التراشق بـ”حجارة” منصات التواصل… سلاح اجتياح أم أداة للمقاومة؟
السياسية – متابعات :
منصات التواصل الاجتماعي لم تعد مقتصرة على التواصل الاجتماعي. فهي منصات للاجتياح والغزو وكسر الأمل وزرع الاستسلام. كما أنها منصات للمقاومة والصد وبناء الرجاء والإبقاء على التصدي والمجابهة. وهذا الأمر ليس جديداً. أحداث ما يسمى بـ”الربيع العربي” كانت أول مختبر ومعترك حقيقي لقدرة هذه المنصات الجبارة على اجتياز مرحلة العثور على أصدقاء الثانوية، وتقفي أثر أقران الجامعة، وتبادل النكات، وتقديم واجبات العزاء، ونصائح الطبخ، وقواعد الهجر، وإرشادات البحث عن وظيفة، وعريس وعروس، وسيارة مستعملة وغرفة نوم أنتيك.
أداة تمكين وساحة حرب
في أحداث ما يسمى بـ”الربيع العربي” التي استعرت في عام 2011، بزغ نجم منصات التواصل الاجتماعي باعتبارها أداة تمكين لمن لا مجال لهم للتعبير عن آرائهم ومعاناتهم وطموحاتهم. كل المطلوب شاشة متصلة بالإنترنت وتدوين كلمات أو المشاركة بصور وفيديوهات. أعلنت أحداث “الربيع العربي” دمقرطة المعلومات (بغض النظر عن مصداقيتها أو دقتها أو مصادرها)، إذ باتت متاحة للجميع إرسالاً واستقبالاً.
إرسال واستقبال المعلومات ومشاركتها في زمن السلم شيء، وفي زمن الحرب شيء آخر تماماً. الحرب في سوريا، والقلاقل في العراق، والأزمات في لبنان، والصراع في ليبيا، والمأساة في اليمن وغيرها كثير تشهد على أن الـ”سوشيال ميديا” هي حجارة عصور ما قبل التاريخ، ومدافع الحربين العالميتين الأولى والثانية، وطائرات “أف-22 رابتور” الأميركية و”سوخوي” الروسية الحربية التي تألقت في سماء حروب العصر الحديث، وسلاح رئيس في حروب الألفية الثالثة اتقاداً وانطفاءً، تهييجاً وتهدئة، اجتياحاً ومقاومة.
الـ”سوشيال ميديا” في الحرب الروسية الأوكرانية بمثابة سلاح اجتياح وأداة مقاومة. إنها الحرب الأخرى والصراع الموازي والأرضية التي سيحدد الفائز عليها مصير بقية اللاعبين.
اللاعبون في هذه الحرب الافتراضية الموازية كثيرون. فالشركات نفسها التي تقدم خدمات التواصل الاجتماعي لاعب رئيس، بعيداً من انتماءات أصحابها أو توجهاتهم الأيديولوجية التي تلعب دون شك دوراً آخر بالغ الأهمية.
الأهمية التي اكتسبتها منصات التواصل الاجتماعي كساحة حرب لم تكن يوماً أوضح مما هي عليه حالياً. تشير الباحثة في “مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية” آمنة فايد في ورقة عنوانها “كيف امتدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى العالم الافتراضي؟” إلى أن ما يجري على الفضاء الرقمي حالياً هو حرب معلومات عظيمة يشهدها التاريخ للمرة الأولى، ونتجت عن امتداد دور وسائل الإعلام الرقمية من مجرد أدوات لنقل الأخبار إلى الجماهير وتعزيز التواصل بين الأفراد حول العالم، إلى سلاح سياسي واقتصادي تستخدمه الدول الكبرى في إدارة مواجهاتها مع خصومها، وتشكيل الرأي العام المحلي والعالمي وتوجيهه وفقاً لمصالحها وسياساتها، لا سيما في فترات الصراعات والحروب”.
نظرة سريعة على الحرب الموازية تشير إلى أن الجميع ضالع على أرضها. دول وشركات وأفراد ومنتفعو حروب وكتائب إلكترونية، إضافة إلى الاستادات العامرة بالمشجعين: “فيسبوك” أو “ميتا” و”تويتر” و”تليغرام” و”إنستغرام” و”سنابتشات”، وأداة البحث “غوغل” وغيرها غارق حتى الثمالة في أتون الحرب.
تضخيم وإفراط
روسيا آخذة في تضخيم آلة حربها والمبالغة في أهدافها “الإنسانية” والإفراط في الدق على مصالحها السياسية والأمنية بطريقة. وأوكرانيا ممعنة في البكاء على أوضاعها ولوم الغرب على هجرها والدعاء على روسيا وطلب المعونة بسلاح أو بدولار أو بمقاتلين سابقين أو متطوعين حاليين أو زوار رسميين.
الغرب غارق تماماً، تارة في صب الغضب على روسيا “المتوحشة” غير المحترمة لحقوق الإنسان وسيادة الأوطان وقواعد الديمقراطيات وأخرى في التأرجح بين فرض عقوبات ومصادرة يخوت وأملاك، والتهديد بالعزل والتنديد بالحرب، وثالثة متأرجحة بين التلويح بالعين الحمراء في العلن والتهدئة في الخفاء حرصاً على أنبوب غاز هنا أو مصدر نفط هناك. والولايات المتحدة لا تختلف كثيراً، فهي تسارع نحو إصدار قانون لمنح أوكرانيا مساعدات عسكرية، وفي الوقت نفسه تفادي تصاعد المواجهة مع روسيا. حتى إسرائيل فعين في جنة روسيا والأخرى على نار أوكرانيا. وكل ما سبق من مواقف سياسية رسمية ملتبسة تدور رحاه في منصات التواصل الاجتماعي، سوء من خلال حسابات وصفحات رسمية للساسة والزعماء، أو عبر مقاطع من أخبار يجري تداولها وإعادة نشرها وطرحها للنقاش العنكبوتي الذي ينعكس بشكل أو بآخر على ساحة الحرب الحقيقية.
ساحة متداخلة
ساحة الحرب الحقيقية متداخلة بشكل غير مسبوق مع قرينتها الافتراضية. فهناك زيادة ملحوظة في عدد مقاطع “تيك توك” مثلاً ذات المحتوى المناهض لأوكرانيا والداعم لروسيا بشكل غريب. و”تيك توك” في هذه الحرب سلاح بالغ التأثير في ظل قاعدة مستخدمين يتجاوز عددها مليار شخص أكثر من نصفهم دون سن الـ30. وهذه الفئة العمرية يشيع بينها استقاء الأخبار، وبينها أخبار الصراع، من هذه المنصة تحديداً.
قبل أسابيع قليلة، حذرت دراسة صادرة عن شركة “نيوز غارد” المتخصصة في تقييم مصداقية الأخبار والمعلومات العنكبوتية من احتواء “تيك توك” على قدر هائل من المحتوى المشكوك في مصداقيته في شأن حرب روسيا في أوكرانيا. وجاء في الدراسة أن المحتوى يقف وراءه أفراد أو جهات تنشئ حسابات جديدة تنقل “أخباراً” متعاطفة مع أوكرانيا أو روسيا وتنتشر بسرعة غريبة وتصبح على رأس قائمة النتائج لدى البحث عن أخبار الحرب.
“الأخبار” المتعاطفة تتراوح بين مقاطع إسقاط مقاتلات روسية في أوكرانيا اتضح أنها مأخوذة من لعبة فيديو، وكذلك وجود أسلحة بيولوجية أميركية في أوكرانيا، حيث حكومة نازية نصبها الغرب في لعبة انتخابية، وغيرها كثير.
ومع الحسابات التي يجري فتحها ثم تتدفق منها أنهار “الأخبار” والمقاطع، تتواتر كذلك معلومات مجهولة المصادر عن فظائع حرب يرتكبها جنود روس، ثم صور غير موثقة لجنود روس يقدمون يد العون الإنساني لنساء ومسنين أوكرانيين، والنزال العنكبوتي لا يتوقف أو يعرف الهدنة، أو حتى يأخذ قسطاً من الراحة من طرفي النزاع أو ما ومن يمثلهما.
تشير الباحثة آمنة فايد إلى أن هذه الحملات على الجبهتين المتناحرتين يرتبط بهدفين رئيسين: الأول ترويج كل جانب لسرديته الخاصة في شأن دوافع الحرب وأسبابها لحشد التعاطف والدعم المحلي والعالمي تجاه قضيته، كنشر المنصات الإعلامية الروسية سرديتها الخاصة بشأن سيطرة النازيين الجدد على الحكم في أوكرانيا، وهو ما يتعارض منطقياً مع كون الرئيس الأوكراني يهودي الديانة.
والثاني، التأثير على الحالة النفسية، سواء بالنسبة للجهة الناشرة لشحذ همة شعبها وقواتها العسكرية، أو بالنسبة للخصم لإضعاف روحه القتالية والدفاعية ودفعه للاستسلام”. هذا فضلاً عن نشر أعداد القتلى والمصابين وحجم الخسائر الإنسانية التي من الصعب التحقق منها، والتي طالما استخدمت كأداة للتأثير على الحالة النفسية لطرفي أي الصراع، لا سيما الطرف الأكثر سيادة على الأرض.
اتخاذ ما يلزم ولا يضر
أرض المعركة في مدن أوكرانيا وضواحيها، وفي الكرملين، وفي دوائر صناعة القرار حول العالم، حيث اتخاذ ما يلزم ولا يضر، تقف على قدم المساواة مع أرض المعركة الافتراضية. كلاهما يغذي الآخر، وكلاهما ينتفع من الآخر، وكلاهما يحاول تفادي الضرر الواقع عليه من الآخر.
وسواء أوقفت الشركة المالكة لـ”تيك توك” البث الحي لها في روسيا أو بذلت قدراً أكبر من الجهد للتدقيق في المقاطع الكاذبة أو المروجة لبروباغندا الدولة هنا أو هناك، أو أسهمت في حجب الأخبار الخارجية وحالت دون وصولها إلى المواطنين الروس “حماية لهم من الكذب والتضليل” أو لم تفعل، فإن ما يجري على أرض المعركة الموازية يؤكد أن منصات التواصل الاجتماعي طرف فاعل، وليس مؤثراً فقط في ما يجري في أوكرانيا.
وما يجري في أوكرانيا تعدى مرحلة “ملائكية” منصات التواصل الاجتماعي التي انتشرت إبان أحداث “الربيع العربي” باعتبارها منصة أفلاطونية تمكن البسطاء وتقوي الضعفاء وتنظم الثوار الشرفاء وتلتف على الظالمين الباغين وكفى. هذه المنصات ليست خيراً مطلقاً شأنها شأن أي مبتكر بشري آخر. الغالبية العظمى من حكومات الدول الغربية ومؤسساتها، لا سيما الإعلامية تقول إنها ترى في منصات التواصل الاجتماعي سلاحاً معلوماتياً رائعاً للأوكرانيين في حربهم الدفاعية وذخيرة فعالة في مقاومتهم المقدسة.
وقفة صامتة في العاصمة الأوكرانية كييف بعربات الأطفال التي ترمز للأطفال الذين قتلوا في الغارات الروسية، طفلة أوكرانية محتمية بملجأ تحت الأرض تغني أغنية “دعها تذهب” Let it go.
شابة أوكرانية تعزف على البيانو وسط الحطام، مسن أوكراني ينظر بأسى إلى بيته المنهار وهو يقف وحيداً شريداً، طفل بملابس متسخة وعينين زائغتين يحتضن جروه الذي لا يقل عنه بؤساً وينظر إلى الكاميرا ولسان حاله يقول “هل أنت راض أيها العالم؟” وغيرها من الصور والمقاطع التي تصل إلى القلوب مباشرة محققة مليارات المشاهدات والمشاركات، حيث المقطع أو الصورة الواحدة أبلغ من ألف نشرة أخبار أو فقرة تحليل. كما أن المحتوى المفعم بالمآسي الإنسانية عادة لا يترك متسعاً لجدليات مثل جدوى الحرب أو أسبابها أو أهدافها، وذلك عكس أجواء الغزو الأميركي لأفغانستان مثلاً أو العراق، حيث غابت تلك المشاهد، لأنه لم تكن هناك منصات تواصل اجتماعي والموجود منها لم يكن منتشراً بالشكل الراهن. فهي حالياً تشبه الذخيرة ومثل السلاح.
مثل السلاح
“مثل السلاح: الأوكرانيون يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي لتحريك المقاومة” عنوان مقال كتبه ميغان سبسيا في صحيفة “واشنطن بوست” 22 مارس (آذار) 2022، جاء فيه أن “منصات التواصل الاجتماعي لطالما كانت مكاناً ينظم فيه النشطاء الأخبار ويتشاركونها، فضلاً عن كونها مكاناً لتجنيد المقاتلين ونشر المعلومات المضللة. في هذه الحرب، ساعد انتشار الصور التي تُظهر الخسائر البشرية في أوكرانيا على إبراز صورة لدولة من الناجين الأقوياء ممن يتمتعون بمنظومة أخلاقية قوية، بينما تصور روسيا كمعتد لا يرحم، وهو الانطباع الذي عززته الإدانات والعقوبات المفروضة على روسيا”.
وهذا لا يعني إلا أن منصات التواصل الاجتماعي (إضافة لأدوارها الملائكية القديمة) يمكنها أن تلعب أدواراً سياسية وأمنية وحربية لا تقل ضراوة وشراسة وأهمية عن منصات الواقع.
في فترة زمنية قصيرة جداً أصبح عدد محدود من خبراء التكنولوجيا الرقمية أقوى شخصيات سياسية وحربية على وجه المعمورة. هم تقنيون ولكن بدرجة ساسة وعسكريين. في كتاب عنوانه “لماذا أصبحت منصات التواصل الاجتماعي السلاح الجديد في حالات الحرب؟” (2019) يشير المؤلفان بيتر سينغر وإمرسون بروكينغ إلى أن منصات مثل “فيسبوك” و”تويتر” و”إنستغرام” و”تيك توك” وغيرها لم تعد فقط الجهاز العصبي للعالم الحديث، بل أصبحت ساحة المعارك التي يشهدها العالم. يتصارع فيها المتصارعون على كل شيء، بدءاً بالحملات الانتخابية، مروراً بتغيير الأنظمة وانتهاء بالعمليات العسكرية والتسويق للحروب.
تسويق الحرب لا يقل أهمية عن الحرب نفسها. ويتعرض الكتاب لتسويق “داعش” على متن منصات التواصل الاجتماعي، وهو التسويق الذي حولها من جماعة قوامها ألف مسلح يستخدمون شاحنات صغيرة وأسلحة مستعملة، إلى جماعة يخشاها العالم أجمع. “فعلوا شيئاً جديداً. بدلاً من إبقاء تحركاتهم سراً، غردوا عن تحركاتهم واستخدموا “هاشتاغ” مثيراً هو (كل العيون على داعش) AllEyesOnISIS لتوحيد دعايتهم وبثها. واستخدموا الشبكة الضخمة من المؤيدين المتحمسين لفكرة الدولة الإسلامية، وأدى ذلك إلى نجاحهم في نشر الخوف وظهروا وكأنهم يتمتعون بقوى خارقة”.
سجلت “داعش” مقاطع فيديو دعائية امتزج فيها الواقع بالكذب، وضمنوها في رسائلهم المختلفة عبر منصات التواصل الاجتماعي حتى أصبحت مصدر إلهام لكثيرين قابعين في بيوتهم. وكانت النتيجة نجاحهم في تجنيد نحو 30 ألف مقاتل، ليس فقط من دول الشرق الأوسط بل من بقية أنحاء العالم.
وإذا كان ظهور “داعش” اتسم بالفجائية، فإن التوتر بين روسيا وأوكرانيا لم يكن فجائياً، بل سبقته سنوات طويلة من الاحتقان والشحن والشحن المضاد. جانب كبير من هذا الشحن دارت رحاه على منصات التواصل الاجتماعي على مدار السنوات القليلة الماضية، وتحديداً منذ أحداث عام 2014، وسيطرة المتمردين الانفصاليين على مساحات شاسعة في دونتيسك ولوهانسك، وإعلان تأسيس جمهوريتي دونتيسك ولوهانسك الشعبيتين واعتراف موسكو بهما. امتلأت منصات التواصل الاجتماعي حينئذ بقدر هائل من المعلومات نعتها البعض بـ”المضللة”، وأدت بدورها إلى نشر الارتباك وزعزعة الاستقرار في أوكرانيا، وهو ما دفع الأخيرة إلى النهج نفسه على منصات التواصل الاجتماعي على سبيل الدفاع والمقاومة. وتشير كتابات وأوراق بحثية عدة إلى أثر التواصل الاجتماعي في الإبقاء على الوضع مستعراً بين روسيا وأوكرانيا عنكبوتياً إلى أن استعرت الأرض كذلك حرباً بالأسلحة الثقيلة والأثير حرباً بالتغريدات والفيديو والصور.
يقول سينغر وبروكينغ في كتابهما عن تحول منصات التواصل الاجتماعي إلى السلاح الجديد في الحروب، “إننا جميعاً صرنا أهداف هذه الحروب. ونحن الذين تحدد نقراتهم أي الطرفين يخرج منتصراً”.
في تلك الأثناء، يستمر 4،62 مليار شخص (تعداد مستخدمي التواصل الاجتماعي في العالم) في الدق على الـ”لايك” و”الشير” ناهيك عن صناعة المحتوى وتحديد مسار الحرب والجلوس على منصة لجنة تحكيم الحرب جنباً إلى جنب مع صناع القرار وأصحاب مصانع الأسلحة وقوى الاجتياح وجهود المقاومة.
* المصدر : وكالة شفقنا العربي – أمينة خيري