الأزمة الروسية الأوكرانية: تداعيات غير منظورة
السياسية:
أولا من الناحية الشكلية للأزمة: وفقاً للقانون الدولي تعد الأزمة “اعتداء روسي” على دولة ذات سيادة، ووفقاً لهذا المعيار تمت إدانة روسيا في الأمم المتحدة، وصوّت على قرار الإدانة معظم دول العالم، وهذا مفهوم من الناحية الشكلية للأزمة.
ثانيا من الناحية الموضوعية للأزمة: ترى روسيا أن أوكرانيا خرقت الاتفاقات التي عقدتها روسيا مع الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية، منذ العام/1990م بشأن حظر تمدد الناتو شرقا، وأن أوكرانيا أصبحت “مهددا استراتيجي للأمن القومي الروسي” من عدة جوانب، منها: التمكين لحضور الناتو عسكريا في المحيط الحدودي لروسيا، وتواجد معامل بيولوجية أوروبية/ أمريكية، وسعي أوكرانيا لبناء قدرات عسكرية مهددة للأمن القومي الروسي.
وبناء على هاتين الزاويتين تبرز مهددات غير منظورة:
حيث ينظر كل طرف للأزمة، ويتعاطى معها عسكرياً وإعلامياً، ويقف المراقبون حيال الأزمة وفقاً للزاوية التي ينظرون من خلالها، وهنا تكمن ملامح الخطورة الاستراتيجية على الأمن العالمي، فمحركات التحولات الدولية وما يتطلبه ذلك من اصطفاف “مبرر شكلياً أو موضوعياً” لأي طرف يقف في ناحية ما من هذه الأزمة، وهذا الواقع أحدث ارتباكاً عميقاً حتى لدى الفاعلين الأساسيين “روسيا والفريق المتوافق معهم”، وفي الجانب الآخر ” أمريكا ومن في قافلتها”، وبينهما وقف العالم عاجزاً من خلال اعتماده على: (الهيئة العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن)، بل وثبت أن هاتين المؤسستين الأمميتين “انتهت صلاحيتهما” ليس باعتبار تقادم الزمن، أو تهالك المؤسسة ذاتها، بل لعدم قدرتها على الوقوف بشكل مستقل عندما وقع النزاع بين طرفين قادرين “ويملكان قدراتهما الذاتية للمواجهة” دون الحاجة لقرارات أممية، بل هي فاشلة حتى في محيط التسويات لملفات العالم النامي “الثالث” كما يطلقون عليه “استعلاءً وعنصرية” والعجز الأممي “ممثلاً في أعلى مؤسسة أممية” أمام هذه الأزمة، نذير خطر على مستقبل الأمن العالمي، وسوف يعود بالعالم ليس إلى أجواء الحرب الباردة، بل إلى مرحلة التنافر فترة ما بين الحربين العالميتين، والأجواء التي نتجت عنها الحرب الثانية، هذا باختصار هو المشهد الدولي الذي يقوده العالم الغربي حالياً في مواجهته لروسيا.
مهددات غير منظورة: في المحيطين الروسي والعالمي:
على المستوى العالمي:
العالم “المراقب” منشغل بمجريات الأحداث والصخب الإعلامي المصاحب، ومحاولة ضبط موقف التوازن “السياسي” من طرفي الأزمة، ولم يدرك بعد أنه “في مرحلة لاحقة” سيكون “جزءا من طقطقة الحب بين مجرشتي الرحى” فيجب أن يدرك “العالم المراقب” أن الأزمات العميقة لا تستوعب “النفاق السياسي” وأن التداعيات المستقبلية لهذه الأزمات تستلزم “موقف القوة” في سياق القرارات الوطنية الشاملة، وأن “القوى الدولية” طرفي النزاع سوف يصلون في النهاية “عسكرياً أو دبلوماسياً” إلى ما يحقق مصالحهم الاستراتيجية، بعيداً عن أية مصلحة “للعالم التابع أو المراقب، والأسوأ قد تنتهي التوافقات “الطوعية او القسرية” بينهم على حساب مصالح العالم التابع، مما يعزز من تبعيته، ويجعله يدفع ثمن سوءات “لا ناقة له فيها ولا جمل” والمتضرر في نهاية الأمر “الشعوب المغلوب على أمرها” .
على المستوى الروسي:
وهذه مسألة تحتاج إلى نظر دقيق، فالحكومة الروسية منشغلة بمكاسب “اعتبرها مرحلية” في مسارين:
الأول: عسكرياً على الأرض، من خلال بسط القوات الروسية نفوذها على مناطق النزاع (شرق وجنوب أوكرانيا)، بغض النظر عن حجم الدمار او الخسائر “المادية والبشرية” والمدى الزمني المطلوب لتحقيق الاستقرار الكامل المؤدي إلى الانتقال إلى المرحلة الروسية الثانية “ما بعد عزل هذه المناطق عن أوكرانيا”.
الثاني: المكاسب الاقتصادية الحالية وتتمثل في ارتفاع سعر صرف “الروبل” مقابل الدولار واليورو، واستخدام الذهب معياراً للتسعير كشرط لبيع “الطاقة الروسية” للخصوم الأوربيين، وما تبع ذلك من رضوخ للشركات الأوربية لفتح حسابات في البنوك الروسية بالعملة المحلية “الروبل”.
هذه المكاسب برأيي “والتي أؤكد على أنها مرحلية” قد تنعكس بشكل سلبي وجذري على روسيا، كذلك في مسارين:
ـ الأول: في المحيط الأوكراني “شعبياً”
حيث أن الانتصار بالقوة العسكرية يخلق شعوراً عدائياً “مخفياً” وقد يجد مغذيات فاعلة تدفعه لأن يكون نشطاً في لحظات معينة “كالبراكين” لا تدري متى تثور، فمعالجة آثار الحرب، أشد وأعمق من ممارسة الحرب ذاتها، وقد يكون النزاع الديني “المسيحي” أحد محركاته، وفي هذا تفصيل “لا محل له هنا من الإعراب”.
ـ الثاني: في المحيط الروسي:
“سياسياً”:
فبعد إغلاق ملفات الأزمة “في سياقها العسكري” سيبرز تحدي حقيقي في بناء نموذج سياسي روسي، ليس لاستثمار المكتسبات “فهذا أمر طبيعي” ولكن في القفز على التوجسات الخارجية “في المحيط الجيوسياسي لروسيا” وثقتهم في النزعة السياسية الروسية لمعالجة ملفات الخلاف.
“اقتصاديا”:
قد تستمر روسيا في الفوز “اقتصادياً” وكسب المزيد مالياً، ولكن هذه الثمرة سريعة الذبول، ولن تتماسك لأكثر من عام ونصف العام، فالعالم الغربي “الأوربي خاصة” أدرك أهمية الاعتماد على الذات الأوربية من جهة، وعلى تنوع مصادر الاحتياجات الاستراتيجية، من جهة أخرى، والتوجس الأوربي ليس فقط باتجاه روسيا بل حتى نحو أمريكا بالنظر في ممارساتها وضغوطها على الأوربيين في تفاصيل هذه الأزمة.
من هنا سيكون “عام 2023” عام الحراك الأمريكي/الغربي، متعدد الاتجاهات ليس فقط للاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية “أوربياً”، بل للتعجيل في عزل الموارد الروسية “على اختلافها” من خلال عدة اتجاهات:
خلق فضاءات اقتصادية منافسة وذات حركة ديناميكية سريعة تعتمد على المحركات السياسية وقوة الآلة الإعلامية الأمريكية بالدرجة الأساس.
العمل على بناء تحالفات “سياسية واقتصادية” ومراجعة شاملة للمنظومات المالية والاقتصادية الغربية؛ لتكون قادرة على قيادة المشهد الدولي “ما بعد الأزمة” وقد يكون هذه الجاهزية هي أحد مؤشرات انتهاء الأزمة.
خلق فضاءات من الفوضى الأمنية “فوضى خلاقة” في مناطق النفوذ والمصالح الروسية، لتعطيل المنافع الاقتصادية، واجتذاب السوق العالمي للمسار الغربي/الأمريكي.
ـ الخلاصة: قد تنجح روسيا، وتحقق مكتسباتها “عسكرياً وسياسياً” في الفضاء الأوكراني.. ولكن التحدي الكبير أمام روسيا:
هل ستنجح في مرحلة ما بعد الأزمة، وهذا الأمر له متطلباته العميقة والشاملة والشاقة، خاصة في القدرة الفاعلة على بناء نظام دولي جديد “سياسي واقتصادي” لا يرسمه المعسكر الغربي لوحده، ولا تنتزعه الصين في مسارها الاقتصادي، وبدون هذا المسار فقد تكون روسيا “الخاسر الأكبر استراتيجياً” وإن كانت الملامح الأولية تُشير إلى حراك روسي/صيني متعدد الأطراف من خلال مجموعة “بريكس” والتداعي لتوسيع فضائه بشركاء جدد ليشمل مساحة واسعة من العالم (جغرافياً ـ ديموغرافياً ـ اقتصادياً ـ وسياسياً)، في خطوات متسارعة، تسابق التحركات الأمريكية/ البريطانية.
بقلم د. ماجد بن عبدالعزيز التركي ـ رئيس مركز الإعلام والدراسات العربية ـ الروسية.
المصدر: روسيا اليوم ـ المادة الصحفية تعبر عن رأي الكاتب