الجرائم الاميركية الموثّقة.. من العراق الى العالم
عادل الجبوري*
في مثل هذه الأيام قبل تسعة عشر عامًا، كانت مظاهر الفوضى والاضطراب تعم كل أنحاء العراق، بعد أقل من شهر على الغزو والاحتلال الأميركي للبلاد، الذي جاء تحت يافطة اسقاط النظام الديكتاتوري واقامة “نظام ديمقراطي تسوده العدالة والحرية والازدهار الاقتصادي والتقدم العلمي والرفاه الاجتماعي”.
وكان واضحًا وجليًا منذ البداية بالنسبة للكثيرين أن الهدف الحقيقي للولايات المتحدة الأميركية، لم يكن اقامة نظام ديمقراطي بقدر ما كان يتمثل بادخال البلاد في دوامة المشاكل والازمات والتخلف والفساد والعنف والارهاب، الذي لاحت اولى بوادره وملامحه بفتح الباب واسعًا على مصراعيه لتدمير وتخريب ونهب مؤسسات الدولة وممتلكاتها، عدا استثناءات قليلة جدًا وفقًا لحسابات ومصالح واشنطن الخاصة. موجات النهب والسلب والتخريب والتدمير التي طالت مختلف مؤسسات ومفاصل الدولة تحت مرأى ومسمع القوات الاميركية، ربما لم تكن مسبوقة، وهي التي مهدت وهيأت الارضيات للمزيد من المآسي والكوارث التي كان العراقيون يتطلعون للخلاص منها بعد زوال نظام صدام.
ولأن الجنرال المتقاعد جاي غارنر لم ينجح بأداء المهام الموكلة اليه بالشكل والمستوى المطلوب، لذا تم اعفاؤه من منصب الحاكم المؤقت في العراق، بعد شهر واحد من توليه المنصب، وتكليف السفير بول بريمر بذلك، تحت عنوان رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة (CPI) أو الحاكم المدني، لتشهد الفترة التي قضاها في العراق والبالغة حوالي عام واحد، تفاقم المشاكل والأزمات الأمنية والسياسية والاجتماعية، والتأسيس لنظام سياسي مشوه قائم على معادلات طائفية مقيتة حافلة بالألغام الموقوتة القابلة للانفجار في أي لحظة، وذلك ما تبدّى جليًا في الأعوام اللاحقة، وما زال معظم -ان لم يكن جميع- العراقيين يدفعون ثمنه ويعانون من تبعاته واستحقاقاته الكارثية المؤلمة.
وفي كتابه المعنون (عامي في العراق)، أورد بريمر الكثير من الأرقام والحقائق التي كانت بمثابة اعترافات دامغة بأخطاء السياسة الأميركية حيال العراق، وبأخطائه هو على وجه الخصوص، إلى جانب احتواء ذلك الكتاب – المذكرات، على كمّ كبير من المغالطات، ناهيك عن التقييمات السلبية الخاطئة عن قصد أو دون قصد لبعض الشخوص والوقائع والأحداث.
ولأن المقدمات الخاطئة لا يمكن أن تفضي إلا إلى نتائج خاطئة، فقد كان من الطبيعي جدًا أن يؤدي الأداء السيئ لبريمر وسياسات حكومة بلاده المتهورة والعدوانية والتدميرية إلى المزيد من الكوارث في بلد عانى على امتداد عقود من الزمن من الحروب العبثية، والاضطرابات الداخلية، وتسلط الأنظمة الديكتاتورية الاستبدادية، التي لم تكن الولايات المتحدة الأميركية وعدد من القوى الدولية الغربية والأطراف الاقليمية والعربية بعيدة عن ايجادها وتغذيتها وتكريسها.
ولا شك أن العراق في واقعه العام، يعد مثالًا ونموذجًا من أمثلة ونماذج عديدة لانعكاسات وافرازات السياسات الاميركية، وهناك بلدان أخرى على شاكلته في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية، ففي تقرير نشرته مؤخرًا صحيفة (ميدل ايست اونلاين) البريطانية الالكترونية، وردت أرقام وحقائق مؤلمة عما اقترفته واشنطن على مدى العقدين الماضيين من مجازر وجرائم في مختلف بقاع العالم، تسببت بسقوط أعداد هائلة من الضحايا المدنيين الى جانب الدمار المادي والاثار النفسية الكبيرة.
ويشير التقرير الى “ان الولايات المتحدة شنت آلاف الغارات وقتلت عشرات الالاف من المدنيين بطائراتها المسّيرة في العراق وسوريا وليبيا واليمن وسط صمت عالمي، وهو ما يتناقض مع التباكي الغربي الحاصل الان على المدنيين في اوكرانيا”. ويؤكد التقرير “ان الولايات المتحدة وعلى مدى العقدين الماضيين كانت تشن حربًا غير معلنة في معظم أنحاء العالم، وتستخدم قوات بالوكالة من إفريقيا إلى آسيا، وتنشر قوات كوماندوز من الفلبين إلى دولة بوركينا فاسو الواقعة في غرب إفريقيا، وتشن ضربات جوية ليس فقط في ليبيا، ولكن في أفغانستان والعراق وباكستان والصومال وسوريا واليمن، ومع ذلك فإن مقتل المدنيين نتيجة الجرائم الامريكية يقابل بصمت عالمي مخيب”.
والملفت في الأمر أن مسؤولين أميركيين كبار يعترفون ويقرون بتلك الجرائم، فالرئيس السابق للاستهداف عالي القيمة في وزراة الحرب (البنتاغون)، مارك جارلاسكو، يعترف قائلا إنه “بدون اصلاح وزارة “الدفاع” الاميركية لسياسة الاستهداف فإن مقتل المدنيين سيستمر نتيجة الغارات الجوية، اذ إن لدى الجيش الأميركي مشكلة استهداف منهجية ستستمر في خسارة أرواح المدنيين، وهي ليست أحداثاً منفصلة، إنها أعراض لمشاكل أكبر، مثل الافتقار إلى التحقيقات المناسبة، ومنهجية خاطئة لتقدير الأضرار الجانبية، والاعتماد المفرط على المعلومات الاستخبارية دون النظر إلى البيانات مفتوحة المصدر، وسياسة لا تعترف بافتراض الوضع المدني”.
وهذا ما وجدنا ولمسنا مصاديقه في الكثير من المرات في العراق، بدءًا من مجزرة ساحة النسور وسط بغداد التي ارتكبها عناصر من شركة بلاك ووتر الامنية الاميركية في ايلول-سبتمبر من عام 2007 وراح ضحيتها عدد غير قليل من المدنيين، مرورًا بجرائم مختلفة طالت المدنيين وقوات الجيش والشرطة والحشد الشعبي. والأمر يسري على سوريا وافغانستان والصومال واليمن وبلدان اخرى، حيث يورد تقرير الصحيفة البريطانية المذكورة معلومات في هذا السياق، ويشير على سبيل المثال لا الحصر الى “أن غارة جوية أمريكية عام 2019 في مدينة الباغوز في سوريا، قتلت ما يصل إلى 64 مدنيا، وتم حجب الجريمة والتستر عليها، فيما كشف اكثر من 1300 تقرير عن سقوط ضحايا مدنيين في العراق وسوريا”.
ولم يبتعد موقع (اوراسيا نيوز)، عما جاء في تقرير (ميدل ايست اونلاين)، بقوله في اطار طرح رؤيته للمشهد العالمي “مثل هذا النظام الذي تقوده امريكا، شهد ظهور مفاهيم، مثل التدخل المسلح وتغيير الانظمة وانتهاك سيادة دول مثل أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا بذريعة الدفاع الوقائي أو بناء الدولة والأمة، ولم تكن نتيجة احتلال هذه الدول سوى تثبيت الفوضى والقتل الوحشي، وان النظام العالمي على الطريقة الامريكية لم يكن دوليا ولا ليبراليا، بل مهد الطريق لحروب لا نهاية لها في الدول الغنية بالنفط، أو عدوان اقتصادي وعقوبات ضد دول صاعدة مثل الصين والهند وروسيا وايران، وبالطبع، تهدف هذه الهجمات إلى ضمان بقاء هذا النظام العالمي الأمريكي المتدهور من خلال خلق اضطرابات اقتصادية”.
وهناك الكثير الكثير مما قيل ويقال عن سياسات واشنطن، وستبقى الملفات مفتوحة ما دامت الأهداف قائمة، لنزعات العدوانية مستفحلة، سواء تجاه العراق أو غيره من البلدان.
* المصدر :موقع العهد الإخباري
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع