السياسية:

عُقدت ما بين 22 و24 يوليو (تموز) الحالي ورشة تقييم تجربة الحكومة الانتقالية في السودان (2019-2021) التي نظمتها جريدة “الديمقراطي” و”قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي” بدار نقابة المحامين في الخرطوم.

لا يملك من تابع الفعالية من تمنٍّ سوى لو وقّع منظمو الورشة على صيغة أوسع لهذا التقييم من الورشة المقتصرة على مدعوين بالاسم ومنقولة عبر الأثير للجمهور الأوسع. وشابت الورشة بالنتيجة ثلاثة عيوب ربما أضعفت الأثر الذي خرجت لأجله والكسب منه. فالعيب الأول هو أن التقييم بدا مثل عرض شركة ما لأدائها، وهو مستهجن، ويوصف بحامل لـ”ذهنية المؤسسة” (corporate mentality) لأنها تُغري بتزيين الأداء موضوع النظر، مما ينأى به عن الشفافية المطلوبة. والعيبان الآخران ناجمان من الخلاف الذي ضرب الانتقالية ضرباً تفرقت به شيعاً من الثوريين، ليغادرها كل منهم عند مظلمته المعينة. وجاء كثير منهم بهذا العكر السياسي إلى الورشة في دور النقاش، فطغى التعييب على التقييم مما طبع تداول الرأي بـ”الخصومية” (adversity) وبـ”بالعدائية” (antagonism)، بخاصة في تعليقات هؤلاء الثوريين خارج القاعة.

انعقدت الورشة حول أوراق قدمها وزراء انتقاليون ومتنفذون آخرون في “الانتقالية”، كل في الجبهة التي تليه. وعينت الورشة مناقشين، وهذا الترتيب مدعاة لإيجاد بيئة خصام تلزم المحاضر بالدفاع عن ورقته مستميتاً في وجه نقاش قلنا إنه اتسم بعكر محمول بخلافات بين الأطراف خلال الفترة الانتقالية.

تنادت الورشة لتقييم إنجاز الحكومة الانتقالية ونواقصه ودروسها للمستقبل. وليس من طبيعة الأشياء أن تصف شأناً في الحكم كإنجاز ليطعن آخر فيه طعناً قد يخصم منه بما يدنيه من الكارثة. قد يقبل من عرضه كإنجاز، ممن قال بنقص فيه هنا أو هناك، أما أن يقبل به كفشل فلا. وهذا ما بدا من نقاش “ورقة السلام” التي قدمها وزير ارتبط بعملية السلام الموقع عليه في مدينة جوبا بجنوب السودان في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 بين الحكومة الانتقالية وحركتين مسلحتين من دارفور، ليستا من أكبر الحركات المسلحة ولا أخطرها. وعرض الوزير “ورقة سلام” كإنجاز ولنواقص التي لا تبطله.

وبينما أجاب الوزير عمّن ناقش نواقص السلام تجده أضرب صفحاً عمن طعنوا فيه كفشل كلف البلاد والعباد. وجاء طعنهم من جهة “المسارات” التي أنشأها اتفاق السلام. والمسارات هي ما حظي به حلفاء للحركتين المسلحتين من هذا الاتفاق، ممن لم يعرف أنهم رفعوا سلاحاً بوجه حكومة الرئيس السابق عمر حسن أحمد البشير، فنال هؤلاء الحلفاء مكاسب سياسية في أقاليمهم، لمجرد مصادفة أنهم ناصروا حركة مسلحة جنحت للسلم من دون الأخريات. وأوغرت هذه المكاسب صدور جماعات أخرى كبيرة في إقليمهم.

فكان ما حظي به هؤلاء الحلفاء وراء النزاع في شرق السودان منذ توقيع السلام وإلى يومنا. وهو نزاع بين من حضروا قسمة الاتفاقية وبين من لم يحضروها لمجرد أنهم ليسوا من حلفاء المسلحين الذين فاوضوا الحكومة، بل كان نزاع الشرق هذا هو الذي ذهب بريح الحكومة الانتقالية نفسها حين “ترس” (أقفل) المعترضون ميناء السودان والطرق المؤدية إليها احتجاجاً على “مسار الشرق”. وكان اتفاق السلام نفسه السبب وراء مأساة ولاية النيل الأزرق الأخيرة، التي قتل فيها العشرات. فتمتعت جماعة بالجاه في إدارة الولاية، كانت نالته كطرف في اتفاقية السلام و”مسار ولاية النيل الأزرق” فيها، وأغضب ذلك غيرهم. والتحم الجمعان، وصار إلغاء “اتفاق جوبا للسلام” نفسه مطلباً سياسياً نادت به جهات كثيرة مؤثرة نتيجة للمشكلات العصيبة التي جاءت على أثره.

ولما امتنع مقدم الورقة من الدخول في نقاش مع من أثاروا مأزق اتفاق السلام وفشله، لم تجد الزعزعات السياسة المضرجة التي تولدت عنه طريقها في تقييم أداء الحكومة الانتقالية في ميدان السلام.

على الجهة الأخرى، كانت مناقشة لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو (أي نظام البشير) معرضاً للخصومة. وهذه اللجنة ربما كانت العنوان الرئيس لثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 لاختصاصها باسترداد الأموال المنهوبة من الدولة، وهو المطلب الصميم لذلك الحراك. واتسمت بالهمة في تنفيذ تكليفها كما نصت عليه الوثيقة الدستورية للثورة في أغسطس (آب) 2019. ونالت بالطبع من خصوم الثورة، بل ومن بين بعض أطرافها أيضاً. وأعادت الأسئلة التي تقدم بها المكلفون التعليق على ورقة أحد أعضائها إنتاج كثير من النقد الذي خضعت له اللجنة. فلا تسمع من أفضل المناقشين إلا كلمة عابرة عن أهمية اللجنة بالنسبة للثورة ليشرع في تسديد النقد لأوجه نشاط تلك اللجنة.

هذا من جهة الخصومة التي قلنا إنها في طبيعة صيغة التفاكر متى قامت على ورقة ونقاش على مرأى من جمهور واسع في بيئة عكرة بالخلاف. ومن الجهة الأخرى وقف صاحب ورقة التمكين عند صحة موقف لجنته بوجه كل مأخذ جاء به المعلقون. فإذا صدق صاحب الورقة في تفنيده كان هذا عيباً في اللجنة التي لم تعرف عن نشاطها حتى للأقربين في الحكومة الانتقالية. ومتى صح تفنيد مقدم الورقة لمآخذ المعلقين على اللجنة، ألغت جلسة الحوار حولها نفسها بنفسها.

لم يسلم نقد للجنة التفكيك من تفنيد مقدم الورقة. فاعترض أحدهم على أن اللجنة قامت على قانون موضوعي من دون قانون إجراءات. وقال آخر إن قانونها لم يمر عبر إدارة التشريعات بالنائب العام. وقال ثالث إن اللجنة لم ترتب لقيام شركة قابضة يقوم عليها مهنيون ثقات لتودع فيها الأموال والمنقولات المستردة، وغيرها. واتضح أن الرد على هذه المآخذ لم يكن ليحتاج لسوى إعلام جيد لأداء اللجنة بحياتها إذا صدقنا دفوعات مقدم الورقة. ومتى لم يتم ذلك الإعلام في وقته صح الاستدراك بجلسة مما يعرف بـ”الخلوة” (retreat) التي تتجاذب أطراف مثل أطراف الحكومة الانتقالية الحديث عن مشروعهم وجهاً لوجه وبزمالة قبل أن يذيعوا أمرهم على الملأ في مثل الورشة موضوعنا هنا.

ربما كانت الورقة المقدمة عن أداء وزارة الخارجية خلال فترة الحكومة الانتقالية هي الوحيدة التي حاولت الخروج بالتقييم من صندوق تلك الحكومة، بمعنى آخر أنها حاولت أن ترد إخفاق الحكومة الانتقالية من جهة السياسة الخارجية إلى طبيعة أداء المعارضة للبشير التي صارت حكومة بعد الثورة. فأكثر النقاش في غير هذه الورقة كان عن الإخفاق في حياة “الانتقالية” لا عن ممارسة طويلة سبقتها في معارضة حكومة البشير. فقالت مقدمة الورقة، وزيرة الخارجية الانتقالية، مريم الصادق المهدي، إنهم مثل من تورط بالثورة في وظيفة للحكم لم يستعد لها. فلم تهيئها سنوات المعارضة الطويلة لتتولى وزارة صارت شبحاً لأن النظام القديم وزع على هيئات أخرى، اختصاصات من جوهر شغلها. وزادت الوزيرة بأنها لم تجد أدبيات في نظم الحكم السوداني تعينها في مهمتها التي نقلتها من المعارضة إلى الحكم. واضطرها ذلك النقص لتقريظ كتاب وحيد عن تلك النظم بقلم قيادي في نظام البشير. فلو توقف النقاش عند هذه النقطة التي أثارتها مقدمة الورقة لعرفوا أنهم ربما حاربوا نظاماً لم يكترثوا للتغييرات الكبيرة التي أحدثها في بينة الدولة لثلاثة عقود لأنهم حاكموه دائماً بعدم الشرعية. وما بني على باطل فهو باطل.

وقريب من هذا، حديث مقدم ورقة لجنة التفكيك، الذي قال إنهم بدأوا تعلم فقه تفكيك المال المنهوب في مثل قولك “التدريب خلال الخدمة”. وعدد الخبرات التي رجعوا إليها في هذا الفقه في سائر البلدان وهم في الخدمة. ولو توقف المناقشون عند “أمية” من كلفوهم أخطر مهام الانتقال، وهي تجريد النظام القديم من أسباب القوة، لعرفوا أنهم لم يعززوا اتهامهم الطويل لنظام البشير بالفساد بفقه محاربته حتى اضطروا لتلقيه كفاحاً خلال الخدمة.

ربما كان الاعتذار عن إخفاق الحكومة الانتقالية هو أكبر عناوين ورشة تقييم أداء هذه الحكومة. فقل من لم يعتذر للسودانيين عن هذا الإخفاق مشفوعاً بـ”نحن بشر نخطئ ونصيب”. وتكاد العبارة تلغي الاعتذار نفسه لأن البشر هم من يعتذرون للبشر لأنهم خطاؤون، ولكن على بينة. ونجد من طلب الاعتذار من طاقم “الحرية والتغيير” من فوق منصة أخلاقية بحت في مثل رد الإخفاق إلى أهواء النفوس. ولن ينجي “الحرية والتغيير” ترفع نفوس أهلها عن الهوى في المرة القادمة لها في الحكم كما تأمل بغير إدراك للبنى الاقتصادية والسياسة والثقافية والحوكمية التي من وراء الصراع في مجتمعها وحتى في أوساطها. فأكثر فشلها مردود إلى تغاضيها الطويل عن الاشتباك معرفياً مع هذه البنى وفهمهما بعد سقوط النظام إذا كان لا بد.
الاعتذار، مثل الأمل، ليس استراتيجية مهما حسنت النيات.

بقلم : عبد الله علي إبراهيم ـ أكاديمي وصحافي
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية وتعبر عن راي الكاتب