أحمد فؤاد*

نشأ فن المسرح مع التطور البشري وبداية عصر العمران الواسع والفلسفة في القلب النابض لهذا التغيير الأهم بتاريخ الجنس البشري، في اليونان القديمة، وقد أخذ عباقرة اليونان وشعرائها هذا الضرب من الإبداع إلى قمم غير مسبوقة، بحيث تبدو مقارنتها باحتفالات أو طقوس لحضارات قبلها نوعًا من الجنون.

ومنذ أن قرر الشاب الإغريقي ثسبس الانفصال عن مجموعة تتلو الأناشيد، ليصبح أول ممثل في التاريخ، جاء دور الشاعر التراجيدي إسخيلوس في إضافة ممثل جديد واللجوء للحوار بين الشخصيات، ثم يصل المسرح الإغريقي إلى القمة مع سوفوكليس ويوربيديس وأرسطوفانس، بحيث أصبح فن المسرح عنوان حضارة الإغريق، وهو فن تفاعلي قبل كل شيء، يحتاج لتجهيز من قبل الكاتب والممثل، ويبقى معلقًا على رد فعل الجمهور ومدى رضاه، في ترسيخ راقي لفكرة ديمقراطية أثينا القديمة.

لكن العالم كله يدين إلى الكاتب الإيرلندي العبقري صمويل بيكيت بنقض مفاهيم المسرح التقليدية، والتي ترسخت كفن ومعبر عن الثقافة البشرية وتطورها منذ عهد الإغريق القدامي، وغازل الطبيعة الإنسانية في قرن التغيير الأهم والأعمق بتقديم ما تحتاجه فعلًا، لا ما يقدم لها راضية، وهو ما أصبح مشهورًا اليوم بـ”مسرح العبث”.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وأهوالها الفظيعة التي عايشها بيكيت، وغيره من المثقفين والكتاب، سيطرت السوداوية والكآبة والكوميديا السوداء على أعماله ورواياته، تأثرًا بما لاقته البشرية خلال الحرب، لكن إنجاز بيكيت الأعظم جاء في 1953، حين أخرج لنا رائعته العابرة لكل حدود “في انتظار غودو”.

قدم بيكيت العالم كما هو، العالم دون مساحيق تجميل وأضواء مبهرة، في مسرحية تمتاز بغموض الفكرة وضبابية الشخصيات واهتزازها، وغياب العقدة التقليدية عن العمل الفني، والنهاية المفتوحة غير الحاسمة، والتي بقدر ما تزيح احتمالات السعادة والراحة، فإنها مفتوحة على كل احتمال أيضًا.

بالتأكيد لم تكن تصورات بيكيت عن العبث والضباب وغياب النهايات لتخرج عن ما جرى فيما سماها أصحابها “قمة جدة للأمن والتنمية”، مسخرة هزلية جرت على مسمع من العالم، وكانت فوضاها الحقيقية عند نهايتها تمامًا، فإذا بالقوة العظمى سابقًا، وبأغلب القوى الإقليمية في المنطقة قد اجتمعت، ثم انفضت، ولا يدري أحد ما الذي حصل عليه، أو ما الذي فشل فيه.

ومثل المسرحية العبثية في الخيال، تحمل العديد من لحظات التاريخ عوامل القلق في الواقع الحقيقي، بأكثر من قدرة أطرافها على التحرك السليم، خاصة إذا ما كان دخان الوهم كثيفًا يعمي العيون ويثقل الأقدام ويورث رعشة الأصابع لما تحل ساعة الالتزام والتوقيع.

مليئة هي صفحات التاريخ بتلك مواقف، أطرافها جبانة مأزومة تحركها عوامل ذاتية ضيقة ومتضاربة، ولإنها تتحرك ضد الخط العام لآماني شعوبها وتطلعاتها، فإنها تدخل إلى طاولة الأزمة باحثة ـ مقدمًاـ عن شيئين لا ثالث لهما، الأول موقف يجري تمريره لشعوبها على أنه انتصار سياسي ما، وثانيهما صورة دعائية باهتة، يتشبث بها سدنة إعلام القصور والأجهزة، باعتبارها وزنًا دوليًا للزعيم الملهم، فيلسوف الدنيا والدين.

والأمر كله يصبح أكثر من مسرحية باهتة مبتذلة، لا تستطيع الاستمرار في شباك التذاكر لأكثر من أيام، هو أن تفقد تلك الأطراف هيبتها، وبالتالي تنشل قوتها وتتبعثر دفاترها، وتأتي اللحظة الأخيرة للحكام يوجهون التحية للجمهور على المسرح المنصوب، لكن لا أحد يصفق على هذا الهراء.

بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فقد جاءت خطوة رئيسها جو بايدن إلى جدة لتسحب منه مقدمًا أقوى أوراق تأثيره على الحاكم الفعلي للسعودية محمد بن سلمان، قدم العجوز السبت، لكنه لم يحصل على الأحد.

لم يخرج جو بايدن من السعودية وبحوزته مئات المليارات من الدولارات، كما فعل سابقه اللدود دونالد ترمب، وفشل في انتزاع موافقة جماعية على حلف عسكري ضد الجمهورية الإسلامية، تتحمل خزائن الخليج المكتظة بفوائض النفط الجزء الأضخم من تكاليفه، ثم تتقبل نصيبها من انتقام مدمر ومرعب، عوضًا عن الكيان الصهيوني وحده.

لا السعودية بوضعها العسكري الحالي تستطيع، ثم أن مشيخات الخليج كلها لا ترغب في صراع سيبخرها بلحظاته الأولى، ولا الجيوش العربية الأخرى قادرة على القيام بأدوارها ليطلب منها الانخراط في صراع هي لا تتخيله، في ظل عقيدتها الصدئة حاليًا.

ويبقى كل ما حصلت عليه الإمبراطورية الأميركية الأفلة، هي وعد شفوي من المراهق محمد بن سلمان بزيادة إنتاج النفط إلى أقصى مدى تستطيعه السعودية وحقولها وخطوط إنتاجها، من 11 مليون برميل/يوميًا الآن، إلى 13 مليون برميل، ثم حصد ابن سلمان المقابل الأهم مقدمًا بالزيارة الأميركية، وسمح للطيران الصهيوني بعبور أجواء المملكة، مقابل خروج القوات متعددة الجنسيات من جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، ليسجل كل النقاط الممكنة أمام منافسيه من الأسرة الحاكمة وفي الشارع السعودي.

الأمر المؤكد هو أن الوعد السعودي لواشنطن لا يساوي شيئاً على الإطلاق، فمصلحة الاستقرار السعودي ـ قبل أي عامل آخرـ تقوم على أسعار مرتفعة للنفط تعوض خسائر وعجز السنوات الطويلة الماضية، ومشروع ابن سلمان التحديثي قائم بالكامل على فوائض وعوائد النفط.

ويبقى أكثر ما تجلى في قمة جدة، هو أن الدول التابعة دائمًا وأبدًا للإرادة الأميركية قد بدأت في إدراك أن الموازين العالمية تغيرت، ما لم يتعلمه العرب بالحساب والتحليل رآوه بتجربة تعامل مباشر مع عملاق عجوز، وربما نسمع من أنظمة أخرى لاءات جديدة في وجه الرغبات الأميركية التي لا تتوقف، ولا يهمها سوى ضمان أمن الكيان اللقيط.

* المصدر :موقع العهد الإخباري