قصة “حوار الطرشان” بين أمريكا والصين ولماذا قد يهدد العالم؟
السياسية:
تحولت الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة إلى حرب فعلية، وإن كانت غير مباشرة حتى الآن، ورغم استمرار الحوار بين أمريكا والصين، فإنه “حوار طرشان”، فما الأسباب الحقيقية؟
مجلة National Interest الأمريكية رصدت الإجابة عن السؤال من خلال تحليل بعنوان: “لماذا التعاون بين الولايات المتحدة والصين لا يزال صعب المنال؟”، تناول وجهة نظر واشنطن وبكين والمسافة الشاسعة بينهما على كافة الأصعدة وفي جميع المجالات تقريباً.
فبعد قمة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في أبريل/نيسان الماضي، مع قادة الاتحاد الأوروبي، وصف مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، هذا الحدث بأنَّه “حوار الصم”؛ لأنَّ الرئيس شي تجنّب إلى حد كبير القضية التي أراد نظراؤه الأوروبيون مناقشتها، وهي أوكرانيا. فالصين تدعم روسيا، بينما يقف الغرب بقيادة أمريكا في صف أوكرانيا.
وخلال يونيو/حزيران الجاري، عُقد حوار آخر من نفس النوع عندما شارك وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، ونظيره الصيني، وي فنغي، في “حوار شانغريلا”، وهو مؤتمر سنوي رفيع المستوى في سنغافورة يخص الأمن الإقليمي لمنطقة شرق آسيا. على الرغم من تأكيد أوستن وفنغي أهمية الحوار بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين والعلاقات المستقرة، كان كلٌّ منهما في الغالب يتحدث من منظور مختلف.
الصين وأمريكا تتحدثان كثيراً، ولكن!
وفقاً للقراءات المقتضبة المنشورة من كل جانب. بدت الغاية الأساسية بالنسبة لوي فنغي تتمثَّل في ضرورة توقف واشنطن عن مهاجمة الصين وتلطيخ سمعتها والتدخل في شؤونها الداخلية والإضرار بمصالحها. وفي سياق بعيد عن سلسلة الشكاوى هذه، قال أوستن إنَّ الجانبين بحاجة إلى “إدارة المنافسة بمسؤولية والحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة”. وبناءً عليه، لا يبدو أنَّ اجتماع فنغي وأوستن قد حقق تقدماً كبيراً في تعزيز تفاهم متبادل وتعاون وثيق.
وما يزيد من وضوح الرؤية هو التناقض بين الخطابات العامة اللاحقة التي أدلى بها كلا الوزيرين في المؤتمر وكشفت عن العقليات المختلفة والرؤى المتباينة التي يتبناها كل منهما. ركَّز خطاب أوستن بصورة متوقعة على “قوة الشراكة” وسلَّط الضوء على أهمية شبكة حلفاء وشركاء الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ -التي وصفها بأنَّها “مسرح العمليات ذي الأولوية” للولايات المتحدة و”قلب الاستراتيجية الأمريكية الكبرى”.
حدَّد وزير الدفاع الأمريكي التزاماً مشتركاً بـ”نظام قائم على القواعد الحرة والمفتوحة ومبني على مبادئ الشفافية والمساءلة وحرية الملاحة البحرية والحل السلمي للنزاعات، وتكون فيه جميع الدول حرة في السعي وراء مصالحها دون خوف من العدوان أو الترهيب”. قال أوستن إنَّ “معظم الدول عبر المحيطين الهندي والهادئ تتبنى هذه الرؤية المشتركة”، معرباً عن ارتياحه؛ لأنَّ شبكة الشراكات الأمريكية قد تعمّقت وتعززت من أجل تحقيق تلك الرؤية.
كانت “شمولية” النهج الأمريكي أحد الموضوعات الرئيسية لأوستن في مؤتمر “شانغريلا”، قائلاً إنَّ مستقبل المنطقة “لن تكتبه أي دولة بمفردها، بل كل شعوب منطقة المحيطين الهندي والهادئ”. وبناءً على ذلك، تسعى واشنطن إلى “الاحتواء والتضمين وليس الانشقاق أو تقسيم المنطقة إلى كتل معادية”.
ومع ذلك، كانت الصين نفسها غائبة إلى حد كبير عن هذا الإطار الشامل؛ إذ لم يقر أوستن أن بكين قد تتشارك أي عنصر من عناصر تلك الرؤية التي حدّدها. على العكس من ذلك، كان من البديهي أن يُفهم توصيفه لـ”النظام الحر والمفتوح القائم على القواعد” -مردداً نفس التوصيفات السابقة لمسؤولين أمريكيين آخرين- أنَّه نقيض لما تمثله الصين في المنطقة. في السنوات الأخيرة، اتَّخذ نهج الولايات المتحدة “الأكثر شمولية” شكل تعاون مُوسَّع مع حلفاء وشركاء ومؤسسات إقليمية جديدة وقائمة، غالباً ما تُقصي الصين.
أمريكا الصين المعادن أسلحة أمريكية
على الرغم من تأكيد أوستن أنَّ الولايات المتحدة لا تسعى إلى “مواجهة أو صراع أو حرب باردة جديدة” مع الصين وكرَّر تأكيد إدارة بايدن أنَّها لن تطلب من الدول الأخرى الاختيار بين الولايات المتحدة والصين، قائلاً إنَّ “زملاءنا من دول المحيطين الهندي والهادئ يجب أن يكون لديهم الحرية في اختيار مسارهم الخاص”، لكنه أكَّد الفور أنَّ “هذه المنطقة قد أدلت بالفعل بصوتها بشأن نوع المستقبل الذي تسعى إليه، حيث اختارت مستقبلاً متأصلاً فيه سيادة القانون والتزام عميق بالحرية والانفتاح”.
وعلى الرغم من توجيه أوستن انتقاداً ضمنياً لبكين بسبب “إيمانها القديم بعالم مقسم إلى مناطق نفوذ”، يبدو أنَّ استراتيجية واشنطن الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ تهدف إلى الحفاظ على مجال النفوذ الأمريكي.
بالنظر إلى هذا المشهد، فليس من المستغرب أنَّ يسير خطاب وزير الدفاع الصيني، وي فنغي، في اليوم التالي في اتجاه دحض خطاب نظيره الأمريكي، لويد أوستن. في الواقع، أعلن فنغي صراحةً اختلافه مع أوستن في عدة نقاط وكرَّر تهمة “توجيه الاتهامات وحتى التهديدات إلى الصين من جانب الولايات المتحدة”.
المنافسة أم الصراع؟ هذا هو السؤال
لكن فيما عدا ذلك المنحى، كانت هناك جوانب مدهشة من التوافق بين الخطابين. بينما صوَّر أوستن الصين (في الغالب دون تسميتها) باعتبارها التهديد الرئيسي للمنطقة بسبب الأخطار المحدقة على الحرية والقانون الدولي والسلام والاستقرار، صاغ فنغي التهديد (في الغالب أيضاً دون تسمية الولايات المتحدة) في إطار محاولات “الهيمنة واتباع سياسة القوة والعقوبات الأحادية الجانب”، واستنكر فنغي صراحةً استراتيجية واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، باعتبارها “محاولة لاختطاف دول في منطقتنا واستهداف دولة معينة”. يعكس هذا جزئياً استجابة بكين على استبعادها من الدبلوماسية الإقليمية المتعددة الأطراف لواشنطن.
ومع ذلك، ثمة ملاحظة مثيرة للدهشة، وهي أنَّ عناصر خطاب فنغي تداخلت في جوهرها مع خطاب أوستن، ومن ثمَّ تمثل مجالات محتملة للتفاهم المتبادل وحتى التعاون -إذا استطاع الجانبان تجاوز رفض كل منهما لأسلوب الآخر.
نادراً ما يحدث اعتراف أو حتى اعتبار أنَّ بكين في الواقع تتشارك الكثير من رؤية واشنطن لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. على سبيل المثال، دعم وي فنغي مساعي “السلام والاستقرار والتعددية، وتجنّب الكتل المتنافسة والتعايش السلمي والمساواة في السيادة بين الدول والحل السلمي للنزاعات- وكلها قضايا مطروحة في خطاب أوستن”.
كما ردَّد وزير الدفاع الصيني كلمات نظيره الأمريكي عندما قال إنَّ “المواجهة والانقسام لن يقودنا إلى شيء”. وفيما يتعلق بحرية الملاحة، نفى فنغي تعرضها لـ”أي تهديد” من بكين في بحر الصين الجنوبي؛ لأنَّ اقتصاد الصين يعتمد عليها بشكل حيوي. بالطبع، ينطبق هذا فقط على حرية الملاحة التجارية -وليس العسكرية- وستستمر التفسيرات المتباينة للقانون الدولي في إعاقة التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة والصين بشأن قضايا متعددة. لكن هذا لا ينبغي أن يمنع واشنطن وبكين من استكشاف فرص التعددية الإقليمية التي تتضمن كليهما.
في الواقع، أكَّد مشاركون آخرون رفيعو المستوى في “مؤتمر شانغريلا” على هذا الهدف. جاء خطاب رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، متوافقاً مع خطاب أوستن حول “النظام القائم على القواعد” و”منطقة محيطين حرة ومفتوحة”، ما يعكس جهود طوكيو المستمرة لإعادة تأكيد التحالف الياباني-الأمريكي والمخاوف المشتركة إزاء الصين.
وعلى الرغم من أنَّ كلمة وزير الدفاع الأسترالي، ريتشارد مارليس، أكَّدت أيضاً نفس الأفكار، فإنه أضاف أنَّه “من المنطقي توقع دور أكبر للصين الأكثر قوة في الشؤون الإقليمية والدولية”، وأنَّ “أستراليا لا تشكك في حق أي دولة لتحديث قدراتها العسكرية بما يتوافق مع مصالحها ومواردها”. لم يعكس خطاب أوستن أياً من هذه المفاهيم. على الرغم من تأكيد مارليس على ضرورة أن تتحلّى بكين بضبط النفس في إجراءاتها بالمنطقة، كان يدعو إلى ضرورة تبني الولايات المتحدة وشركائها نهجاً شمولياً يستند إلى إشراك الصين وعدم إقصائها، بدلاً من اعتماد استراتيجية الاحتشاد ضدها.
وبالمثل، شدَّد وزير الدفاع الإندونيسي، فرابوو سوبيانتو، على ضرورة احترام المصالح المشروعة لجمهورية الصين الشعبية ومراعاتها، وذلك بعد تأكيده على حاجة المنطقة إلى “نظام قائم على القواعد”. قال فرابوو سوبيانتو إنَّه “في ضوء حقيقة أنَّ الصينيين كانوا قادة آسيا لآلاف السنين، نحثُّ الجميع على احترام الصعود الشرعي للصين إلى مكانتها العالمية الحالية بوصفها حضارة عظيمة”.
أخيراً، في الخطاب الختامي للمؤتمر، علَّق وزير الدفاع السنغافوري، نغ إنغ هين، على الحرب الروسية-الأوكرانية، التي كانت موضوع نقاش مستتر في العديد من مداولات المؤتمر، قائلاً إنَّ “هذه الحرب بالنسبة للآسيويين ليست صراعاً أيديولوجياً بين الأنظمة الاستبدادية والديمقراطيات”. وأضاف أنَّ “الدول الآسيوية شديدة التنوع والتعددية ولن يكون لدى الكثير منها رغبة الانخراط في معركة مبنية على هذا الأساس”. بدلاً من ذلك، أوضح نغ إنغ هين أنَّ “القضية الأساسية في آسيا تتعلق بالاعتماد المتبادل الذي يشمل الصين؛ لأنَّه نهج أكثر تطوراً ويحقق المنفعة المتبادلة”.
ماذا يقول “حلفاء” واشنطن في آسيا؟
يتضح من ذلك أنَّ سنغافورة -الشريك القوي للولايات المتحدة- تخبر واشنطن أنَّ دول المحيطين الهندي والهادئ غير مرتاحة تماماً لتصوير إدارة بايدن المتكرر للحرب في أوكرانيا بأنَّها منافسة عالمية بين الديمقراطية والاستبداد، وتحذر من جعل ذلك إطاراً لنهج أمريكي في المنطقة يُقصي الصين ويستهدفها. لذا، على الرغم من تسليط وزير الدفاع الأمريكي الضوء على “قوة الشراكة”، فإنَّ حشد هذه القوة يتطلب التعرف على وجهات نظر الشركاء المختلفين.
بالعودة إلى خطاب وزير الدفاع الصيني، وي فنغي، فقد قوَّض أحياناً فاعليته بالعودة إلى ترديد العبارات التقليدية المناهضة الولايات المتحدة والتأكيد على أنَّ الصين “لم تشن حرباً استباقية قط ضد أي دولة أخرى أو تحتل شبراً واحداً من أراضي دولة أخرى”. لكن فنغي اختتم حديثه بملاحظة صحيحة مفادها أنَّ “العلاقة بين الولايات المتحدة والصين تمر بمنعطف حاسم”، وأنَّ “التعاون بين واشنطن وبكين سيكون في نهاية المطاف ضرورياً لتحقيق السلام والازدهار العالميين”.
من ناحية أخرى، بدا أنَّه يحيل عبء الاختيار وتعديل السياسات إلى الجانب الأمريكي، قائلاً: “إذا كنت تريد الحوار، فيجب أن يحدث على أساس الاحترام المتبادل. إذا كنت ترغب في المشاركة، فينبغي لنا السعي من أجل التعايش السلمي. إذا أردت التعاون، يجب علينا تعزيز المنافع المتبادلة والتعاون المربح للجانبين. لكن إذا كنت تريد المواجهة، فسوف نقاتل حتى النهاية”.
اليابان أمريكا الصين روسيا
فيما يتعلق بالنقطة الأخيرة، أصدر فنغي تصريحاً قوياً حول مسألة تايوان، التي شغلت تفكير كلا الجانبين خلال الأشهر الأخيرة. أكَّد فنغي أنَّ بكين “لا تزال تبذل قصارى جهدها بكل إخلاص لتحقيق التوحيد السلمي”. كانت هذه نبرة صينية عادية، لكن فنغي واصل ما وصفته صحيفة صينية رسمية بأنَّه أقوى وأوضح تحذير على الإطلاق وجّهته بكين إلى واشنطن بشأن قضية تايوان، قائلاً: “إذا تجرأ أي شخص على فصل تايوان عن الصين، لن نتردد في القتال. سنحارب مهما كان الثمن وسنقاتل حتى النهاية. هذا هو الخيار الوحيد للصين”.
يتضح جلياً أنَّ بكين تحاول التأكيد على خطوطها الحمراء بشأن قضية تايوان وتحذَّر واشنطن وتايبيه من الاقتراب من تلك الخطوط الحمراء. لكن مثلما وصف فنغي وأوستن دول كلٍّ منهما بأنَّها التهديد الرئيسي للسلام والاستقرار العام في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فقد ألقى كلاهما باللوم على الآخر بشأن التوترات المتصاعدة على مضيق تايوان.
أعاد أوستن التأكيد، في خطابه، على “سياسة الصين الواحدة” التي تتبناها واشنطن، لكنه أشار أيضاً إلى “الضغط المتزايد من بكين”، والذي يتضمن الزيادة المطردة في النشاط العسكري الاستفزازي والمزعزع للاستقرار بالقرب من تايوان. وبناءً عليه، أظهر فنغي وأوستن حيال قضية تايوان -كما هو الحال في معظم القضايا الأخرى- إصرار كلا الجانبين على إلقاء اللوم على بعضهما البعض وانتظار كل طرف للآخر لكي يتولى مسؤولية إصلاح العلاقة.
ثمة حدود واضحة لاحتمالية حدوث تقارب للمصالح والأهداف الأمريكية والصينية في شرق آسيا. لكن إذا استطاعت بكين وواشنطن إدراك تلك المصالح والأهداف والاعتراف بها، فثمة مجالات تداخل؛ حيث توفر “المسؤولية المشتركة والعمل المشترك” فرصاً -وحتى حتمية- للتعددية الإقليمية، التي تشمل الصين والولايات المتحدة.
وفي النهاية، فإن معظم الدول الأخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ تتفق على ذلك وتتوق لرؤية نهج أقل عدائية بين بكين وواشنطن. كان “مؤتمر شانغريلا” فرصة ضائعة في هذا الصدد. لكن لحسن الحظ، فإنَّه ليس الفرصة الأخيرة.
المادة الصحفية نقلت حرفيا وترجمت من موقع عربي بوست