كتيبة جنين ونظرية تثوير الجماهير
كتيبة جنين وكتائب نابلس وطولكرم وطوباس، والكتائب الجاري تشكيلها، كانت تطوراً طبيعياً لسياق متصل من الأحداث النضالية، التي ساهمت في تثوير الجماهير، وتشكيل بيئة شعبية مقاومة جددت الاشتباك مع الاحتلال.
وليد القططي *
وقف الشهيد جميل العموري في أثناء معركة “سيف القدس” خطيباً في تظاهرة مؤيدة للمقاومة في مخيم جنين الثائر، وقال موجّهاً كلامه إلى شباب انتفاضة “سيف القدس” المقاومين: “شبابنا الذين تحملون السلاح في الضفة، لا تطلقوا رصاصكم في الهواء، إنَّ هذا السلاح أمانة في أعناقكم، وواجب ديني وشرعي أنْ يوجّه إلى الاحتلال”. وخرج على رأس التظاهرة هاتفاً والجماهير تهدر خلفه: “بلّغ بلّغ الشاباك.. جاي جاي الاشتباك”.
خرج مُصدّقاً فعله قوله ليشتبك بالسلاح مع جنود الاحتلال في حاجز الجلمة القريب من جنين. ولإدامة الاشتباك، شرع في تشكيل خلية عسكرية تابعة لـ “سرايا القدس”، الذراع العسكرية المقاومة لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. الخلية العسكرية قامت بعدة عمليات فدائية ضد الاحتلال، جيشاً ومستوطنين، وشاركت في التصدي بالسلاح لاقتحامات جيش الاحتلال لمخيم جنين.
وظّل جميل العموري ومجموعته الفدائية في حالة اشتباك مُسلّح دائم مع الاحتلال حتى استُشهد مُشتبكاً ومُقبِلاً فجر يوم الخميس العاشر من حزيران/يونيو عام 2021.
كان دم الشهيد جميل العموري الزيت الذي زاد شعلة المقاومة المُسلّحة في الضفة لهيباً، وكانت الرصاصة الموجّهة إلى جيش الاحتلال لحظة استشهاده شارة البدء في تشكيل كتيبة جنين، وهذا ما أعطاه لقب “مُجدد الاشتباك ومؤسس كتيبة جنين”.
إذ لم يمر وقتٌ طويل حتى أُعلن عن تشكيل كتيبة جنين في أيلول/سبتمبر عام 2021، بعد نجاح 6 أسرى فلسطينيين، 5 منهم ينتمون إلى حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، من كسر قيد سجن جلبوع المُحصّن شمال فلسطين المحتلة والهروب منه.
فكانت عملية “نفق الحرية” بعد انتفاضة “سيف القدس” في أيار/ مايو عام 2021، الحدثين اللذين ساهما في تعزيز البيئة الثورية الشعبية الحاضنة للمقاومة، والتي أفرزت “كتيبة جنين”، بعمودها الفقري مجاهدي سرايا القدس التابعة للجهاد الإسلامي، لتمتد التجربة إلى مدن نابلس وطولكرم وطوباس شمال الضفة الغربية، مُفجّرة حالة مقاومة شعبية مُسلّحة تُبقي جذوة الجهاد مُشتعلة، وحالة الاشتباك مستمرة، وعملية تثوير الجماهير متواصلة، مُستعيدة تجربة “الجهاد الإسلامي” قُبيل الانتفاضة الأولى في قطاع غزة عام 1987، عندما قامت بعمليات فدائية سبقت ولحقت حدث هروب 6 من أسراها من سجن غزة المركزي، ما شكّل بيئة ثورية شعبية مهّدت لانطلاقة شرارة الانتفاضة الأولى في 6 تشرين الأول/أكتوبر عام 1987.
كتيبة جنين وكتائب نابلس وطولكرم وطوباس، والكتائب الجاري تشكيلها، كانت تطوراً طبيعياً لسياق متصل من الأحداث النضالية، التي ساهمت في تثوير الجماهير، وتشكيل بيئة شعبية مقاومة جددت الاشتباك مع الاحتلال، رغم كل محاولات الترويض وجهود التعايش التي تبعت عملية “السور الواقي”، وقمع المقاومة بالتعاون مع سلطة التنسيق الأمني.
وكذلك كانت نتاجاً لنظرية تثوير الجماهير لدى حركة الجهاد الإسلامي التي يُشكل مجاهدوها العمود الفقري لتلك الكتائب. النظرية الثورية التي وضّحها الشهيد المفكر فتحي الشقاقي بقوله عن الانتفاضة الأولى “إنها ثورة الشعب بأكمله؛ لأنَّ الخروج الجماهيري الحاشد حلمنا منذ اليوم الأول”، وشدد عليها الأمين العام الحالي الأستاذ المجاهد زياد النخالة، بقوله: “حركة الجهاد الإسلامي تؤمن بأنَّ شعبنا هو ركيزة المقاومة وأساسها، وهو مُفجّر الثورة على مدار تاريخه”.
تثوير الجماهير يتطلب استمرارية المقاومة وإدامة الاشتباك كما أكدت الوثيقة السياسية للحركة “النهج الثابت للجهاد والمقاومة هو استمرار المواجهة مع العدو الصهيوني، واستنزاف طاقاته وقدراته وزعزعة أمنه واستقراره لإجباره على الرحيل عن أرضنا، وصولاً إلى التحرير الكامل لفلسطين”.
دور حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وفق نظريتها الثورية، هو إبقاء جذوة الجهاد مشتعلة، ومشاغلة العدو بالنار، والقيام بدور الطليعة في تثوير الجماهير وتحريضها على المقاومة من خلال وجودها في مقدمة الجماهير مقاومةً وتضحيةً، وتحويل حالة التعايش مع الاحتلال إلى مقاومة للاحتلال، وتحويل الكفاح المسلح من عمل تنظيمي نخبوي إلى تيار مقاومة جماهيري، وهذا ما حدث في الانتفاضتين الأولى (الحجارة) والثانية (الأقصى).
لقد ساهمت الحركة في تحويل حالة المقاومة التنظيمية إلى تيار مقاومة جماهيري، شعلته الكفاح المُسلّح الذي بادرت إليه الحركة كطليعة مجاهدة أمام الجماهير الثائرة، إيماناً منها بدور الجماهير كأداة للتغيير الثوري وتحرير الأرض، وكأساس لمشروع المقاومة والتحرير المدعوم من جماهير الأمة وطليعتها في محور المقاومة.
ولذلك، فقد رأت الحركة أنَّ انطلاقتها الجهادية تبدأ عام انتقال مقاومتها العسكرية التنظيمية إلى حالة مقاومة شعبية شاملة في الانتفاضة الأولى عام 1987، وليس نهاية سبعينيات القرن العشرين عندما كانت حواراً فكرياً وسياسياً، أو مطلع ثمانينيات القرن العشرين عندما كانت خلايا تنظيمية، والقيام بتنفيذ العديد من العمليات العسكرية النوعية ضد الاحتلال.
استمرار المقاومة ومواصلة الاشتباك ومشاغلة العدو، وتحويل المقاومة الحركية المنظمة إلى وقود لتثوير الجماهير وتحريك المقاومة الشعبية، لا يهدف فقط إلى استنزاف الكيان الصهيوني ومنع استقراره حتى هزيمته وزواله بعد اكتمال شروط النصر على الكيان؛ بل يُمكن أن تُحقق أهدافاً مرحلية على طريق التحرير الكامل لفلسطين، كهدف تحرير الضفة الغربية بالمقاومة، وهذا ليس مُستحيلاً – كما يتصوّر البعض – فعندما يدرك الكيان الصهيوني أنَّ الاحتفاظ بالضفة أصبح مُهدداً لوجوده، بسبب ارتفاع تكلفة الاحتلال والاستيطان المادية والبشرية إلى درجة المأزق الأمني الوجودي، فإنه سيختار الانكماش إلى حدود فلسطين المحتلة عام 1948، بدلاً من الذهاب إلى خيار الزوال من الوجود، وهذه ستكون محطة على طريق الفناء ونهاية المشروع الصهيوني.
أمّا مزاعم قُدسية الأرض اليهودية فستتبخر أمام حب اليهود للحياة وجشع الصهاينة للمال، فالمقدس الوحيد عند اليهود الصهاينة هو الإنسان اليهودي والمال المنهوب من غيرهم (الجوييم)، وقد انسحب الاحتلال بـ “جيشه” ومستوطنيه من غزة تحت ضغط المقاومة بعدما كان يعدّها جزءاً من أرض “إسرائيل” المُقدّسة، وانسحب من جنوب لبنان تحت ضغط المقاومة بعدما كان يعدّها عمقاً استراتيجياً للدفاع عن مستوطنات شمال فلسطين.
كتيبة جنين كنموذجٍ للجهاد والمقاومة ومعها كتائب الضفة الأُخرى، تقوم بدور الطليعة المجاهدة المشتبكة مع العدو المحتل، هي نتاج لتطور الأحداث النضالية في غزة والضفة وكل فلسطين، ونتاج للنظرية الثورية لحركة الجهاد الإسلامي المرتكزة على تثوير الجماهير الفلسطينية ومشاركتها في مشروع المقاومة والتحرير، ومعها جماهير الأمة العربية والإسلامية وطليعتها محور المقاومة.
هذه الكتيبة ومعها كل الكتائب المقاتلة تُمثل نبض الجماهير وروحها، ولذلك يقيناً فإنَّ دور كتيبة جنين ومعها كل قوى المقاومة في فلسطين سيثمر عن ثورة جماهيرية واشتباك دائم مع الاحتلال على كل الأرض الفلسطينية. وهي الطريق الأصوب لتحرير فلسطين متجاوزة نموذج التعايش مع الاحتلال، ومُتقدمة على نموذج تأجيل الاشتباك مع الاحتلال، ورحم الله قائد معركة جنين في انتفاضة الأقصى، الشهيد القائد محمود طوالبة، عندما رفض الانسحاب من المعركة قائلاً: “هذه معركة كر وكر لا فرّ فيها”.
* المصدر :الميادين نت