الشركات التخلي عن أصولها للحكومة الروسية من دون مقابل، فإن القرار يعني أنه تأميم من دون أن يأخذ الصفة القانونية للتأميم، ومن ثم فإن الحكومة الروسية غير ملزمة بالتعويض.

3- ولكن يتضح أن الهدف هو ليس التأميم أو السيطرة على أصول هذه الشركات، وإنما الإبقاء على هذه الشركات في روسيا للاستفادة من تمويلها وخبراتها وتقنيتها بخاصة في المستقبل. ودليل ذلك أن القرار ينتهي مفعوله في نهاية العام. وضع نهاية قريبة لهذا القانون يضع هذه الشركات في مأزق قانوني في بلادها إذا قررت التخلي عن أصولها والمغادرة من دون تعويض. مغادرة الشركات الآن في ظل هذا القانون المؤقت يعرضها للمساءلة القانونية من قبل المستثمرين.

4- لا أستغرب أن يكون تم التنسيق بطريقة ما مع الشركات الغربية عندما تم سن هذا القانون لأنه يصب في مصلحتها بخاصة إذا انتهت الحرب قبل نهاية العام. بعبارة أخرى القانون لعبة قانونية تحمي روسيا والشركات الغربية معاً، تماماً كما هي الحال مع الشركات الهندية المستوردة للنفط الروسي التي تمت مطالبتها بالدفع بالدرهم الإماراتي. الموضوع يساعد الشركات الهندية في ظل قانون الضرائب الاستثنائي الذي فرضته حكومة رئيس الوزراء مودي على شركات النفط الهندية.

باختصار، الكل يلعب: روسيا تحتاج هذه الشركات. والشركات لا تريد تحقيق خسائر ولا تريد أن تكون بعيدة من روسيا مستقبلاً. المستثمرون في الشركات لا يريدون أن يروا أموالهم تتبخر ضحية لشيء لا علاقة لهم فيه.

سخالين

في جزيرة سخالين وما حولها مشروعان ضخمان للنفط والغاز المسال: سخالين 1، كانت تديره “إكسون موبيل” وسخالين 2، كانت تديره “شل”. كلتا الشركتين كانتا تحاولان التخارج منذ سنوات بعد أن أدركتا أنه تم استغلالهما من إدارة بوتين بعد أن قدمتا رأس المال والتقنية والخبرة. ومع انتهاء المشاريع سيطر بوتين على المشروعين وقلص حصص الشركتين بشكل تعسفي. ويمكن القول إن الحرب الروسية على أوكرانيا كان فرصة لهاتين الشركتين للتخارج من هذه المشاريع تحت غطاء العقوبات. المشكلة عدم وجود مشترين. وفي الوقت الذي تحاول فيه الشركات الهندية الدخول فإنها تحاول الدخول من طريق “اصطياد فريسة” والضغط لشراء الحصص بأسعار منخفضة. السؤال هنا: هل يسمح الروس بذلك؟ هم أولى بالحصول على هذه الحصص بأسعار منخفضة.

العقوبات الأوروبية أثرت في سخالين بخاصة سخالين 1 بشكل كبير، لأن ناقلات النفط والغاز المسال الكاسحة للجليد على لائحة العقوبات وليس هناك بدائل لها عالمياً فانخفض الإنتاج بشكل كبير. استغلت الحكومة الروسية الفرصة ولامت “إكسون موبيل” على انخفاض الإنتاج للضغط عليها. “إكسون موبيل” قالت إنها ستتخلى عن حصتها لطرف آخر، ولكن ليس من المعروف من هو وليس من المعروف إن كان قرار منع التخلي عن الأصول ينطبق عليها. إلا أن الأدلة الحالية تشير إلى محاولات روسية للسيطرة على أصول “إكسون” بشكل قانوني، ولا يعرض الحكومة الروسية أو الشركات الروسية للمساءلة في المحاكم الغربية.

في آخر يونيو (حزيران) الماضي أصدر الرئيس بوتين قراراً بنقل إدارة مشروع سخالين 2 إلى شركة روسية، وتم ذلك تحت مظلة الأمن القومي، وأن المشروع حيوي ويجب ألا يكون تحت إدارة أجنبية. وهذا حق سيادي لأي دولة مقابل أن تقوم بتعويض الشركاء الدوليين بشكل يرضيهم ولا ينتهي في المحاكم.

وتم تطبيق القرار منذ بداية أغسطس (آب). جاء هذا القرار بعد إعلان شركة “شل” التي تملك 27.5 في المئة من المشروع انسحابها من المشروع. وشُكلت شركة روسية جديدة للقيام بهذه المهمة باسم الشركة السابقة نفسه على أن تنقل أصول الشركة القديمة للشركة الجديدة.

الشركة القديمة كانت مملوكة لـ “غاز بروم” (50 في المئة إضافة إلى سهم واحد)، “وشل” (27.5 في المئة)، وشركتين يابانيتين هما “ميتسوي” (12.5 في المئة) و”ميتسوبيشي” (10 في المئة). أي إن الأغلبية في يد “غاز بروم”، ومن ثم تستطيع التصويت بالأغلبية لصالح ما تريده الحكومة الروسية على كل حال. وبهذا يمكن القول إن الشركة وافقت عليه حتى لو عارضه الشركاء الأجانب!

هذه لعبة قانونية أيضاً حُصرت فيها الشركات اليابانية وشركة “شل” في الزاوية: أنشئت شركة جديدة لإدارة المشروع، ولكن لم يتم تأميم حصص الشركات الأجنبية، وإنما أعطيت الشركات فترة شهر لتكون جزءاً من الشركة الجديدة. فإذا أبدت عدم رغبتها في الانضمام فهذا يعني أنها تتخلى عن حصتها في الشركة الجديدة، بينما تبقى حصتها في الشركة القديمة التي لم تعد موجودة!

ويتوقع أن تطالب الشركات اليابانية مدعومة من الحكومة اليابانية بالانتقال إلى الشركة الجديدة لأسباب عديدة، ويتوقع أن توافق الحكومة الروسية على ذلك. اليابان تريد الغاز المسال لتأمين الغاز لقطاع الكهرباء الياباني، وروسيا تريد أن تستمر في البيع. أما مصير شركة “شل” فإنه غير معروف ولكن من المنتظر أن تشتري حصتها شركات هندية أو روسية. الهدف من “ترويس” إدارة الشركة هو استمرار إنتاج الغاز والغاز المسال وتصديره إلى من يرغب في شرائه، حيث يبدو أنه كان هناك تخوف من إيقاف الإدارة الأجنبية للمشروع بسبب العقوبات، تماماً كما فعلت “إكسون موبيل” في سخالين 1. بعبارة أخرى، اللعبة الروسية فيها إنقاذ للشركات الأجنبية أيضاً لأن بيع الغاز الروسي من قبل شركة روسية لا يخضع للعقوبات، بينما بيع الغاز من قبل “إكسون موبيل” أو “شل” يخضع للعقوبات التي فرضتها حكومات بلادها الأم.

“تسييس” موضوع غاز سخالين قديم، وما حققه بوتين سياسياً من إنشاء شركة جديدة لإدارة مشروع سخالين 2 هو تدخل الحكومة اليابانية مباشرة لدعم “ميتسوي” و”متسوبيشي”، هذا أكد لبوتين أن الحكومة اليابانية تسمعه وأن عليها أن تخفف من عدائها له.

خلاصة الحديث، روسيا تبحث عن كل الثغرات القانونية التي تمكنها من تسويق نفطها وغازها، ومن ثم فإنه لا يتوقع أن يكون هناك انخفاض كبير في صادرات النفط والغاز الروسيين كما يرى بعضهم.

بقلم: أنس بن فيصل الحجي اقتصادي متخصص في مجال الطاقة
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية وتعبر عن راي الكاتب