هل ثمة انفراج سياسي في السودان؟
السياسية:
بعد رفع حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين في الأسبوع الماضي، شهد السودان استئنافاً لتظاهرات في مدن عديدة، في الذكرى الثالثة لجريمة فض اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو (حزيران) 2019، التي يُتهم فيها قادة انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول). بالتزامن مع ذلك، ثمة بدايات واعدة لحراك سياسي في ظل الضغوط الداخلية والخارجية على الانقلابيين، لتهيئة الأجواء للحوار. وبدا ذلك واضحاً في زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية مولي في، الأحد 5 يونيو، وهي زيارة ستستغرق أربعة أيام، إلى جانب تعيين مبعوث أميركي جديد للقرن الأفريقي بدلاً من ديفيد ساترفيلد، هو السفير مايك هامر، فيما تنطلق الأربعاء أولى جلسات الحوار بين المكونات السياسية السودانية في الخرطوم بقيادة الآلية الثلاثية.
ملامح المشهد
المشهد السياسي السوداني العام ينبئ بانفراجة ما، نظراً للتحولات التي حدثت خلال الأيام الماضية. وهي بطبيعة الحال تحولات مهمة، لكن من المجازفة القول إن ثمة إمكانية لانفراجة حقيقية للوضع السوداني المأزوم والانسداد الذي يكتنفه على أكثر من وجه. ففي التقاطعات والأجندات التي تنعكس في هذا الحراك الخارجي نحو السودان، ثمة ما لا يخفى على المراقب بأن أكثر من جهة إقليمية ودولية تتحرز لمصالحها في هذا الحراك. فالولايات المتحدة على الرغم من حرصها على استئناف التطور الديمقراطي في السودان، إلا أنها، لا سيما في هذه الأيام على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية من جهة والصراع في القرن الأفريقي من جهة ثانية، تتحين فرصاً ممكنة لقطع الطريق على روسيا والصين. وفي هذا الصدد، قد يتعين عليها ملاحظة التوازن بين مصالحها وإيجاد صيغة تجمع توليفةً لخيارات ضاغطة على الفاعلين المتحاورين، فيما تحرص دول في الإقليم على ترتيبات ترتبط بقادة الانقلاب. ولا يخفى أن من بين أطراف الآلية الثلاثية من يميل إلى تسوية شبيهة بالتسوية التي تم إنجازها في 17 أغسطس (آب) 2019 والتي أُجيزت بموجبها الوثيقة الدستورية والإعلان السياسي الذي نتجت عنه شراكة في السلطة بين العسكر والمدنيين. وتسوية كهذه اليوم لا شك أنها تعبر، بصورة ما، عن اصطفاف إلى جانب الانقلابيين الذين غدروا مرتين بالمرحلة الانتقالية، مرةً في 3 يونيو 2019، ومرةً في 25 أكتوبر الماضي ولا يزال انقلابهم ماثلاً!
جهود الآلية الثلاثية
لكن، فيما تختبر الآلية الثلاثية جهودها للتسوية مع الضغوط الأميركية والإقليمية، ثمة تغيير اليوم في الكتلة القائدة للحراك الثوري يختلف عما كانت عليه الحال عشية إسقاط الجنرال عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019. ففي حين كان تجمع المهنيين يقود الثورة آنذاك، وهو كان بصورة ما يعكس توجهاً حزبياً، تتولى الحراك الثوري اليوم قيادة لجان المقاومة. وهذه تعبير عن كتلة تاريخية تتشكل عبر هذا الحراك، لكن موقفها اليوم يعبر بوضوح عن رفض مطلق للجلوس في حوار مباشر مع الانقلابيين الذين غدروا مرتين بالثورة، وتضغط لجان المقاومة على القوى السياسية الأخرى، لا سيما قوى الحرية والتغيير للانحياز إلى موقفها الرافض.
حساسية المشهد الرافض للحوار المباشر مع الانقلابيين (والحوار الذي تعتزم الآلية الثلاثية إجراءه الأربعاء هو حوار مباشر) حتى الآن هو الصوت العالي للقوى السياسية الناشطة في الحراك الثوري، لا سيما أن المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير قدم قبل أكثر من أسبوع على لسان وجدي صالح أربعة شروط (تحقق منها اثنان: رفع حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين)، فيما دل مقتل متظاهر يوم الجمعة الماضي على خرق للشرط الثالث وهو وقف العنف، أما الشرط الرابع: إلغاء القرارات الصادرة ضد قرارات لجنة التمكين، فما زال الانقلابيون يرفضونه، بما يمكننا من القول، إنه وفق هذه الشروط التي جاءت في تصريح وجدي صالح لن يشارك المجلس المركزي للحرية والتغيير في جلسات الحوار المباشر الذي تنظمه الآلية الثلاثية في الخرطوم.
هل ثمة اختراق؟
قد يبدو من طول زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركي مولي في للخرطوم، ما يشي بضغوط أميركية كبيرة ربما تفضي إلى اختراق في الوضع المتأزم وقد يتم بموجبه انسحاب البرهان وحميدتي من المشهد على أن تكون هناك وجوه جديدة من الجيش، تقبل بالتفاوض. ففي حال حدوث هذا الاختراق قد تقبل قوى الحرية والتغيير الدخول في الحوار وفق هذا الشرط، لكن هذا في تقديرنا رهن باللقاءات التي ستجريها مع عديد من القوى السياسية الفاعلة في الحراك الثوري، ومنها لجان المقاومة ذات الموقف الواضح الرافض للجلوس مع الانقلابيين، وفي الوقت ذاته هي القوة المحركة للشارع الثوري، والأكثر انخراطاً على نحو لا يمكن أن نصفه معها كجماعة ضغط، بل كقوى سياسية تتشكل وتطرح عديداً من المواقف الثورية، كان آخرها طرح ميثاق عمل سياسي بعنوان “ميثاق سلطة الشعب”.
ووفق هذا التعقيد الذي يعكسه موقف لجان المقاومة، سيكون المخرج بتسوية مع العسكر غير ذي جدوى حتى لو تم إخراجه بتسوية محتملة (وهو أمر غير وارد) مع الموالين للعسكر من الحركات المسلحة والأحزاب والكيانات التي لعبت دوراً في إسقاط حكومة عبدالله حمدوك بانقلاب 25 أكتوبر، مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا الذي يقوده الناظر ترك في شرق السودان.
نتصور أن وضوح المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة في موقفه الثابت من ضرورة تشكيل حكومة مدنية، في ظل مواقف القوى الثورية الرافضة للحوار المباشر من طرف لجان المقاومة والحرية والتغيير (ما لم يكن هناك اختراق نتيجة لضغوط أميركية) سينعكس بلبلةً في مواقف أحزاب كانت ضمن تحالف قوى الحرية والتغيير، وربما نرى استجابات من طرف “حزب الأمة” وبعض الأحزاب للقبول بتسوية ما لترجيح كفة وضع قد يراه المجتمع الدولي مناسباً، خصوصاً تحت ضغط الوقت الذي تم تحديده بيوم 15 يونيو موعداً أخيراً من المجتمع الدولي لاستعادة القطيعة من الانقلابيين ما لم يتم تشكيل حكومة مدنية.
انتظار وترقب
من المهم انتظار نتائج اتصالات مساعدة ويزر الخارجية الأميركية ولقاءاتها سواء لجهة مباحثاتها مع الانقلاببين العسكر، أم نتائج لقاءاتها مع القوى الثورية المؤثرة، لأن ما سيرشح من تلك اللقاءات هو ما ستسفر عنه الأيام المقبلة.
لا يخفى أن الوضع السياسي المسدود يعكس عطب الانقلاب المشؤوم، بل ويأس الانقلابيين من أي قدرة على إدارة مرحلة ما بعد الانقلاب، نتيجة للتفاقم الذي حدث للأوضاع المتأزمة في جوانب حياة السودانيين، إضافة إلى الضغوط الداخلية للثوار عبر التظاهرات التي لم تفتر منذ يوم الانقلاب، والضغوط والقرارات الأميركية التي نتجت عن حدوث الانقلاب وخصوصاً غضب الولايات المتحدة المتفاقم من زيارة نائب مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى موسكو غداة الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي، وصولاً إلى نتائج زيارة الخبير الأممي لحقوق الانسان في السودان أداما دينق الذي زار الخرطوم وأثناء وجوده قُتل متظاهر يوم الجمعة الماضية، مما حدا به إلى الدعوة إلى محاكمة الجناة واتخاذ تدابير ملموسة وشجاعة. كل تلك التداعيات في تقديرنا (إذا ما حدث اختراق) من المهم أن تكون مفيدةً للقوى الثورية بما يدفعها إلى التجاوب مع دعوة الجلوس إلى الحوار. ذلك أن دور المجتمع الدولي في حصار الانقلابيين كان مهماً جداً في ضغوطه التي تملك قرارات فاعلة في محاصرة الانقلابيين، إلى جانب الثوار. فهذا المجتمع الذي يصطف حتى الآن بعنوان عريض مع قوى الثورة السودانية له مطلب مهم لم يتحقق حتى الآن، هو توحد قوى الثورة في جبهة جمهورية واحدة. فتلك الوحدة لو تحققت من طرف القوى الثورية سترجح الضغط الأميركي إلى أقصى مدى وبصورة أكثر فاعلية على الانقلابيين من ناحية، وستجعل الاصطفاف الدولي إلى جانب قوى الثورة ملموساً ومترجماً في قرارات فاعلة من ناحية ثانية.
تكتيكات مكشوفة
الانقلابيون كما تشي تكتيكاتهم المكشوفة يراهنون على عرقلة دائمة لتطور الأوضاع في السودان باتجاه الديمقراطية، لكنهم لا يملكون خيارات تحت ضغط الوقت، كما أنهم يستخدمون فزاعات لحظية متوهمين أن ذلك يمنحهم مزيداً من الوقت، مثل تحريض المجلس الأعلى لنظارات البجا في شرق السودان على تقديم خدمات توهمهم بالقدرة على خلط الأوراق، ما يدفع الناظر ترك إلى الاستجابة لهم بين حين وآخر، فيطلق تصريحات نارية مهددة بإغلاق الميناء والطريق القومي. وهو أعرف الناس أن ذلك غير ممكن في الوضع الحرج الذي يعاني منه الانقلاب. ويبدو شرق السودان الساحة المفضلة لتكتيكات الانقلابيين كما كانت ساحة مفضلة للثورة المضادة، وربما نسمع في الأيام المقبلة جدلاً عاماً مضللاً في شرق السودان حول عمل مايسمى بـ”اللجنة الفنية العليا لتخطيط وتعيين الحدود الإدارية لنظارات القبائل بشرق السودان”، وهي لجنة شكلها حميدتي استجابة لمطالب مجلس ترك في تنفيذ بنود ما سمي بمؤتمر سنكات، ومنها تحديد حدود القبائل هناك. وهذا العمل هو في تقديرنا بمثابة فتنة نائمة ستشغل الناس بضجيجها، وستكون ضمن مخطط الفوضى المحتملة، وهي فوضى قد يجعل منها العسكر سبباً للالتفاف على استحقاق المرحلة الانتقالية. لهذا، من المهم أن يعرف خبير الحدود السوداني معاذ تنقو الذي يتولى رئاسة اللجنة التي تعمل في تحديد الحدود الإدارية بين القبائل في شرق السودان، أن ذلك المشروع، فضلاً عن عدم جدواه، ربما يستدعي نزاعات قديمة على الأرض بين القبائل، إذ لا علاقة لذلك بالصراع السياسي الذي يحدث بين المكونات في شرق السودان سوى أن المنظور السياسي لكيان مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا هو في الحقيقة منظور قبائلي. ومن هنا تنبع الخطورة.
بين اختراق محتمل وغياب واضح لوحدة القوى الثورية السودانية، وانسداد للوضع الانقلابي، يصعب تحديد مآلات الحل السياسي في السودان خلال الأيام المقبلة.
بقلم: محمد جميل أحمد ـ كاتب صحافي من السودان
المصدر: اندبندنت عربية ـ المادة الصحفية تعبر فقط عن رأي الكاتب