محمد جرادات

السياسية- متابعات:

 

عندما ينطلق الإنسان للقتال والحرب يكون مسكوناً بكل أسباب الغضب. يتحرك للتضحية بنفسه على مذبح ما يعتمل في صدره من رغبة جامحة في قتل عدوه، الذي يستبيح أرضه ويدنس مقدساته ويقتل أهله وينشر الخراب في بلده، ولعدونا الإسرائيلي هنا خصوصية لا يشرك معه فيها أحد؛ فهو استئصالي استيطاني يفرغ أرضنا من شعبنا، ليُسكن فيها القادمين، بلعنة التاريخ وأسطورته، من أصقاع بولندا وأوكرانيا وإثيوبيا ومنهاتن.

في آتون المجابهة مع محتل بهذه المواصفات؛ كيف لمقاوم متحفّز متوقّد بالغضب البركاني الهادر، أن يكون في اللحظة نفسها إنساناً يعطف على الفقراء والمساكين، بل ينقذ العجزة والأطفال والنساء في خضم الحرب في ساح الميدان وهو في أوج النزال؟ّ

هل يأتي ذلك كأثر للمظلومية، أم هو ناتج ثقافي موجه، أو ترشيد دقيق من القيادة؟ أو لعله هدي الرسالة السماوية وهي تلح على المجاهدين بحقن الدماء، حتى وهم في أوج حماستهم، بأن “لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلا عَسِيفًا” “لَا ‏تَغْدِرُوا ‏وَلَا‏ ‏تَغُلُّوا‏ ‏وَلَا‏ ‏تُمَثِّلُوا ‏وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا أَصْحَابَ ‏الصَّوَامِعِ”؟

كانت “يعبد” قبل أيام تنام على لحن حفيف أشجار غابة أم الريحان، وطيف روح الشيخ الراحل إليها من لاذقية سوريا عز الدين القسام، يحيط بالمكان، وعلى بوابة مفرقها خطّ الأطفال اسم ضياء حمارشة لتعلو “آرمة” عبرية تزوّر التاريخ والجغرافيا، وهي تكاد تختنق بالاستيطان، ليوقظها رصاص المحتل من سكون نومها، فيرتقي شهيدان ويصاب العشرات في هجوم دمويّ على صدور الناس المدنيّين، قبل أن يدوّي الانفجار الثأري في بيت ضياء، وكان ضياء عفّ برصاصه في وسط ميدان تل أبيب عن امرأة وأطفالها، وقد وقع الإعلام العبري في سقطة حادّة على الهواء مباشرة، عندما جهرت تلك المرأة بالكشف عن الجانب الآخر في شخصية “الإرهابي” الإنسان، وهو يأمرها بإلحاح أن تغادر المنطقة هي وأطفالها، ثم ظهرت رباطة جأشه وهو يسيطر على الميدان وينتقي خصومه من غلاة المستوطنين.

وفي “رمانة” المسلوبة أرضها لجدار الضم العنصريّ، وزّع صبحي وأسعد ما يملكان من مال على الفقراء، وهما شابّان مقبلان على الحياة في عمرهما الورديّ، ثم انطلقا إلى “المزيرعة” المغتصبة قرب تل الربيع، في طهارة روحية وتزكية نفسية، توقفت عندها الجهات القضائية الإسرائيلية، وجهرت بها نيابة الاحتلال في لائحة الاتهام، المقدمة قبل أيام، لبطليّ عملية مستوطنه إلعاد قرب تل أبيب، وهو ما سبق لنيابة الاحتلال أن رفضت الإشارة إلى مثله في لائحة اتهام الشاب المتوقّد حماسة؛ بلال غانم بطل عملية الحافلة 78 في القدس، وقائلها يقول، “لن نضع ما تحدثت به في لائحة الاتهام، لأننا سنظهر قتلة أطفال وأنتم ملائكة” وذلك بعد أن اعترف بلال بقتل ثلاثة مستوطنين وإصابة العشرات في الحافلة، ولكن بعد أن أنزل من الحافلة بيديه: عجوزين يهوديين وثلاثة من الأطفال!

وهو الباعث النفسي والمحرّك الروحي لذات إنسانية، تتحرّك في الميدان المشتعل بالنار، لتحرق الجانب المادي المتأصل في طينيته والمتداخل مع الذاتية، نحو ما هو طهر الروح ونقاء النفخة الربانية، ولعل ذلك ما دفع الخمسينيّ، الشيخ رياض بدير، أحد مؤسسي الجهاد الإسلامي في طول كرم، إلى بيع سيارته الشخصية قبل عقدين على التمام من الزمن، لشراء سلاح مهاجراً إلى “عش الدبابير” في جنين، هجرته الأخيرة إلى الله، ليقاتل هناك في تلك الملحمة الشهيرة، حتى الرصاصة الأخيرة، ولم يُعثر على جثمانه إلا بعد إزالة ركام مئات البيوت المدمرة، وقد فاضت روحه ويداه تقبضان على السلاح.

نبل المقاومين الأخلاقي في فلسطين والمنطقة، لم يكونا حدثاً شاذاً ولا حوادث مبعثرة، إنما هما نتاج ثقافة رسالية وخلفية نفسية تعجز إزاءها كل محاولات التفسير الغربية المادية، حتى تخالها أحجيّة أو لغزاً يستعصي فك طلاسمه، وهو ما ظهر يوماً في أوج الهجوم العبري الوحشي على لبنان عام 2006، وهو يوقع مئات الشهداء من الأطفال والنساء، لكيان يمتلك التقنيات الدقيقة القادرة على تجنيب المدنيين ويلات الحرب، لو أراد، فيما كانت المقاومة اللبنانية، وبإمكاناتها المحدودة، تحاول جهدها اختيار المواقع العسكرية الإسرائيلية لتدكها باقتدار.

وعند استعراض معظم العمليات الفدائية، يتكشّف ذلك النبل الأخلاقي الخفيّ في بنية المقاوم النفسية، في وقت لا تمتلك فيه المقاومة وشبابها الأدوات القتالية اللازمة لتعديل بنك أهدافهم، ولا يكون هامش اختيارهم واسعاً، ولعل ذلك ما تسبّب، في بعض الأحيان، بسقوط أطفال أو عجزة، في مواجهة عدو يفضّل سياسة الأرض المحروقة، التي قتلت أكثر من 500 طفل في غزة حرب صيف عام 2014.

وفي عمليات عدة للمقاومة، عبّرت وسائل إعلام عبرية عن استغرابها من حماية “الإرهابيين” للأطفال، كما جرى في عملية أبو مطيبق عام 2014، في أوج الحرب الوحشية على غزة، وفي مستوطنة إيتمار عام 2015 ومن نقطة صفر أجهز الفدائيون على المستوطنين وأخلوا أطفالهم الثلاثة، وهو ما تكرر جنوب الخليل في عملية فدائية أخرى.

إنها ثقافة الجندي المصريّ، سليمان خاطر، عام 1985، عندما فتح رشاشه دفاعاً عن نقطة حراسته في سيناء، بعدما سخر منه السياح الصهاينة، ورفضوا التوقّف بعيداً عنها، فأجهز عليهم، ثم وضع سلاحه وبكى وهو يلاعب طفلة كانت معهم، ولم يتركها وحيدة ويهرب، وإن كان ثمن ذلك اعتقاله وتصفيته في زنزانته.

  • المصدر : الميادين نت
  • المادة الصحفية تم نقلها من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع