السياسية:

الغرب يفشل في الحصول على إجماع العالم ضد روسيا بسبب تاريخه الطويل من النفاق وازدواجية المعايير

تمرد بين دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا ضد أوروبا وأمريكا، وخريطة واقعية للمصالح مع روسيا والصين

خروج “حلفاء” تاريخيين من التبعية للقرار الأمريكي في الشرق الأوسط ينذر بميلاد حركة “عدم انحياز” جديدة
“ما القيم التي ندافع عنها هنا في أوروبا؟

هل لدينا حزمة واحدة من المعايير التي نتمسك بها، ولا نغيّرها في كل مكان وزمان؟

إذا اكتشفنا أن لدينا مجموعة من القيم نطبقها على أبناء أوروبا، وأخرى نلجأ إليها عندما يتعلق الأمر بالملوّنين وغير الأوروبيين، إذن نحن عنصريون.

وهمجيون أيضاً”.

هكذا بدأ الصحفي البريطاني بيتر أوبورن بثه الغاضب على يوتيوب، وهو يقارن بين رد فعل العالم على جرائم روسيا في أوكرانيا، وتجاهله لعشرات السنين لقمع العرب والمسلمين.

الغزو الروسي لأوكرانيا صدمة لن ينساها الغرب كثيراً.

صحيح هو حدث أوروبي “داخلي”، لكنه يكفي لتغيير العالم، ونظرته إلى “غير الأوروبيين”.

بوتين أدرك ذلك النفاق الغربي واستغله في الهجوم على الغرب وعلى وسائل الإعلام الغربية، التي اعتبرت أن أوكرانيا دولة أوروبية متحضرة ليست مثل العراق وسوريا.

قال بوتين إن الغرب يهتم بالأوكرانيين فقط لأنهم بِيض.

حرب أوكرانيا ليست صراعاً بقدر ما تحولت إلى “مأزق” تاريخي للغرب، يخص القيم والمفاهيم التي “يبيعها” الغرب منذ عقود، على أنها المُثُل الإنسانية الأعلى.

ها هي قوة ليست عربية ولا إسلامية ولا من العالم الثالث تغزو دولة أوروبية.

ومع هذا الغزو عادت إلى وسائل الإعلام الغربية والعالمية وتصريحات السياسيين مصطلحات المقاومة والإرهاب والنازية والمرتزقة.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي دخل هذه اللعبة وهو يحث الأجانب على التوجه إلى السفارات الأوكرانية في جميع أنحاء العالم، والحضور إلى بلاده للدفاع عن “الديمقراطية والقيم الحضارية”.

وردّت روسيا بأن غزوها لأوكرانيا هو مواجهة القومية المتطرفة والنازية الجديدة فيها.

وكان على الشعوب المطحونة شرقاً وغرباً أن تتابع مباراة لا تشجع أياً من طرفيها.

كان على غالبية سكان الكوكب أن يصبحوا “الطرف الثالث” الذي يتابع القتال، لكنه لا ينحاز لطرف.

وكان لكثير من هذه الشعوب أن تغضب من الكيل بمكيالين، وازدواجية الغرب وهو يتجاهل أكثر من مأساة تعصف بشعوب هنا وهناك، ثم يهب منتفضاً “للقيم الحضارية” في أوكرانيا.

غضب الشعب الفلسطيني ليس كرهاً في الشعب الأوكراني؛ بل كفراً بالعدالة الدولية التي تتجزأ عندما يتعلق الأمر بفلسطين.

العقوبات التي أمطرت روسيا بعد أيام من انطلاق الرصاصة الأولى لا تُقارن بأكثر من سبعة عقود من المتاهة الفلسطينية، فيما يقف “العالم الغربي الحر” ضد فرض أية عقوبات على أصدقائه من سارقي الأرض وقاتلي الأطفال في فلسطين.

الغرب حامي القيم الحضارية فتح أبوابه للشعب الأوكراني، وتهافت لاحتضانه مادياً ومعنوياً، وحتى عسكرياً، بينما يشرف على حصار أكثر من مليوني مواطن في قطاع غزة منذ 15 عاماً في شريط بري معزول، يفتقر إلى أدنى مقومات الحياة.

لكن هناك صدمة تلقَّاها الغرب، ويحاول أن يقلل من قيمتها: العالم ليس متحداً في مواجهة روسيا.

هناك من يهز كتفيه بلا اكتراث لمشاهدة صراع لا ناقة له فيه ولا جمل.

والبعض تعامل مع الغرب بشماتة، لأنه ذاق ما يعانيه الأوكرانيون الآن، ولم تهتز شعرة أوروبية لإيقافه.

وهناك من أصبح خارج نطاق الحقول المغناطيسية لأمريكا والناتو، لأن الطرق تقاطعت، والمصالح تناقضت.

في هذا التقرير نرصد ما يجري في المعسكر الثالث، بعيداً عن تحالف الغرب وأوروبا، وعن روسيا وأصدقائها القليلين، ونتعرف على أسباب خروج الكثيرين من حلفاء الغرب التاريخيين في الشرق الأوسط والعالم عن الطاعة، وتبنيهم دائرة مصالح لا تكترث كثيراً بنفاق الغرب وازدواجيته، وأحاديثه التي لم تعد تقنع أحداً عن الديمقراطية والقيم الحضارية.

* العالم ليس على قلب رجل واحد ضد روسيا
كانوا يرددونها مثل النشيد الجماعي طوال الوقت في عواصم الغرب: العالم كله معنا ضد روسيا.

مزاعم في واشنطن والعواصم الأوروبية بأن العالم كان موحداً ضد الغزو الروسي الوحشي وغير المبرر لجارتها، لكن في الواقع، كان الكثيرون في هذا العالم يفضلون البقاء على الهامش في النزاع.

كانت الصين والهند في صفّ روسيا من البداية بسبب “العلاقات الخاصة” مع موسكو، لكن كيف نفسر مواقف دول أخرى كبيرة أو صغيرة، وهي ترفض الاصطفاف الفوري مع الأوركسترا الغربية؟

أفاق الغرب بقيادة أمريكا على هذه الصدمة، ليتساءل ويحلل ويحاول الوصول إلى الحقيقة.

والحقيقة التي سنرصدها في السطور التالية هي الابنة الشرعية لهذه البنية التحتية السياسية الدولية، التي بدأت في أوائل القرن العشرين، وهي تضع دول ما كان يُعرف باسم “العالم الثالث” في تصنيف الدرجة الثانية من سكان العالم، أو بتعبير آخر كان النظام العالمي يضع الدول النامية في “غرفة الانتظار التخيلية للتاريخ”. يوماً ما ستصبحون مثلنا، فاصبروا!

شهدت ولادة “المجتمع الدولي” الكثير من المعايير غير العادلة، والمفاهيم البلاغية الفضفاضة التي قادت إلى كيان فاشل، اسمه عصبة الأمم.

فشلت عصبة الأمم لأسباب عديدة، ليس أقلها أن الولايات المتحدة، وهي من أوائل المؤيدين لنظام جديد للحوكمة الدولية، لم تنضم أبداً إلى المنظمة.

وحتى مع انضمام واشنطن للمشروع التالي، وهو الأمم المتحدة، كان واضحاً منذ البداية أن شعوب العالم ليست على قدم المساواة.

وعندما طرح اليابانيون مشروع قرار يؤكد المساواة بين الدول دون أي تمييز على أساس العرق أو الجنسية، تراجعت واشنطن تواطؤاً مع بريطانيا، التي رأت في الفكرة تهديداً لمشروعها الاستيطاني الذي كان على أشده في أستراليا.

أعطت المنظمات الدولية تأييداً قوياً للإمبريالية الغربية، وفوّضت الدول الأوروبية لتوسيع سيطرتها على مساحات واسعة من الأراضي والشعوب التي تقطنها.

قدمت المستعمرات الإفريقية مئات الآلاف من الجنود، ودعماً اقتصادياً لا يُقدر بثمن لأسيادها الأوروبيين خلال الحرب العالمية الأولى، ومع عودة المحاربين الأفارقة إلى أوطانهم بدأت دعاوى الاستقلال.

رداً على ذلك، جادلت القوى الأوروبية بأن الأفارقة لم يصلوا بعد إلى مستوى الحضارة المطلوب حتى لبدء التفكير في الحكم الذاتي.

المفارقة هي أن الأوروبيين كانوا خارجين لتوهم من أكثر الحروب همجية في التاريخ.

في غضون بضع سنوات، اتضحت الطبيعة ذات المسارين للعالم الذي يتم بناؤه.

أنفقت الولايات المتحدة مليارات الدولارات لإعادة بناء الاقتصادات الأوروبية، بعد الدمار الذي خلّفته الحرب العالمية الثانية، لكنها تجاهلت التزامات الغرب تجاه مستعمراته المنهكة بالنهب والقتل.

هذه الدول التي صنَّفها الغرب من الدرجة الثانية هي التي وضعت الغرب في مكانته العالية، عبر استنزاف ثرواتها البشرية والمعدنية لبناء أوروبا وأمريكا.

ولا يزال دور “العالم الثالث” في الازدهار الأوروبي في العصر الحديث غير معترف به إلى حد كبير.

استعباد البشر من إفريقيا خلق ما نسميه “الغرب”.

هكذا يذهب تقرير Foreign Policy، المنشور في أبريل/نيسان 2022.

حتى عام 1820، كان عدد الأشخاص الذين تم إحضارهم إلى العالم الجديد من إفريقيا أكبر بأربعة أضعاف مما تم جلبه من أوروبا.

وكان عمل هؤلاء الملايين من الأشخاص المستعبدين إنتاج السكر والقطن على نطاق واسع، وتطهير الأراضي، وأداء جميع أنواع العمل بالسخرة، ما جعل المستعمرات الأمريكية مربحة لأوروبا، وجعل ما يسمى بالعالم القديم جديداً وغنياً.

حتى بعد ظهور الهيئات والمؤسسات الدولية ظل الهيكل الحالي للأمم المتحدة يعمل لخدمة المصالح الخاصة لقلة مختارة، من خلال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

* هنا معسكر غير الراغبين في التحالف مع الغرب
ربما تكون الهند هي الأكثر إزعاجاً من بين الممتنعين عن الحشد الغربي لمعاقبة بوتين على غزو أوكرانيا، لكنها ليست وحدها في هذا الموقف.

حتى بعض الحلفاء والعملاء القدامى لأمريكا في آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية يرفضون العقوبات على روسيا أو مجرد انتقادها، كما كتبت مجلة The Economist.

قلة من الدول يمكنها أن ترفض ذلك بطريقة سافرة، كما فعل عمران خان رئيس الوزراء السابق لباكستان، الذي وقّع اتفاقية تجارية مع روسيا عقب تصويت الأمم المتحدة باستنكار الغزو ومطالبة روسيا بالانسحاب.

لكن الكثيرين يمتنعون عن انتقاد أو معاقبة روسيا علانية، بسبب الحوافز التجارية والالتزامات الأيديولوجية والطموحات الاستراتيجية، أو مجرد الخوف.

ظاهرياً، قضت روسيا عدة أسابيع وحيدة في الأمم المتحدة.

كشف الغزو بشكل فاضح الأسس الفاسدة للمنظمة الدولية، وغياب “مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها”، كما ينص الميثاق.

هامش التصويت كان ضئيلاً: 93 وافقوا على فرض العقوبات مقابل 24، وامتناع 58 عن التصويت.

يرى الدبلوماسيون أن التأييد لأوكرانيا في كثير من أنحاء العالم ضعيف، والسبب وراء الامتناع عن التصويت كان انعكاساً لمخاوف مِن أن العقوبات المفروضة على روسيا ترفع أسعار الغذاء والطاقة.

يقول دبلوماسي أوروبي يلخّص وجهة نظرهم: “فيلان يتشاجران، والصغار يدفعون الثمن”.

*اعتراضات على إقحام العالم في مشكلة أوروبية
كثير من الدول داخل معسكر المحايدين أو المعترضين على الحشد ضد روسيا يرون أن الغرب مهووس بإقحام الجميع في صراع أوروبي داخلي، مع التقليل من أهمية أو تجاهل النزاعات وانتهاكات حقوق الإنسان في أماكن أخرى.

من غير المقبول أن تمارس القوى الكبرى هذا التناقض الذاتي لدى التعامل مع مسائل القانون الدولي.

هذا التناقض يرتبط بجريمة أخرى ترتكبها الدول الغنية، وهي إحجامها عن المشاركة في مشروعات ضخمة لصالح الكوكب، مثل الاستثمار في تخفيف تغير المناخ، أو تحسين التوزيع البطيء وغير المتكافئ للقاحات كوفيد-19، وهو ما عبّرت عنه الكثير من الدول.

وفي الأعوام الأخيرة شهدت أروقة الأمم المتحدة ظاهرةً جديدة تنمو على استحياء، وهي أن الكثير من بلدان الجنوب العالمي بدأت تزيد من انتقاداتها للغرب، وبشكل تنسيقي فيما بينها.

هذه البلدان أصبحت تشعر بوحدة وهدف مشترك أكثر مما كان عليه الحال في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

*خريطة جديدة لتحالفات العالم بعد حرب أوكرانيا
استيقظ العالم بعد أزمة أوكرانيا على تشكيل جديد للتحالفات والصداقات والعداوات.

نحن الآن أمام خريطة مختلفة تماماً للعالم ترسمها المشاركة العالمية في العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا.

في ناحية هناك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وسويسرا، ومعها كندا وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا ونيوزيلندا وتايوان وسنغافورة.

بجوار هذا “التحالف” اختار عدد قليل جداً من الدول المشاركة في الحرب الاقتصادية ضد حكومة بوتين.

العديد من أكبر دول العالم، بما في ذلك الصين والهند والبرازيل وبنغلاديش وباكستان وإندونيسيا، وحتى تركيا حليفة الناتو، رفضت الانضمام إلى التحالف ضد روسيا. وقال ممثل وزارة الخارجية الإندونيسية: لن نمضي بصورة عشوائية مع الخطوات التي اتخذتها دولة أخرى.

وأين باقي العالم؟ هذا ما تجيب عنه السطور التالية

*ثورة أمريكا اللاتينية على واشنطن وصندوقها
في ظهيرة باردة، أوائل فبراير/شباط 2022، كان رئيس الأرجنتين ألبرتو فرنانديز يجلس لتناول طعام الغداء في موسكو مع بوتين، بينما احتشدت القوات الروسية لغزو أوكرانيا.

في إشارة إلى صندوق النقد الدولي، قال له السيد فرنانديز “أنا مصمم على أن الأرجنتين يجب أن تتوقف عن الاعتماد على الصندوق والولايات المتحدة، وعليها أن تفتح الطريق أمام البلدان الأخرى، وروسيا لها مكانة مهمة للغاية هناك.

منذ الغزو بذلت روسيا قصارى جهدها لتشجيع هذا الموقف.

وبالفعل أيدت دول أمريكا اللاتينية أول قرارين للأمم المتحدة يدينان روسيا بسبب الحرب، لكن العديد، بما في ذلك البرازيل والمكسيك، أحجموا عن طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان.

وفي إشارة تحريضية ضد واشنطن، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن بعض البلدان “لن تقبل أبداً القرية العالمية تحت قيادة الضابط sheriff الأمريكي”. واستشهد بالأرجنتين والبرازيل والمكسيك من بين دول أخرى، أضاف: “هذه الدول لا تريد أن تكون في موقف يأمرها فيه العم سام بفعل شيء ما ويقولون نعم سيدي”.

الرئيس المكسيكي قال: “لا نعتبر أن هذه الحرب تهمنا، ولن نتخذ أي نوع من الانتقام الاقتصادي، لأننا نريد أن تكون لدينا علاقات جيدة مع جميع الحكومات”.

*إفريقيا لا تنسى 5 قرون من الاستعباد الغربي
وتردد صدى موقف أمريكا اللاتينية في إفريقيا، لكن بصورة تعكس المرارة الإفريقية من عالم الرجل الأبيض، الذي نهب القارة وأفرغها من ثرواتها عبر القرون.

بيير ساني، رئيس معهد Imagine Africa والأمين العام السابق لمنظمة العفو الدولية كان صريحاً: “على مدى خمسة قرون كنا بيادق في أيدي الدول الأوروبية المتحاربة، التي كانت تنهب إفريقيا من مصادرها البشرية والطبيعية”.

في المقابل، دعمت روسيا سياستها تجاه القارة السمراء منذ 2019، تاريخ انعقاد القمة الإفريقية الروسية التي استقطبت 43 زعيماً إفريقياً بمنتجع سوتشي في البحر الأسود، وعززت جهود بيع الأسلحة واستخراج الموارد ودعم الأنظمة المهتزة في القارة.

فلماذا تذهب القارة الجريحة إلى جلّاديها في الغرب وتترك الأيادي الروسية البيضاء، كما يذهب تقرير لمجلة The Economist البريطانية.

امتنع ما يقرب من نصف الدول الإفريقية، 25 من 54 دولة، عن التصويت أو بقي بعيداً عن التصويت الأول للأمم المتحدة.

يجعل تاريخ الاستعمار البعض متردداً في إلقاء الدعم وراء ما يُنظر إليه على أنه قضية غربية، لكن آخرين يتصرفون من منطلق تقارب متزايد مع روسيا. هذا صحيح بالنسبة لجنوب إفريقيا، الدولة الديمقراطية الكبيرة الأخرى التي تتجاهل دعوة الغرب للوحدة، وقد امتنعت عن التصويت في جميع أصوات الأمم المتحدة.

في النصف الجنوبي من إفريقيا، تنظر العديد من الدول إلى روسيا على أنها خليفة الاتحاد السوفييتي، الذي سلَّح ودرَّب جيوش العصابات التي حاربت القوى الاستعمارية وأنظمة الفصل العنصري.

يفسر هذا الحنين جزئياً انحراف جنوب إفريقيا تجاه روسيا خلال رئاسة جاكوب زوما، من 2009 إلى 2018، لكن علاقة جنوب إفريقيا مع الغرب توترت أيضاً بسبب قصف ليبيا.

مرة أخرى تربط وسائل الإعلام الغربية تعاطف إفريقيا مع روسيا بالمصالح المشتركة، فتتحدث مجلة The Economist عن اتساع رقعة النفوذ الروسي من خلال بيع الأسلحة أو إمداد المرتزقة. وقالت إن أسلحة روسية “معروضة” للإيجار في خمس دول إفريقية من أصل 17 دولة امتنعت عن التصويت في أول تصويت للأمم المتحدة: إفريقيا الوسطى ومدغشقر ومالي وموزمبيق والسودان.

*الشرق الأوسط بين الذكريات المريرة ولعبة المصالح
في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتركيا بشكل خاص، ينظرون إلى الاستنفار الغربي لحماية سيادة أوكرانيا على أنه نفاق، وبحث عن مصالح ذاتية، كما تقول The Economist.

يرجع ذلك جزئياً إلى الغزوة الأمريكية على العراق، وقتل مئات الآلاف واستنزاف ثروات البلد.

وقصف الناتو لليبيا في عام 2011، بالتزامن مع الانتفاضة الشعبية على حكم القذافي.

واستقبال معظم اللاجئين العرب على حدود أوروبا بالتجهم والشكوك، مقابل الترحيب الأوروبي الحار باللاجئين الأوكرانيين.

هذه الأنواع من المخاوف تتنامى منذ زمن طويل بين الدول العربية.

وإليكم مثالاً مذهلاً على ما تغيّر كثيراً في المياه بين العرب والغرب: اندهش بعض الدبلوماسيين عندما امتنع سفير العراق لدى الأمم المتحدة عن إدانة الغزو الروسي، مشيراً إلى “الخلفية التاريخية” لبلاده مع الغزو الأمريكي، الذي قد يكون مديناً له بوظيفته.

حتى السعودية والإمارات قررتا أن تكلفة الوقوف مع الغرب أكثر من الفائدة، رغم علاقاتهما الضعيفة فقط مع روسيا.

لا رغبة لديهما في استعداء شريك مهم تعاون مع أوبك لدعم أسعار النفط.

تعتبر مجلة إيكونوميست البريطانية أن حرب أوكرانيا غيّرت الكثير في علاقات الولايات المتحدة بالحلفاء والأصدقاء بمنطقة الشرق الأوسط.

وأصبح تقديم المصلحة الذاتية والحياد نفسه يطغى على علاقات دول المنطقة مع روسيا. فقد صَدمت دولة الإمارات أمريكا بامتناعها عن التصويت لإدانة العمل العسكري الروسي في مجلس الأمن، كما لم يتضمن بيان لجامعة الدول العربية بشأن الحرب أية إشارة إلى روسيا لا من قريب ولا من بعيد.

ويعتبر النفط أحد الأسباب المفسرة لهذا الموقف -بحسب إيكونوميست- حيث تحرص السعودية على الحفاظ على تكتل “أوبك بلس”، وهو تحالف مكون من كبار المنتجين، تعد هي وروسيا أكبره.

أما العامل الآخر فهو السلاح، إذ تعتبر مصر أكبر متلقٍّ للمساعدات العسكرية الأمريكية في المنطقة، لكن الرئيس عبد الفتاح السيسي يسعى إلى تنويع مصادر التسلح، بما في ذلك شراء طائرات مقاتلة روسية.

الدعاية الروسية في المنطقة تغذي المظالم ضد الغرب، هكذا يفسر الإعلام الأوروبي الموقف الجديد للعرب من عواصم الغرب، ويرصد شعبية متزايدة في المنطقة لوسائل الإعلام التي تديرها الدولة في روسيا، مثل الخدمة العربية لشبكة RT أو النسخة التركية من Sputnik.

كما أن وزارة خارجيتها بها كادر من الدبلوماسيين الذين يتحدثون العربية بطلاقة، على عكس نظرائهم الغربيين.

ورغم أن القنوات العربية الكبرى بمراسليها على الأرض في أوكرانيا لا تتوانى عن سرد أهوال الحرب، فإن تغطيتها غالباً ما تتخللها إشارات مؤيدة لروسيا أو مناهضة للغرب.

وتضرب لذلك مثالاً بأن قناة سكاي نيوز عربية، ومقرها في الإمارات، نشرت مقطعاً عن ازدواج معايير الغرب ومحاولاته لشيطنة بوتين.

*أوروبا تكافح “الحروب الظالمة”..هل سمعتم عن فلسطين؟

خدمة العمل الخارجي الأوروبي EEAS هي خدمة دبلوماسية أطلقها الاتحاد الأوروبي عام 2011، “لتعزيز السلام والازدهار والأمن ومصالح الأوروبيين في جميع أنحاء العالم”.

على الصفحة العربية للخدمة، وبعد اندلاع الحرب في أوكرانيا بعدة أسابيع كتب جوزيب بوريل، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، يهاجم روسيا بكل ما أُوتي من قوة.

السياسي الإسباني وجَّه لروسيا عدة اتهامات قاسية، باسم الحق والعدل والفضيلة:

هي قوة نووية هاجمت وغزت دولة مسالمة لم تشكل أي تهديد لها، ولم تستفزها.
هي تهدد أي دولة أخرى قد تهب لنجدة شعب أوكرانيا.
الغزو انتهاك جسيم للقانون الدولي.
تنتهك المبادئ الأساسية للتعايش الإنساني.
تعود بالعالم إلى “قانون الغاب”، حيث القوة تصنع الحق.
تهدد النظام الدولي القائم على القواعد والحقوق المتبادلة.
لا تكترث لمعايير الأمم المتحدة.
عدوانها يودي بحياة الأبرياء.
تقضي على رغبة الناس في العيش بسلام.
تقصف أهدافاً مدنية.
تتسبب في كارثة إنسانية تتفاقم.
بوتين يكذب على كل من يقابله، متظاهراً بالاهتمام بالحل السلمي، وبدلاً من ذلك اختار الحرب كاملة الأركان.
ها هي 12 جريمة ينسبها الدبلوماسي الأوروبي لروسيا، يمكننا ببساطة تغييرها في اتجاه العدو الإسرائيلي، لتجد أنها ارتكبت ما هو أكثر بكثير من هذه الجرائم، بحق الشعوب العربية في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن ومصر وتونس وغيرها.

ويختتم الدبلوماسي الأوروبي مقاله بالدعوة لاتحاد المجتمعات والتحالفات لبناء مستقبلنا على أساس الثقة والعدالة والحرية، فالقوة لا تصنع الحق، ولم ولن تصنعه أبداً.

لكن القوة صنعت “الأمر الواقع” في أرض فلسطين منذ النكبة إلى التوسع في بناء المستوطنات على الأرض العربية، إلى مصادرات حي الشيخ جرّاح بالقدس.

ولم نسمع من بوريل أو من زملائه في الاتحاد الأوروبي ما يمنع الاحتلال الإسرائيلي من مواصلة السرقة، وإفساد حياة الملايين.

لم يطالب بوريل إسرائيل أبداً بتطبيق مبادئ “العدالة والحرية”، لأنها ليست ضمن حقوق العرب، بل ملك فصيلة أخرى من البشر، تضم أوكرانيا، لكنها لم تسمع بفلسطين أو سوريا أو العراق.

*حتى “عهد التميمي” سرقوها لتصبح بطلة أوكرانية
بعد عدة أسابيع من اندلاع الحرب في أوكرانيا تناقل رواد الإنترنت صوراً وفيديوهات تحت عنوان “فتاة أوكرانية تواجه جندياً روسياً في أوكرانيا عام 2022”.

حصدت هذه المواد ملايين المشاهدات، ووقعت بعض المواقع الإخبارية بفخ هذه المعلومات الخاطئة وأعادت نشرها.

إنما في الحقيقة من يظهر في الصور هي عهد التميمي، وتحديداً عام 2012، عندما كانت تبلغ من العمر آنذاك 11 عاماً. هذه الطفلة الجريئة التي واجهت جندي الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية عام 2012، وتحولت إلى رمز للمقاومة الفلسطينية.

حظيت عهد التميمي باهتمام إعلامي واسع عام 2017، عندما اعتقلتها قوات الاحتلال بعد مشاجرة مع جنود صهيانة رفضوا مغادرة منزلها في قرية النبي صالح في الضفة الغربية المحتلة، فقدّمت صفعة لأحد العناصر، وخضعت لحكم بالسجن ثمانية أشهر في سجن الكيان للقاصرين.

*ما القيم التي ندافع عنها في أوروبا؟

هل لدينا حزمة واحدة من المعايير التي نتمسك بها في كل مكان وزمان؟

إذا اكتشفنا أن لدينا مجموعة من القيم نطبقها على أبناء أوروبا، وأخرى نلجأ إليها عندما يتعلق الأمر بالملونين وغير الأوروبيين؟

نحن عنصريون.

وهمجيون أيضاً.

عملت مراسلاً من اليمن 7 سنوات، ورغم أن ما يحدث في أوكرانيا أمر مخيف، فإن الإحصائيات تشير إلى سقوط 230 ألف قتيل تحت وطأة القصف السعودي، والمجاعات وسوء التغذية.

لكن بريطانيا الآن تشارك في العدوان السعودي على الشعب اليمني، ونحن نمدهم بالأسلحة والمشورة العسكرية، بينما تمارس بريطانيا من خلال دورها بالأمم المتحدة مهام التفتيش على انتهاكات القوانين الدولية، والتحقيق في جرائم الحرب.

بعبارة أخرى: نحن من يتظاهر بالدفاع عن القوانين الدولية والإنسانية، ونحن من يتواطأ لانتهاكها.

إنه أمر يتساوى في البربرية والوحشية مع ما يفعله بوتين في أوكرانيا الآن.

وهذا ما يحدث منذ سبع سنوات في اليمن.

ماذا لو حصل الشعب اليمني على 1% من الاهتمام الذي يحظى به الأوكرانيون؟ من المؤكد أن أموراً كثيرة ستتغير في مصير هذا البلد.

بيتر أوبورن
صحفي بريطاني متخصص في العلاقات بين الغرب والإسلام
الصراع أصبح بين أغنياء العالم وفقرائه
خريطة العقوبات الغربية على روسيا تشير إلى أن الصدع الحقيقي ليس بين اليسار واليمين.

ولا حتى بين الشرق والغرب.

على العكس من ذلك، تكشف الخريطة عن شقاق بين الشمال والجنوب.

بين الدول التي نسميها متطورة ومتقدمة، وتلك التي نسميها نامية أو صاعدة.

هذه الخريطة تخبرنا بشيء مهم عن الجغرافيا السياسية في العصر القادم لتعدد الأقطاب.

The Guardian

*هل الحرب الباردة الجديدة فعلاً بين الديمقراطية والاستبداد؟
دفع الصعود السريع للصين إلى توقعات واسعة النطاق، بنشوب نسخة جديدة من الحرب الباردة بين واشنطن وبكين، لكن قليلين توقعوا أن يبدأ فلاديمير بوتين ذلك فجأة.

كتب المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية روبرت غيتس: “لقد أنهى غزو بوتين لأوكرانيا عطلة الأمريكيين التي استمرت 30 عاماً من التاريخ، ووفرت حرب بوتين “الدش البارد” اللازم لإيقاظ الحكومات الديمقراطية على واقع عالم جديد”.

وهكذا اندفعت واشنطن لبناء “تحالف من أجل الديمقراطية تتوحد فيه دول العالم الحر”.

ذلك هو الشعار الذي يريد الغرب أن يصدقه، وأن يفرضه على العالم: “أهلاً بكم في نادي العالم الحر”.

لكن هناك دائماً الاستثناءات المعتادة من خارج فسطاط الدول الديمقراطية: نفط السعودية، على سبيل المثال، يمنح المملكة جواز مرور إلى “العالم الحر”، كما تقول صحيفة The Guardian بلهجة من عدم الرضا.

والآن: كتلة جديدة تظهر للمرة الثانية تحت شعار “عدم الانحياز”
بدأ عصر القطبية الأحادية فور سقوط جدار برلين.

وفي عطلة الثلاثين عاماً الطويلة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي أُعطيت دول العالم خياراً بسيطاً إلى حد ما: إما الاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة، أو الوقوف بمفردها.

سعت بعض الدول إلى التجمع معاً في أعمال مقاومة جماعية لهذه القوة المهيمنة، لكن العواقب كانت حتمية: غزوات وانقلابات وعقوبات واسعة لعزل اقتصاداتها عن العالم بأسره، في إجراءات عقابية لا تكترث إلا بمصالح الغرب.

مع قيام قوى جديدة بتوليد أقطاب جديدة، فإن الخيارات المتاحة للدول المجاورة للولايات المتحدة لم تعد مقتصرة على الامتثال والمقاومة. يظهر الآن هذا الخيار الثالث: الحياد.

في أثناء الحرب الباردة الأولى كان للحياد اسم: عدم الانحياز.

وعندما اشتبكت الولايات المتحدة مع الصين والاتحاد السوفييتي في سماء كوريا عام 1950، تزعمت الهند ويوغسلافيا الانحياز إلى جانب، وقال وقتها وزير خارجية يوغوسلافيا إنه “لا يمكن لشعب يوغوسلافيا قبول الافتراض القائل بأن الإنسانية اليوم لديها خيار واحد فقط؛ الاختيار بين هيمنة كتلة أو أخرى، بل يوجد طريق آخر”.

وُلدت حركة عدم الانحياز بعد ذلك بخمس سنوات، وتوحد أكثر من 100 دولة حول العالم حول مبادئ عدم التدخل والتعايش السلمي.

اليوم، الدول في جميع أنحاء العالم مدعوة مرة أخرى للانحياز بين روسيا والغرب.

وقريباً جداً بين الغرب والصين.

ولكن، كما تشهد خريطة العقوبات، قد يؤدي الضغط المتبادل بين هذه القوى العظمى مرة أخرى إلى إطلاق حركة عدم الانحياز، والمطالبة بتطبيق أكثر عالمية للقانون الدولي ضد مطالب الاستثناء من جانب واحد.

*مازال الغرب يجادل بفكرة الصراع بين الحرية والاستبداد

“بعد سنتين من جائحة كوفيد، وشهور من الحرب في أوكرانيا، اكتشف العالم الاتجاهات التي بدأت تتشكل منذ عدة سنوات: ها هي القوى الاستبدادية وعلى رأسها الصين وروسيا تعمل على تفكيك الهيمنة الأمريكية، لينتشر مفهوم قانون الأقوى على حساب مفهوم الشرعية الدولية”.

بهذه المقدمة كتبت صحيفة لو بوان Le Point الفرنسية تقريراً يسير على النهج الغربي نفسه في تقسيم العالم إلى فسطاطين:

عالم حر، أي الغرب من أستراليا إلى كندا.

وعالم استبدادي، أي بقية دول الكوكب.

يرى الغرب أن العالم بدأ يتغير، ليصبح أكثر عنفاً وصعوبة وأقل استقراراً، منذ أن شنّت روسيا أعنف هجوم عسكري على دولة أوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، ما ألقى بكثير من اللاجئين على الطرق، أكثر مما شهدته القارة القديمة منذ انهيار ألمانيا النازية.

بهذه الحرب -كما يقول الكاتب- اكتسب الانكفاء القومي مدى جديداً، وطفقت عواطف الهوية تغذّي الكراهية تجاه الآخرين، وبدأت العولمة تفقد زخمها، ليدخل الغرب في موقف دفاعي، ويتشكك في قيمه الليبرالية، ويكافح لحماية نموذجه الديمقراطي من الهجمات الداخلية والخارجية، وفي تمويل دولة الرفاهية.

الوحوش الأربعة التي يطاردها الغرب هي بكين وموسكو وطهران وبيونغ يانغ، ويرى التقرير أنها أظهرت قدرتها وعزمها على تعزيز مصالحها على حساب الولايات المتحدة وحلفائها.

ذلك أن الكوكب في قبضة الإعلام الغربي، لا أحد يتحدث عن محور الشر الغربي: كيان العدو الإسرائيلي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.

ويذهب التقرير إلى أن تلاعب واشنطن بالمعلومات حول أسلحة العراق للدمار الشامل لتبرير غزوه عام 2003، قد أسهم بشكل خطير في تدمير مصداقية وكالة المخابرات الأمريكية.

لكن ما لا يعرفه الغرب أن المصداقية الأمريكية والغربية قد سقطت بالنسبة للعرب في العراق 2003، وقبلها وبعدها في فلسطين وسوريا وأفغانستان واليمن، وفي كل مكان ذهب إليه المارينز، أو أسفرت السياسات الأمريكية عن حصار ودماء وخراب.

المصدر: عربي بوست